هذا الكتاب المنشور باللغة الإنجليزية في عام 2019، هو ثمرة أعمال الباحث توماس هوسكين عن قبائل أولاد علي في المنطقة الحدودية بين مصر وليبيا[1]، التي بدأت بدراسته الاقتصاد البدوي في قرية القصر بمرسى مطروح عام 1994، وصولًا إلى رسالته للدكتوراه في عام 2006، عن العلاقة بين خبراء التنمية والسياسة المحلية، وانتهاءً بعمله ضمن مشروع لدراسة الأشكال الناشئة للحكم غير الحكومي في الأراضي الحدودية بالقارة الأفريقية، باعتبارها مناطق تتحدى فيها الحقائق العابرة للحدود مفاهيم الدولة عن السيادة والمواطنة. وقد جاء الكتاب كثمرة لهذا المشروع، حيث عمل هوسكين كمستشار للأمم المتحدة ووزارة الخارجية الألمانية في عامي 2011 و 2012، كما شارك في نقاشات عقدتها الاستخبارات الألمانية لتقييم التطورات السياسية في ليبيا. يهدف الكتاب الذي يتكون من ستة فصول إلى تقديم وصف وتحليل للسياسات القبلية والروابط الاجتماعية والاقتصادية والدينية لبدو أولاد علي، من خلال بحث ثلاثة قضايا تشمل: السياسات القبلية العابرة للحدود، واقتصاد المناطق الحدودية بين مصر وليبيا، وأخيرًا؛ تحدي السياسة القبلية من قبل التيارات الإسلامية. وقد جاء الفصل الأول كمقدمة أشار خلالها هوسكين إلى اعتماده على ثلاثة مفاهيم نظرية، وهي:
-
مفهوم الهيراركية (التراتبية) الذي يشير إلى السمات المركزية للأنظمة السياسية المعاصرة.
-
حدود الدولة كمساحات انتقالية وليس باعتبارها حواجز.
-
مفهوم “الفاعلين المحليين” الذي يعتبر أن السياسيين المحليين هم “منتجو النظام”، ويؤكد على أهمية الفاعل المحلي في عمليات التفاوض والصراعات حول أي نظام سياسي يتم إنشاؤه.
وقد نوه هوسكين إلى أن الحصول على إذن رسمي بمصر للقيام بأعمال بحثية هو أمر مستحيل لعلماء الأنثروبولوجيا الاجتماعيين الأجانب والمصريين، وقد تغلب على ذلك عبر السفر الدوري إلى مرسى مطروح بتأشيرة سياحية رفقة خطاب توصية من الجمعية الألمانية للتعاون الدولي الممولة لمشروعه البحثي، وبناء علاقة ودية مع عدد من شيوخ القبائل والسياسيين المحليين في مصر وليبيا، حيث ضمنوه لاحقًا لدى السلطات الأمنية في البلدين. وقد تناول الفصل الثاني المنهجية المطبقة والأساس التجريبي للكتاب، والمشاكل التي تواجه العمل الميداني في أوقات الاضطرابات، وأشار هوسكين إلى أنه لإتمام الكتاب قد أجرى 91 مقابلة مع زعماء قبائل وسياسيين وعناصر استخبارات وجيش وشرطة ومهربين وأكاديميين ودعاة وغيرهم.
