بعد أحد عشر عاما من ثورة يناير المجيدة، والربيع العربي المجيد، أسأل نفسي هذا السؤال: هل يجب أن أندم على الثورة؟ هل لو عاد بي الزمان ستكون خياراتي هي نفس الخيارات؟
بداية، ليس هذا مقالا أكاديميا، ولا ورقة بحثية، ولكنه اعتراف ذاتي وشخصي، وتجربة عقد طويل من المكابدة والتعلم، خلاصة لحظات الظفر، ولحظات أطول من المعاناة والألم.
حين هرب الرئيس التونسي، زين العابدين بن علي، هزتني المفاجأة، لم أكن أتخيل أن ثمة نظام عربي بهذه الهشاشة، كنتُ جاهلا بطبيعة الدولة التونسية، وتاريخها، وتوازنات القوى فيها، لكنّى – من بعيد – كنتُ أعلم نهجها القمعي ومنظومتها الأمنية المتمرسة في العصف بالمعارضين، لذلك بدا هروب الديكتاتور مشهدا ملهما إلى أقصى حد، ومع هذا؛ وأنا أتوجه مع صديق يوم 27 يناير لاجتماع تحضيري بخصوص اليوم التالي، جمعة الغضب، كنتُ أتناقش معه هل من الممكن تكرار ما حصل في تونس؟ لم أكن واثقا على الإطلاق، لكنّ الأمر بدا لي أنه يستحق المحاولة على أية حال.
بعد ساعات قليلة، أدركتُ كم هي ضعيفة وهشة هذه الأنظمة طالما حرمت من شرعية شعبية. قوات الأمن يمكن أن تحميها لكن إلى حدود. واليوم، بعد أحد عشر عاما، بتُ أكثر إدراكا لهشاشة الأنظمة العربية، وعمق أزمتها، ليس هذا ادعاء للحكمة بأثر رجعي؛ على العكس تماما، هذا اعتراف لا يحمل أي لبس بأي ساذج كنته يوم 28 يناير 2011، وأنا أشاهد بعيني انهيار منظومة الأمن التي كانت تحمل نظام “مبارك”، والتي بدت لي في ذلك الحين أبدية وسرمدية لا يمكن تصور هزيمتها بمظاهرات شعبية مدنية.، السذاجة أحد أوجهها أني ظننت في ذلك الوقت أن المئات من الشهداء الذي قتلوا في أيام الثورة هو ثمن باهظ للتخلص من الاستبداد، ظننتُ أن ذلك “التوحش” هو أقصى ما يمكن أن تبذله الدولة في الدفاع عن نفسها، لاحقا؛ في سوريا، كما في ليبيا واليمن ورابعة، أظهرت الدولة العربية قدرتها الحقيقة على التوحش، وعلى العصف بأحلام وأجساد المواطنين.
اليوم؛ في نقاشات كثيرة مع الأصدقاء، نقول على سبيل التهكم، وربما الندم، أننا نود العودة لما قبل 2011، ربما سيكون هذا كافيا للجميع، لنا وللدولة، لكن، إذا كنتُ قد نزلت الشارع وأنا غير واثق تماما من إمكانية إسقاط “مبارك”، فاليوم، وأنا غير قادر على النزول للشارع، بل ولا حتى العودة إلى مصر، فإن الندم هو آخر ما يمكن أن أحمله تجاه 25 يناير.
الحقيقة؛ هي أن ما أحمله للثورة لا يمكن وصفه إلا بـ “الولاء”، ليس لأن يناير كانت لحظة التغيير، ولكن لأنها كانت بداية الوعي اللازم لأي عملية تغيير، لم تقدم لي يناير أي إجابات، ولكنها باغتتني بالأسئلة الصحيحة التي يجب أن أحملها معي وأبحث عن إجاباتها.
لم أكن جاهلا بتاريخ وطبيعة الدولة التونسية فقط، لقد اكتشفتُ أنني لا أعرف مصر ولا دولتها ولا نخبتها، كنتُ جاهلا بواقعنا العربي، وتاريخ المنطقة، كانت دول الخليج أبعد من أن أُشغل بها؛ لم أكن أعرف أسماء بلدات سوريا، ولا جزر اليمن، كانت ليبيا بالنسبة لي صحراء غامضة، والعراق كما الحلم، لا أذكر منه سوى تفاصيل مشوهة.
