أجرى الحوار: شادي إبراهيم ومحمد عباس
في الذكرى الحادية عشر لثورة يناير اخترنا في مجلة سُبل أن نجري حوارنا الأول وذلك في إطار سعينا لإضافة قناة تواصل بين المفكرين والأكاديميين المرموقين وقرائنا الأعزاء. لحسن الحظ فقد جاء الحوار مع أحد أبناء ثورة يناير الذين عاشوا أحداثها عن قرب، وهو أيضًا مؤرخ وباحث تركزت أعماله على الدولة والمجتمع في مصر بدءًا من القرن التاسع عشر، كما أنه صاحب كتاب “كل رجال الباشا: محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة”.
الدكتور خالد فهمي.نقلًا عن الموقع الرسمي
خالد فهمي، درس الاقتصاد والعلوم السياسية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة قبل أن يحصل على الدكتوراه في التاريخ الحديث من جامعة أوكسفورد، بعدها انتقل للولايات المتحدة حيث حظي بفرصة التدريس في جامعتي برنستون ونيويورك. عاد للقاهرة حيث عمل أستاذًا للتاريخ بالجامعة الأمريكية قبل أن يتم اختياره رئيسًا للجنة الرسمية لتوثيق أحداث ثورة يناير وهي اللجنة التي حلت نفسها بعد ذلك. فهمي يقيم اليوم في المملكة المتحدة حيث يعمل أستاذًا للدراسات العربية الحديثة بجامعة كامبريدج وفاز كتابه الأخير بعنوان “السعي للعدالة: القانون والطب الشرعي في مصر الحديثة” بجائزة أفضل كتاب لعام 2020 من جمعية التاريخ الاجتماعي في بريطانيا.
وإلى نص الحوار:
في ذكرى الثورة الحادية عشر، كيف تابعتم الثورة حين حدوثها، وكيف تطورت مشاعركم تجاه الثورة على مدار السنين؟
بدايةً، كنت مقيمًا في الولايات المتحدة الأمريكية أُدَّرسْ في نيويورك، وعدت إلى مصر في 2010، حيث عُرضت عليّ وظيفة جيدة في الجامعة الأمريكية وقتها، لكني قبل ذلك كنت متابعاً للحالة في مصر عن كثب وأعود إلى مصر بانتظام. وكنت أشعر – وكذلك كان يقول لي أصدقائي- أن هناك أمراً ما يحدث. طبعًا لم أكن أظن أن الحدث سيكون بهذا الحجم وهذا الشكل فقد كنت متابعًا للحالة السياسية لكن كنت متابعًا أكثر للحالة الأدبية والفنية وفرق موسيقى وسط البلد والحراك الشبابي، وأظن أنني اشتركت في الفيس بوك تقريبا سنة 2008، وهذا المجال أو الخطاب المنتشر جعلني أعتقد أن هناك شيئاً جديداً يحدث.
يحضرني الآن أني أجريت حديثاً قبل الثورة مع محمد شعير في أخبار الأدب وقد وضع للحوار بيننا عنوانًا “ثمة شيء يحدث في مصر الآن”[1] وهذا كان من واقع ما دار بيننا من حديث وما قلته بأنني أشعر بأن شيئاً ما يحدث لكن ذلك لم يمنعني من الاندهاش جدًا من حجم الحدث والمظاهرات بهذا الشكل حتى في أول ليلة وقد كنت في التحرير يومها.
أتذكر أيضا قبلها بأسبوعين وتحديدا قبل أحداث كنيسة القديسين كانت هناك دعوة لمظاهرة وتحدثت إلى أختي حينها -وقد كانت تشارك من قبلي- عما تظنه سيحدث، قالت: عدد قليل سيحضر ربما خمسة أو ستة أشخاص وقد كان فعلا، لأن اليوم كان عاصفًا واستجاب عدد قليل لهذه الدعوة الأولى، فلما كانت الدعوة الثانية وهي دعوة مظاهرات 25 يناير كنت أظنها ستكون على نفس المستوى لكنني ذُهلت من حجم المشاركة في التحرير ثم كان يوم 28 يناير والذي شاهدته من بعد صلاة الجمعة حتى مساء اليوم.
وهذه كانت أول ملاحظة لي، أنني لست وحيدًا، أنا وأصدقائي أو أنا وأختي؛ هذه الفئة الصغيرة، فهناك جموع وقطاعات أخرى شاركت خاصة يوم 28 يناير حيث شاهدت أو سمعت بعد ذلك عن الناس الذين نزلوا من مناطق شعبية مثل ناهيا والمرج؛ فكان هذا شاهداً على أن الموضوع أكبر مما أتوقع.
وعلى طول المليونيات في الشهور اللاحقة والحراك الذي استمر سنتين كنت أشعر -وأنا الذي أعتبر نفسي متخصصًا في تاريخ مصر وقارئاً ومطلعاً- أن الحدث أكبر مني، وكثيرًا ما كنت أشعر أن دوري هو محاولة الفهم والتلقي وليس التنظير أو استباق الأحداث أو الاعتقاد بأن النظريات والمعلومات التي أعرفها سابقًا لديها القدرة على تحليل الوضع، فالأمر كان يتطلب مراجعة هذه الأفكار، ولذلك كانت مقالتي التي أكتبها في أخبار الأدب أو الشروق محاولة لذلك؛ بمعني أنني أحتاج أن أشتبك ليس فقط مع الأحداث ولكن مع الأفكار المسبقة أيضًا مما يؤدي لخلخلة القناعات وإعادة التفكير.