جذور قبائل أولاد علي وحجم انتشارهم
تناول الفصل الثالث تاريخ المنطقة الحدودية بين مصر وليبيا، والمؤلفات الأكاديمية الموجودة حول أولاد علي، وأشار إلى أنها قبائل عربية تتنسب إلى السعادي من بني سليم، حيث قدموا إلى شمال أفريقيا خلال الفتوحات الإسلامية، ويتشكلون من خمس قبائل فرعية من أبرزهم (أولاد علي الأبيض بفرعيهم أولاد خروف والصناقرة، وأولاد علي الأحمر بفرعيهم القناشات والعشيبات). عاش أولاد علي في منطقة برقة شرق ليبيا، إلى أن أجبرتهم قبيلة العبيدات قبل 200 سنة على الانتقال شرقًا إلى مصر، حيث يتمركزون حاليًا على ساحل البحر الأبيض المتوسط من الحمام إلى السلوم بطول 500 كم، فضلًا عن التواجد في الفيوم وواحة سيوة، ويمثل أولاد علي 85% من سكان محافظة مرسى مطروح الذين يتراوح عددهم من نصف إلى مليون نسمة، أما في ليبيا فيتواجد أولاد علي في مدينة طبرق، ولهم بعض الامتدادات في مدينتي درنة والبيضاء، ويقدر عددهم بقرابة 150 ألف نسمة أغلبهم من قبيلة القطعان. وأشار هوسكين إلى أن البدو في المناطق الحدودية بمصر لا يمتلكون عقودًا رسمية تثبت ملكية الأرض التي يعيشون عليها، لأن الدولة تمتلك جميع الأراضي الصحراوية، بينما في ليبيا خلال عهد القذافي أتيح لهم شراء الأراضي بشكل رسمي. ويضيف أن أولاد علي ينظرون إلى المصريين على أنهم فلاحون أو “حضر” من سكان المدن يمتد نسلهم إلى الفراعنة، كما ينظرون إلى الأراضي الحدودية باعتبارها سلسلة متصلة اجتماعية وليست فضاءً تقسمه حدود دولية بين دولتين مختلفتين، ولذا كانت صور القذافي توجد بجوار صور حسني مبارك في معظم المقاهي التي يملكها أولاد علي في مصر.
العلاقة بين قبائل أولاد علي والسلطة في مصر وليبيا
كان أولاد علي جزءًا من الطريقة السنوسية التي أسسها محمد بن علي السنوسي في عام 1843، وانتشرت في برقة وغرب مصر وصولًا إلى تشاد والسودان، وفي عام 1911 شارك أولاد علي في الحرب ضد الإيطاليين في ليبيا، ثم ضد البريطانيين في الصحراء الغربية بمصر خلال الحرب العالمية الأولى. وقد جلب الإيطاليون والبريطانيون تغييرات إدارية قسمت أراضي أولاد علي بين مصر المحتلة من بريطانيا وبرقة المحتلة من إيطاليا، ثم واصلت الحكومة المصرية العمل وفق نمط نقاط التفتيش والجمارك، وقد جرت معارك الحرب العالمية الثانية بين الجيش الألماني بقيادة روميل والبريطانيين في أراضي أولاد علي، مما دمر مزارعهم وقتل ماشيتهم، وانتشرت الألغام في ديارهم، مما دفع العديد منهم للهجرة إلى وادي النيل والإسكندرية. وقد اتبع أولاد علي المنطق التاريخي للحكم الوسيط في المنطقة الحدودية عبر التحالف مع شريك قوي في الحكومة المركزية من أجل الحصول على الخدمات والنفوذ المحلي مقابل الولاء، ففي مصر انخرط رموز أولاد علي في الحزب الوطني في عهد مبارك، في حين حرصت الدولة على حكم المنطقة بواسطة لواءات من الجيش شغلوا منصب المحافظ، مع ترك مساحات واسعة للبدو لتسيير أمورهم الحياتية، وصولًا إلى اعتماد القانون العرفي في حل مشاكلهم بعيدًا عن قوانين الدولة طالما لم تخرج الأمور عن السيطرة. وفي ليبيا اضطر القذافي في ظل عدم قدرته على تطبيق مرسومه بإلغاء القبيلة كوحدة قانونية في بداية حكمه إلى اللجوء لدمج القبائل في نظامه، وتحويل النخب القبلية إلى شركاء له، وقد استثمر القذافي قدرًا كبيرًا من الأموال في خلق ولاء له لدى قبائل أولاد علي في مصر عبر تسهيل التجارة والاستثمار في الفنادق والشركات المملوكة لهم، وغض الطرف عن التهريب عبر الحدود، وتمويل الحملات الانتخابية في مجلس الشعب المصري للمرشحين من أولاد علي. لكن الملفت أن أعدادًا كبيرة من أولاد علي دعموا الثورة ضد القذافي، ونقلوا الأسلحة من السودان إلى ليبيا بموافقة الجيش المصري، وذلك لأنهم رأوا أن القذافي سيبيد الليبيين انتقامًا من اندلاع الثورة ضده، فتبنوا ضرورة الخلاص منه. الفصل الرابع الذي ناقش الجهات المحلية وقوة القرابة باعتبارها المورد الاجتماعي الرئيسي لأولاد علي، أشار إلى أنهم تمكنوا من الحفاظ على سيادتهم المحلية بجوار الدولة وليس ضدها، وسايروا الأنظمة الحاكمة دون أن يصبحوا دمى تابعة لها، وقد استعرض المؤلف سيرة الشيخ مفتاح شيخ قبيلة القنيشات الذي تولى منصب سكرتير الحزب الوطني بمرسى مطروح، وكيف وظف ذلك لخدمة القبائل عبر الاستفادة من الدولة في تدشين مستشفيات ومدارس وبنية تحتية دون أن يصطدم بمصالحها.