ما قدمته لي 25 يناير ببساطة هو “السبيل”، الذي ما كنا لنهتدي له لولا أن استسلمنا لحلم الثورة، أصدقاؤنا من الجيل التالي لثورة يناير يتهموننا الآن بأنا “حالمون”، نعيش أسرى لحظة زمنية معينة ولا نستطيع تجاوزها، لا يدرك هؤلاء حقيقة التحول الذي طرأ على وعينا وعلى روحنا، لقد نشأوا في واقع تساؤلاته مختلفة تماما، ويظنون أن واقعهم الراهن هو واقع “ما بعد الثورة”، بينما هو في حقيقته واقع “ما قبل الثورة”، فالتساؤلات البديهية التي يناقشونها الآن على شبكات التواصل الاجتماعي، هي اهتماماتهم الدراسية والمعرفية، التاريخ الذي يحاولون فهمه، والمستقبل الذي يبدو غامضا محيرا، وربما خطيرا في عيونهم، وحتى نكاتهم، كل هذا هو واقع أطلقته يناير، ولا يمكن عكسه أو تجاوزه.
لم تكن يناير – كما أفهمها الآن- لحظة التغيير المهدرة، ولكنها افتتاحية التأسيس لواقع هو المقدمة الضرورية المنطقية المفضية حتما إلى التغيير.
ليس لدي شك في أن الربيع العربي لم ينته، وأنه موجاته المتتالية قادمة، هذا اليقين ليس مبعثه فقط حقيقة أن “كل” مبررات الثورة الذي حفزت الموجة الأولى قبل أحد عشر عاما، تتعزز وتتفاقم، يقين ليس مبعثه أن ما قدمته الثورة المضادة كان بديلا أكثر انحطاطا وأقل إقناعا من الواقع الذي رفضته الشعوب في الموجة الأولى، فهذه أمور “مدرسية” و”بحثية” يمكن الدفاع عنها بأدلة وشواهد وأرقام، لكنّ هذه المقالة كما قلتُ ذاتية وشخصية بالأساس، ومن هذه الزاوية، فإن مبعث هذا اليقين هو أنني كنتُ هناك قبل هروب “بن علي”؛ مازلت أذكر حالي، وحال النخب والقوى السياسية والاجتماعية، وحال المنطقة عموما ومناخها السياسي، وخطابها الرسمي ومشاغل شعوبها، كنتُ هناك وأنا اليوم هنا، صدقوني، نحن هنا أقرب للتغيير مما كنا هناك.
لذلك؛ لستُ نادما، فلا يمكن للإنسان أن يشعر بالندم بعد اكتشافه النار، لأن حرارتها لفحته، ولا يمكن أن تشعر المرأة بالندم وهي تحتضن وليدها لأنها مرت بآلام المخاض، لا يمكن أن يشعر مكتشف العالم الجديد في الأميركتين بالندم لأنه تاه في مياه المحيط لأسابيع أو أشهر، نحن نحترق بنار مازلنا نكتشف كنهها… تائهون، لكن نكاد أن نصل إلى أرضنا الضائعة منذ قرن أو يزيد… نكابد آلام مخاض طويل في انتظار وليد ربما لا نراه، لكن نثق يقينا أن قدره أن يولد ويحيا.
بغض النظر عن لحظات اليأس أو التفاؤل، إن المنتظر من جيل الربيع العربي ألا يساوم على لحظة الوعي التي اختبرها؛ وألا يستقيل من حلمه الذي بدأه “محمد البوعزيزي”، فقد كان “البوعزيزي” غاضبا، ومرهقا، ولم يكن واعيا، اليوم نحن غاضبون مثله وزيادة، مرهقون مثله وزيادة، لكننا نتسلح كل يوم بمزيد من الوعي اللازم كي لا يحرقنا غضبنا، وإنما لينير لنا السبيل لاستكمال جهادنا النبيل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ العنكبوت 69.
تعليقات علي هذا المقال