لقد كنت أرى طوال الوقت أن الأحداث تسبقني وأنها متسارعة وحجمها كبير والأسئلة المطروحة كبيرة جدًا ومكبوتة بسبب حالة الموات السياسي التي كنا نعيشها، لأنها كان يجب أن تُطرح من قبل وهذه الأسئلة هي التي نتداولها حتى الآن مثل: دور الجيش، دور الدين، ما هي الدولة؟ وما هو المجتمع؟ ما علاقة العسكر بالقوى المدنية؟ وهكذا تظل هذه الأسئلة جوهرية وأساسية للفهم.
هذا كان ردي الأول على السؤال أنني بحاجة إلى مراجعة الأفكار وألّا أتوقف عن الاندهاش، فالاندهاش مهم لأنه يؤدي إلى خلخلة القناعات، وحتى لا نركن إلى الظن بأنني أعرف أو أنني قد درست هذا من قبل، فالأمر غير مألوف وغير مسبوق.
وردي الثاني على السؤال هو أن الأسئلة كبيرة وكثيرة ونحن لا نمتلك خبرة تنظيمية للّحاق بالحدث، فأنا قادم من خلفية علمانية ولست عضوًا في الإخوان مثلًا، فلو كنت عضوًا في الإخوان لربما ارتكنت إلى خبرة تنظيمية ما. لكني لا أمتلك هذه الخبرة ورأيت أن خبرة الإخوان حتى ليست كافية لاحتواء الموقف، وأدركت وما زلت أن من ضمن الأخطاء التي ارتكبها الإخوان أنهم لم يندهشوا بالقدر الكافي ولم يعيدوا التفكير في الهياكل والخبرة التنظيمية لديهم وفي الأسئلة الكبيرة التي يديرون بها عملهم التنظيمي على مدار العقود السابقة، لأن الحدث أكبر منهم، وكان عليهم أن يكونوا متواضعين أكثر.
أتذكر أنني رأيت مشهدًا بسيطًا جدًا لزيارة مسؤولة أمريكية لوزارة الدفاع المصرية وكان يرافقها سامي عنان، وفي الصورة ظهر مع وفد مستشاريه وهم يصحبون المسؤولة في سلم داخل ديوان عام الوزارة وعلى جدران السلم صور لوزراء الحربية المصريين منذ محمد على أو القرن التاسع عشر. استوقفتني الصورة كثيرًا لأنني مُهتمٌ بالتاريخ، وأدركت أن هذه المؤسسة العسكرية لديها اهتمام وتوثيق وسردية لتاريخها، وتدرك من أين تأتي وإلي أين تذهب؛ وبالتالي مدركة لموقعها.
في المقابل، عندما نزلت إلى التحرير وقابلت الشباب وجدتهم لا يملكون الوعي التاريخي -طبعا شباب الإخوان مختلفين لأنهم يملكون خلفية تاريخية، لكن يُؤخذ عليهم أن خلفيتهم التاريخية هي تاريخ الإخوان والتنظيم، وليس تاريخ مصر وهذا مأخذ كبير- بينما الشباب في التحرير من غير الإخوان أو تنظيمات بعينها لا يمتلكون هذا الوعي التاريخي، ولا يدركون أن هناك وعيًا تاريخيًا مفقودًا، ولا يعرفون بدقة ماذا يريدون؟ وبالتالي لا يدركون أن نزولهم للشارع له تاريخ، حيث تاريخ النضال العمالي وتاريخ النضال الشبابي والطلابي وتاريخ نضال الإخوان أي أنهم ليسوا نبتًا شيطانيًا.
إن هذا الأمر بقدر ما أبهرني حيث إن فيه جزءًا تحرريًا وثوريًا بمعنى أنك تتحرر من الماضي وتتمرد عليه، إلا أن فيه جانبًا مخيفًا وخطيرًا، لأن هذا الشباب ليس لديه إدراكا بأهمية دراسة من أين أتى؟ وبالتالي هو لا يعرف اللحظة الحاضرة من أين أتت، وبالتالي لا يستطيع أن يتخيل/يحلم بمسارات للمستقبل. هو يمتلك حلمًا جيدًا لكن كيفية الوصول إليه تتطلب معرفة من أين أتيت وما هي الخبرات السابقة وكيف تستطيع تلافي أخطاء الماضي، والحقيقة أنني أدركت ضعف هذا الجانب لدى الشباب، وهو ما استوقفي بعد فترة من النزول للتحرير.
الأمر الأخير هو الانفجار الكبير في ماسبيرو ثم الحرس الجمهوري ورابعة، والذي أدركت معه سذاجتي (Naivety)؛ فقد اعتقدت أن هناك خطوطًا حمراء لن تتخطاها السلطة والجيش، وهذا دفعني لمحاولة فهم كيف حدث ذلك، كيف استعد الجيش لأن يقتل مواطنين مصريين في قلب القاهرة بدءًا من الأقباط ثم الشباب وصولًا إلى رابعة وأحداث الدفاع الجوي. في هذا الوقت كُنت مذهولا. أتذكر أنني بعد رابعة وقد كنت حينها محبطا، بل مشلولاً ذهنياً. أتذكر أني كتبت مقالة بعد الخروج من الصدمة بداية عام 2014 وضعت لها عنوانا هو “يا أهلا بالمذابح”[2] كنت أحاول أن أفهم فيها منطق أناس يريدون تأسيس نظام سياسي عبر مذبحة، وهذا الأمر يحتاج إلى شرح وفهم وليس تهكم. هذا باختصار كيف تطورت مشاعري مع الثورة.
لظهور الثورات العربية بهذا الشكل ظروف هيكلية؛ هل نعرف تلك الظروف، وهل ما زالت قائمة بما يسمح للثورة أن تقوم من جديد؟
يحتار الدارسون للثورات بشأن هذا السؤال، هناك علماء سياسة ومؤرخون وعلماء اجتماع يدرسون الظروف الهيكلية أو الظروف المهيئة التي تسمح لثورة معينة أن تقوم أو تنجح، كما أن هناك دراسات مقارنة للثورات بشكل عام. وعلى ذكر هذا الموضوع فقد عدتُ من اليونان قريبا، ورأيت أثناء زيارتي احتفالات ثورتهم التي مر عليها 200 عام تقريبًا ضد الدولة العثمانية من 1821 إلى 1830 عندما أُعلنت اليونان كدولة مستقلة. وهناك سمعت نفس هذا السؤال: ما هي الظروف التي تهيأت للثورة اليونانية كي تندلع؟
لا أدعي أني درست الموضوع بشكل كافٍ، ولكن من خلال قراءاتي البسيطة أستطيع القول بأن هناك ظروفًا تتعلق بالنخبة أو الزمرة الحاكمة وأخرى متعلقة بمن يقومون بالثورة؛ أي أن هناك عنصران. في هذا الصدد، انتهيت مؤخرًا من قراءة كتاب تاريخ العصامية والجربعة لمحمد نعيم، وأراه كتابًا مهمًا ويتطرق أيضا لهذا النوع من الدراسات.
بالنسبة لمصر ففي العقد السابق وُجدت ظروف أدت إلى تضعضع/خلخلة تماسك الزمرة الحاكمة أو النخبة الحاكمة، لأن الدولة ليست شيئاً مصمتاً، هي مجموعة علاقات بين قوى اجتماعية واقتصادية وشخصيات وعائلات تطلق على نفسها دولة، وتنتج خطابًا يعطي انطباعًا بأن هناك شيئاً موجوداً اسمه دولة.
هناك أمور حدثت جعلت هذه الزمرة الحاكمة تتناحر بين بعضها البعض، وبالمناسبة هنا أيضا دراسة مهمة لحازم قنديل زميلي في كامبريدج وهو أستاذ علم اجتماع مصري لديه كتاب مهم عن مصر يتحدث فيه عن ثالوث القوة أو السلطة وهي مؤسسة الرئاسة ومؤسسة الجيش ومؤسسة الشرطة أو أجهزة الأمن، وهذا الثالوث هو قلب الدولة المصرية ويذكر أن أطراف هذا الثالوث دائما في تناحر من وقت تأسيس دولة يوليو[3].
إذا درسنا هذا التناحر سيكون لدينا تصورًا عن التاريخ المصري في آخر 60 أو 70 سنة، وقد اعتمدت على هذا المدخل في فهمي لما حدث في 1967 وربما أيضا يفيد في فهم ما حدث في 2011 وهو ما قام به الدكتور حازم في محاولة فهم تضعضع النخبة الحاكمة وهذه الأطراف الثلاثة، وحسبما شرح دكتور حازم فالجيش قد شعر بأن اللحظة أصبحت مواتية بأن يعيد هيمنته على المشهد السياسي وعلى الطرفين الآخرين وهي الهيمنة التي فقدها بعد 1967. تبلورت هذه الفكرة أكثر بعد 28 يناير حينما انهارت الداخلية، لكن التخلص من الرئاسة أي التخلص من مبارك كان قرارا قد اتخذ قبل ذلك، لا يعني هذا أن مجموعة من الناس جلسوا في غرفة واتخذوا القرار، لكن كانت هناك حالة من التململ فيما يخص موضوع التوريث، والجيش اعتبر أن مبارك عالة وعبئ على نظام الحكم، وأنه للإبقاء على منظومة الحكم يجب التخلص منه، وهذه ناحية وأسلوب للتفسير وسبب من الأسباب الهيكلية التي أدت إلى الثورة.
النوع الثاني من التحليل يتحدث عن المجتمع، وعند الحديث عن المجتمع فنحن نتحدث عن الفكر والتنظيم والقيادات والخبرة والظروف أيضًا الاجتماعية والاقتصادية، والتي تدفع بقطاعات كبيرة إلى التململ من الوضع القائم.
في هذا السياق، هناك من درسوا الثورات الملونة في شرق أوروربا وعملية التحول بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والتي ركزت على سباق الزمن بين نظام يتهاوى وينهار، لكنه يحاول أن يبقي على البقية الباقية وأن يعيد تأسيس نفسه في مقابل القطاعات الثورية التي تحاول أن تنظم هي الأخرى نفسها لتكسب الزمن والمساحة قبل أن تعيد الدولة القديمة أو الثورة المضادة قوتها، وهذا التفسير المؤسسي يمكن أن يفيد أيضا في فهم ما حدث في 2011.
رجوعًا للنقطة السابقة، فالمجتمع كان يمتلك ظروفا تدفعه للانفجار، هناك ظروف هيكلية في المنطقة ليس فقط في مصر، أهمها في رأيي هو الوضع الاقتصادي المتباين، هناك قطاعات من النخب الاقتصادية والطبقة المتوسطة أٌتيحت لها فرص بسبب العولمة ما فتح أمامها أفقاً أكبر لتحسين ظروفها الاجتماعية. هذه نقطة مهمة أيضا لفهم الثورة، فالثورة لا تأتي فقط من انهيار اقتصادي، بالعكس هي تأتي من ازدهار اقتصادي هذا ما يجعل الناس تستطيع أخذ المجازفة.
كان هذا موجودا لدى شريحة معينة من المجتمع، لكن هناك شريحة أخرى خاصة الشباب في العالم العربي بشكل كلي، فنسبة البطالة هي أعلى نسبة بطالة في العالم، وهؤلاء متعلمون يمتلكون شهادات لكن فرص الترقي والصعود الاجتماعي مغلقة أمامهم، هذه سمة غالبة على اقتصادات دول شمال أفريقيا من المغرب حتى مصر وليس الدول النفطية فقط.
العنصر الآخر هو دور الإنترنت، ليس بالمعني التنظيمي باعتباره لعب دورا تنظيميا مهما، لكن الإنترنت فتح أيضا آفاق أكبر، كما وفر فرصاً للتواصل لم تكن موجودة من قبل. مثلا عندما كنت طالبا في الجامعة الأمريكية كانت المكتبة تلعب الدور الذي لعبه الإنترنت للجيل اللاحق. عندما كنت أريد أن أفهم أمراً ما أو أقرأ عنه كنت أذهب للمكتبة، نعم لم أكن أقرأ كل الكتب لكن كنت أعرف كيف أجد ما أبحث عنه، وهذا ما نفعله اليوم بالإنترنت، وهذه ثورة معرفية لم تكن موجودة عند جيل أسبق حيث كانت معرفتهم مرتبطة بعائلة أو تنظيم أو مؤسسة فأظن أن هذا سبب هيكلي آخر.
والسبب الأخير بالنسبة للعالم العربي بشكل عام هو تكلس الأنظمة السياسية من طول مدة بقاء الحكام سواء بن على ومبارك والقذافي وخاصة بالنسبة للشباب الذي أصبح يدرك أنه هناك عوالم أخرى ممكنة، بهذا الشكل كان لدينا تضعضع للنخبة الحاكمة وأسباب أخري أنتجت نوعًا من التذمر في قطاعات كبيرة خاصة من الشباب، ولدينا ظروف دولية من بعد حرب العراق والحديث في أمريكا بالأخص عن أنه حان الوقت لإعادة رسم الخريطة أو الحديث عن نظام إقليمي مختلف أو عن إدارة المنطقة بشكل مختلف فهذه العوامل تضافرت في لحظة معينة.
وهذا تفسيري رغم أننا ما زلنا قريبين من الحدث لكن هذه هي الأسباب بالنسبة لي، هناك عوامل تفسخ النخبة الحاكمة وعوامل لتذمر شرائح من المجتمع كان ينقصها الخبرة التنظيمية والفكر الثوري بمعني معرفة ما الذي نريده وليس فقط ما الذي نرفضه، وأن يكون ما نريده ثوريا بمعني حقيقي وليس إصلاحيا.
نحن لم نكن نمتلك هذه الأمور، لم تكن هناك القدرة التنظيمية لترجمة الحراك الثوري إلى برنامج حركي، بالإضافة لما قلته بشأن عدم وجود خيال وغياب الإدراك التاريخي والحث الثوري الحقيقي الذي كان يجب أن يدفعنا لنقول هذا كله خطأ وعلينا أن نبدأ بداية جديدة.
في حال كان قيام الثورة مرة أخرى قائما، فهل يجب على أهل الفكر دعم التوجه الثوري مرة أخرى، وما الضوابط؟
المفكرون لديهم ترف التفكير وملكة الكتابة والقدرة على التحليل، أنا أعتبرها ترف من ناحية لكنها من ناحية أخرى هي مسئولية وواجب. هناك الكثير ممن يسألونني لماذا تكتب؟ الموضوع ليس مسألة حقوق، ولكنه واجب ومسئولية وفرض على الواحد أن يشتبك معه. والسؤال ههنا هو كيف يشتبك؟ وفي رأيي يجب على المفكر أن يستمع ويفهم ويشاهد ويفكر مرة أخرى في الأفكار المسبقة لديه ويعيد بلورتها بناءا على الاشتباك مع الواقع وليس بناءا على نظريات قرأها.
أتذكر أنه في صيف عام 2011، وحينما اتضح أن ما يحدث لا يخص مصر فقط، بل حالة ثورية في العالم العربي، تواصلت معي في تلك الأثناء شبكة BBC، وسألوني: هل ما يحدث الآن أشبه بانهيار الاتحاد السوفيتي 1989 أم أشبه بـ [أحداث مايو] 1968 أم ثورات الشعوب عام 1848؟ في الحقيقة كنت منبهراً بهذا السؤال من ناحية ومشمئزاً من ناحية أخرى. ما أبهرني أنه سؤال جيد فعلا يجعلنا نقارن بين نماذج مختلفة من الثورات، لكن ما جعلني أشمئز أن هذه اللحظة التي نعيشها هي لحظة جديدة ونموذج رابع ليس شرطا عليه أن يندرج تحت أيًا من النماذج السابقة.
في النهاية قلت: إن ما يحدث أشبه بما حدث عام 1848، والتي بالمناسبة أجهضت بشكل مماثل جدا لثورة يناير، وذلك بتكاتف الملكيات الرجعية مع الكنيسة لقمع الثورات التي اجتاحت في ذلك الوقت إيطاليا وفرنسا والولايات الألمانية ومناطق كثيرة من أوروبا باستثناء الدولة العثمانية وإنجلترا، وهذا قلته قبل ظهور الثورة المضادة.
لذا أقول الآن أنه هناك حاجة للاشتباك مع الواقع والتفكير بأن هذا نموذج مختلف، الأمر الذي من شأنه أن يطرح مآلات تكون مرتبطة بما يحدث اليوم حتى يمكن رسم وتخيل مستقبل ينبع من الواقع، وهذا كله ينبني على طرح مبادئ مثل نوع الدولة المبتغاة ونوع المجتمع والعلاقة بينهما.
لعل الاستقطاب الأيدلولوجي كان سببًا في انقسام القوى الثورية، فما هي أفضل الطرق لإدارة هذا التنافس؟
بدايةً فإن ما حدث من استقطاب بين القوى الإسلامية والعلمانية المختلفة وكل الأسئلة في الأسابيع الأولي من الثورة مثل “الدستور أولًا أم الانتخابات” كنت أراها في واقع الأمر أسئلة عقيمة استدرجنا إليها، وأحمل كل الأطراف مسئوليتها، وعن نفسي أرى أن سؤال الهوية الذي يقبع خلف هذا الجدل هو سؤال عبثي، وتاريخيًا كان من الخطأ طرحه، كما ألوم القوى الإسلامية لومًا شديدًا وعميقًا على طرحه، لأنه كان يجب الاهتمام بالحريات والحقوق وليس بالهوية، وسؤال الهوية الذي يطرحه السلفيون بالخصوص منذ عقود وانفجر في وجوهنا وقت الثورة هو عقيم وخطير ومُقحم، ومن دراستي للتاريخ أرى أن المجتمع ليس مهتمًا بسؤال الهوية؛ فهذا سؤال نخبوي يهتم به حفنة من المفكرين.
الأمر الأخر هو أنني في وقت الثورة كنت أفكر في أن الثورات العربية تطرح سؤالين في غاية الصعوبة في وقت واحد، سؤال السلطة الغاشمة التي يمثلها الجيش، بمعني أن الجيش سلطة غاشمة بالتعريف، فعندما يكون الجيش مهيمناً على النظام السياسي فهو يغير من طبيعة السياسة، وسؤال الدين وهنا أتذكر ما قاله صديقي العزيز المرحوم سامر سليمان أنه لن تقوم لمصر قائمة إلا بعد أن يخرج الجيش من السلطة والدين من السياسة.
خروج الدين من السياسة هو ما نختلف فيه مع الإسلاميين، ما يريدوه الإسلاميون أن يكون للدين علاقة بالسياسة والأخلاق والقيم والمثل وأن يكون له جزء في التشريع والقانون والعلاقات الإنسانية وفي تنظيم الدولة وهذا سؤال صعب.
تعاملت أوروبا مع هذا السؤال من خلال حروب عديدة، استغرقت عقودًا إن لم تكن قرون، فعملية التحول الديمقراطي أخذت أشكالا مختلفة في القرن التاسع عشر، كانت في بعض الأحيان تتم بشكل إصلاحي، وفي أحيان أخرى بشكل ثوري، لكنها بشكل عام استغرقت فترة طويلة.
في اللحظات الثورية سواء كان في فرنسا أو روسيا هذان السؤالان لم يكونا مرتبطين، ومأساتنا كانت في أننا وجدنا أنفسنا نطرح السؤالين في نفس الوقت، سؤال السلطة وسؤال الدين ونحن في الوقت ذاته لا نملك الخبرة التنظيمية ولا التراكم المعرفي الكافي، فنحن لا نعرف طبيعة الدولة ولا طبيعة الجيش.
والمشكلة مع سؤال الدين هو أنه ليس عندنا كنيسة مهيمنة نحتاج أن نتخلص منها، ولكن سؤال الدين بالنسبة لنا هو سؤال طرحته الحركات الإسلامية من وقت الصحوة في السبعينيات على أننا نريد أن يكون الدين مكوناً أساسياً في الساحة السياسية وهو ما يختلف معه العلمانيون إذ يريدون التركيز على الحقوق والحريات أكثر من الدين والأخلاق، وهذا سؤال أساسي وقديم ومطروح منذ أكثر من 100 عام من قبل وقت الصحوة أو حتى تأسيس الإخوان.
كيف نتعاطى ونتجاوب مع هذا السؤال؟ هذا سؤال سياسي وليس سؤالاً معرفياً، وأظن أن نقطة البدء أننا نحتاج أن ندرك أن ما يجمعنا أهم وأعمق مما يفرقنا، ولعل إدراك أننا شركاء في الوطن وأن الإقصاء خطر وخطأ تكون هي نقطة البداية.
أنا أشرح لطلبتي ولنفسي ولأهلي هذا الأمر باستخدام مثال بسيط جدا، وهو أنني أجلس في بيت ولا أتفق مع جاري ولا يحبني ولا أحبه، كيف نتعامل مع هذا؟ لا أستطيع أن أطرده ولا هو يستطيع طردي من بيتي، لذلك يجب أن نتعايش مع بعضنا. والسؤال كيف نتعايش مع بعضنا؟ جاري يرى أن من حقه تعليق لافتة على باب العمارة يحذر فيها الناس من أخلاقي مثلا، يقول خالد يرتكب المعاصي داخل البيت، وخالد يرى أنه لا يحق لجاره وضع هذه اللافتة لأنني حر فيما أفعله داخل بيتي، لكن الأدهى هو أن يستدعي البوليس ليتدخل في العلاقة بين الجيران وهذه مأساة الدولة المصرية، أنها دخلت في نسيج المجتمع والمجتمع لا يملك الآليات بحيث يستطيع التعامل في خلافاته بشكل يمكنه من تحييد الدولة وهذه مشكلة أساسية.
في رأيي أن نقطة البداية بأننا شركاء في الوطن وليس هناك إقصاء ولا تكفير وأننا يلزم أن نبني جسور للتواصل والتفاهم وأن نبقى مستعدين أن نتنازل عن بعض أساسياتنا للوصول إلى أرضية مشتركة ولتوسيع رقعتها، وأنه من خلال هذا الاشتباك تٌبنى علاقات ثقة، وأنا أحمل الإخوان هذه المسئولية لأنهم لم يعملوا على توسيع هذه الرقعة بعد الوصول للسلطة وتمسكوا بصناديق الاقتراع، والسياسة لا تسير بهذا الشكل خاصة في شارع منقسم مثلما ظهر في الانتخابات حيث فازوا بـ 51% فقط.
الاتفاق على أننا إخوان مصريين وأننا نشترك في هذا الوطن وهو مرجعيتنا ثم بناء أرضيات للتفاوض تمكننا من تعميق الثقة من جولة لأخرى وكذلك الاستعداد للتنازل عن أمور نعتبرها مبدئية من أجل توسيع مساحة الاتفاق وقبل كل هذا نتفق على آليات لإجراء المفاوضات مهم للغاية، ونحن لم نفعل ذلك، بل توجهنا لأسئلة كبيرة عن الدستور والهوية فانفجر بيننا الخلاف خصوصًا وأن الدولة بمؤسساتها وإرثها ومصالحها التي تدافع عنها متربصة بالحالة الثورية وتحاول أن تجهض كل محاولات بناء جسور التواصل.
كيف يمكن للدراسات الأكاديمية (خاصة تلك التي تقومون بها) أن تنفع المشهد الثوري؟
كتابي الجديد “السعي للعدالة” كٌتب قبل الثورة بكثير، بدأته بعد الانتهاء من كتاب “كل رجال الباشا” من مدة طويلة تقريبا عام 2002 أو 2003. كنت طوال الوقت أتردد على دار الوثائق وأجمع المادة ولم يكن في بالي بالضبط ما أبحث عنه، لكن الهاجس العام كان الدولة المصرية والتي تدعي وترى نفسها سابقة للمجتمع؛ بمعنى أن وجودها أسبق وأسمى وأعلى من وجود البشر وهذا يُقال كثيرًا.
هناك تخيل لشيء يٌسمى الدولة، وهذه الدولة لها قداسة وأولوية وصدارة بينما قناعتي ترفض ذلك. نعم، أنا لست فوضويًا وأؤمن بضرورة وجود دولة، ولكن لا أعلم ربما خلال سنتين أصبح فوضويًا، فأنا لا أغلق أمام نفسي هذه الفكرة خاصة أنني الآن أرى أضرار وجود هذه الدولة ليس فقط في مصر وإنما في بلدان كثيرة.
المهم أنه عندما فكرت في العقلية التي تقدم الدولة على البشر وعلى المجتمع والأهالي لمحاولة معرفة من أين أتت وكيف حدث ذلك، كانت تدور قناعاتي في الكتاب حول هذا الأمر وهذا ما كنت أحاول شرحه. ما علاقات التماس بين الأهالي والدولة؟ والأهم من هذا هو كيف ومتى تشكلت هذه الدولة؟ لا أريد استباق الأمر ربما نجري حوارًا حول الكتاب بعد ذلك.
بالطبع الكلام الذي يقول إن مصر أقدم دولة مركزية وأنه لدينا دولة مركزية منذ الفراعنة ليس كلامًا تاريخيًا، نعم كانت هناك دولة مركزية فى مصر لكنها مرت بمراحل مختلفة، وفي حقيقة الأمر الدولة التي نتحدث عنها اليوم عمرها 200 سنة ليس أكثر. كان هناك تواجد ما لدولة مركزية قبل محمد على والحملة الفرنسية في أوقات المماليك، لكن لم يكن لها درجة حضور وسطوة مثل دولة اليوم. فالوالي في القاهرة لم يكن يتحكم فيما نسميه اليوم مصر، الصعيد وسيناء والصحاري كانت خارجة عن سيطرته، بل حتى أجزاء كبيرة من القاهرة نفسها كانت خارجة عن سيطرته، لذلك فتأسيس دولة اليوم المركزية يحتاج إلى فهم. كيف تكونت؟ وما هي عناصرها؟ وكيف تطور خطابها وما علاقتنا بها؟
من خلال دراستكم للتاريخ، كيف ترون علاقة الدولة المصرية الحديثة بمواطنيها؟ وإن كان ثمة مشكلة في هذه العلاقة، من أين بدأت؟
إذا قمنا بمقارنة بين القبائل والطوائف أو الطرق الصوفية على سبيل المثال كل هذه العناصر المكونة للمجتمع تفككت وأعيد بناءها على منطق جديد وهو منطق الدولة. هذه العملية -عملية التفكيك- ليست مدروسة بالشكل الكافي في رأيي، ومن المهم دراستها حتى نعرف ما نعيشه الآن. لأن ما نعيشه من نظام للدولة حاليا هو نتاج لحظة تاريخية ما وليس أزليًا وطبيعيًا بمعني أنه غير آتٍ من الطبيعة وبالتالي يمكن أن يتغير.
هذا مهم جدا للخيال وللناس، وجزء من مشكلتنا أننا لا نستطيع أن نتخيل علاقة أخرى بالدولة، فمثلا لا نستطيع تخيل أن يخضع جيشنا لنا أو شرطتنا لنا وليس للكيان المسمى الدولة، وكل ذلك لأننا ولدنا لم نجد غير ذلك فلا نستطيع تخيل علاقة أخرى بين المجتمع والسلطة. وجزء من فهمنا للتاريخ يوضح لنا أن هناك نماذج أخرى كانت موجودة ربما أفضل وربما أسوء لكنها مختلفة، وبالتالي يجب أن نفهم التاريخ بمعنى تاريخ التغير وليس قوائم تاريخية تحفظ، وهذه مأساة التعليم عندنا.
فالتاريخ بالنسبة لي هو تحول المجتمع بمعنى تغير العلاقات الاجتماعية كتغير شكل الأسرة وشكل الدولة والقبائل وبالتالي ندرس الاختلاف والتحول والتغير والتمحور عبر الزمن، ولذلك في رأيي هذا الأمر يمكن أن يقود لنتائج ثورية وتحررية وربما يمَكّنني من استشراف وتخيل مستقبل مغاير ومختلف عن اللحظة الحالية التي أعيش فيها، وبالتالي أبدأ من أرضية مختلفة وليس من أرضية هذا ما وجدنا عليه آباءنا. ورجوعا لأعمالي فأنا عملت على مؤسسة الجيش والكتاب الجديد يلمس مؤسسة الشرطة ومؤسسة الصحة العامة.
لنتحدث عن الجيش، عندما نفكر في تجربة محمد على وهي التجربة النهضوية الرائدة التي يتغنى بها الناس، وهذا ردا على السؤال السابق أيضا: كيف يمكن للدراسات أن تفيد المشهد، فالسؤال الأساسي الذي بدأت به بحثي في كتاب “كل رجال الباشا” هو: لماذا فشلت هذه التجربة؟ والسؤال الأول الذي بدأت به بحثي فى الدكتوراه هو: هل التجربة فشلت لأسباب داخلية أم خارجية؟
في الأسباب الداخلية مثلا تحدثت عن الاقتصاد الذي كان من المفترض أن تكون الصناعات الحربية أو العسكرية هي القاطرة التي تقوده فذكرت أنه ربما كانت هناك قوى أو عناصر محركة للنهضة الاقتصادية مفقودة، بينما العوامل الخارجية معروفة وهي السردية التقليدية حيث تواطئت الدول الأجنبية مع الدولة العثمانية.
عندما دخلت إلى الجيش وبحثت وجدت أن السؤال قد تغير وأصبح: هل الجيش ينتمى لمصر بالأساس أم ينتمي لأسرة محمد علي؟ وهل هذه الحروب كانت حروب تحرر وطني أم حروب أسرية؟ وهذه النقطة لم أبلورها بشكل كاف في الكتاب، لكني أبلورها في كتاب آخر الآن وهو “سيرة ذاتية لمحمد على”.
هناك أمر لمسته وهو باختصار أن طبقة ضباط الجيش وهم همزة الوصل بين النخبة التركية الحاكمة وجموع الشعب كانوا نقطة الضعف، حيث كانوا مماليك لمحمد على أو كانوا وافدين من الدولة العثمانية يتحدثون التركية مثله وبالتالي ليسوا نابعين من الجيش والجنود والمجتمع.
بالطبع نحن نعرف قصة أحمد عرابي فهذا الطريق كان مغلقًا أمام الجيش المصري، من المهم أن نفهم السبب، صحيح أن هذه نقطة تقنية بعض الشيء وتخص جيش محمد على منذ 200 عام، لكن من الضروري أن نعرف أوجه الخلل في هذه الدولة فإذا أخدنا الجيش كنموذج نجد أنه لم ينجح في أن يتحول ليكون جيشًا مصريًا لهذا السبب.
نعم جموعه كانوا مصريين، المحاربون الذين يموتون ويضحون بأرواحهم مصريون، لكن النخبة لم تكن مصرية، وهذه ليست نقطة الخلل في حد ذاتها، فالنخبة يمكن أن تكون أجنبية، لدينا مثلا نابليون لم يكن فرنسيًا لكنه استطاع أن يجعل نفسه فرنسيًا، ليس فقط عبر تحدث الفرنسية، فالأمر لا يقتصر على مسألة الهوية لكنه يتمحور حول السياسات التي يتم اتباعها.
بالطبع لا توجد هذه المشكلة في جيشنا اليوم، لكن هذا النوع من الأسئلة التي تجعلنا نفكر: من تخدم هذه الدولة؟ وكيف تكونت مؤسساتها؟ وما أوجه الخلل في هذه المؤسسات؟ فأنا أرى أن هذا الجيش لم يكن يخدم مصر، وهنا أقصد جموع الشعب المصري، ربما كلمة شعب لا يصح أن تذكر هنا لأنه لم يكن هناك هذا المفهوم في ذلك الوقت، الأفضل إذن أن نقول ساكني هذا الإقليم المصري، لم يكن يخدمهم هذا الجيش.
حتي مؤسسة الصحة العامة التي درستها في كتابي الجديد والتي قامت بأمور أفادت جموع المصريين مثل التطعيم ضد الجدري أو فتح المستشفيات، كل هذه الأساليب التي استحدثت في منتصف القرن التاسع عشر على نطاق واسع، كان هناك فيها أمور ناقصة، وهي أن هذه المؤسسات لم تكن مستقلة عن الدولة بل هي نبت من الدولة، فمحمد على افتتح مثلا مستشفى القصر العيني لتخرج أطباء يخدمون الجيش، وبعد فرمان الوراثة 1841 وتسريح الجيش توجه هؤلاء الأطباء إلى القطاع المدني فكانوا في النهاية لخدمة الباشا وليس المجتمع، ولم يكن مسموحا لهم فتح عيادات خاصة، هم يعملون لخدمة الميري، فالميري هو من أتي بهم وعلمهم وفتح لهم مدارس ويعطيهم رواتبهم وبالتالي فهم يدينون له بالولاء وليس للأهالي الذين يعالجونهم.
نوعية هذه الأسئلة وهذا التفكير هو ما يجعلنا نتغير، نعم نحن نمتلك دولة عتيدة الآن ومؤسسات متغلغلة في كل تفاصيل حياتنا اليومية ولها سطوة ووجود، إنما المشكلة الجوهرية الأساسية في رأيي والتي لم تختلف منذ ظهور هذا الدولة حتى اليوم مرورًا بالاحتلال الانجليزي ودولة يوليو أنها دولة مهيمنة ومتعالية علينا ونحن لا نمتلك الأدوات لمسائلتها أو محاسبتها أو إخضاعها وفي رأيي أن 2011 كان محاولة جادة، حاولنا بها كشعب وكأهالي قاطنين في هذا البلد أن نخضِع هذه الدولة لإرادتنا ونعيد تشكيل علاقتنا بها من جديد، ولهذا بدأت كلامي بالقول أنني لست فوضويًا حيث لم أكن أريد هدم الدولة إنما أريد أن أغير من طبيعة علاقتها بنا، أريدها أن تخدمنا هي وليس العكس، لأننا نخدمها بأشكال كثيرة ومتعددة. في النهاية أنا كمؤرخ لهذه الممارسات وطبيعة هذه الدولة وفي رأيي المحدود لديَ أمل أن يكون عملي مفيدًا في هذا الإطار وفي محاولتنا لفهم اللحظة الراهنة وسوداويتها.
نشكرك يا دكتور على هذا الوقت وسعداء بمشاركتكم معنا وعلى تواصل في حوارات قادمة
أنا سعيد بالحوار وأهنئكم على مجهودكم فمثل هذه اللقاءات تعطيني الأمل، لأنها أولا تؤكد أنني لم أكن أتوهم وجود هذه الأفكار والطاقات وتعطيني الأمل فيما تقومون به من جهود وفي عملية تراكم المعرفة التي نفتقدها جميعا وتنتبهون لها، وما تقومون به من مجلة أو مؤسسة مثل رواق كل هذا مهم وما تتبعون من نظرة نقدية مشجع جدًا.
المصادر
[1] نُشر في جريدة أخبار الأدب، بتاريخ 30 أكتوبر 2010. للاطلاع على نسخة من الحوار https://bit.ly/3npt3yt
[2] للاطلاع على المقالة: https://bit.ly/3fl4uyw و https://bit.ly/3Fj9FcE
[3] Soldiers, Spies, and Statesmen: Egypt’s Road to Revolt by Hazem Kandil, Publisher: Verso; 1st edition (2012)
تعليقات علي هذا المقال