اقتصاد التهريب عبر الحدود وأشكاله
تناول الفصل الخامس “ممارسة التهريب وثقافته” كممارسة اقتصادية متأصلة في الترابط الاجتماعي والسياسي والثقافي الأوسع للمنطقة الحدودية، ويعتبر تجار أولاد علي جزءً من الممر التجاري لشمال غرب إفريقيا، الذي يربط بين دول ومناطق متنوعة مثل غينيا بيساو وموريتانيا ومالي والمغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر، وممر جنوبي يربط من تشاد والنيجر مع السودان وليبيا ومصر، وتمتد أعمالهم إلى شمال سيناء وفلسطين المحتلة بالتنسيق مع قبيلة الترابين. وقد اشتغل أولاد علي بنهاية الحرب العالمية الثانية في بيع مخلفات الحرب والخردة، وهو ما اعتبرته بريطانيا نشاطًا محظورًا، فبرز التهريب للتحايل على القيود البريطانية، ومع الطفرة النفطية في ليبيا خلال ستينيات القرن الماضي، وانتشار الطلب على اللحوم في ليبيا بأسعار باهظة، ظهر تهريب الأغنام من مصر إلى ليبيا، كما بدأ تهريب أجهزة الراديو والكاميرات والسجائر والملابس والعطور من ليبيا إلى مصر للاستفادة من فارق الأسعار. وفي ظل ارتفاع معدل البطالة بين الشباب، وهيمنة المستثمرين المصريين من وادي النيل على قطاع السياحة الذي ازدهر في عهد مبارك، وانتشار العمال من الصعيد في قطاع البناء والأعمال الحرفية، أصبح التهريب مهنة منتشرة بين شباب أولاد علي، وبرز “سوق ليبيا” في مرسى مطروح كمقر لبيع السلع المهربة. وتقتصر أعمال التهريب الميدانية على شباب تتراوح أعمارهم بين 17 و 40 سنة، في حين يشرف الكبار على استثمار عوائد التهريب في أنشطة مشروعة وفض المنازعات، ويتم التهريب عبر الصحراء ومن خلال البحر المتوسط، فيما يوجد العديد من الضباط المصريين على كشوف رواتب المهربين، بينما الضباط على الجانب الليبي ينتمون إلى العشائر المنخرطة في التهريب ويساهمون فيه.
انتشار الفكر السلفي بين أولاد علي
ضمن دراسة مدى قوة الروابط بين القبلية والتنظيمات الجهادية جاء الفصل السادس بعنوان “القبائل والإسلام السياسي”، وخلص إلى أن الإسلاميين أسسوا شبكة عابرة للحدود تربط الإسلاميين القبليين وغير القبليين المصريين بزملائهم في ليبيا، لكنهم واجهوا مقاومة من السياسيين القبليين، ورجال الأعمال المشتغلين بالسياسة في المنطقة الحدودية. وفيما عانى (الإخوان المسلمون) من صعوبات في الانتشار بالمناطق الحدودية نظرًا لأن معظم كوادرهم لا ينتمون إلى أولاد علي، فقد انتشر الفكر السلفي، وقد تناول الكتاب تأثير اثنين من الدعاة السلفيين هما الشيخ “محمد” إمام مسجد السلام في مرسى مطروح، وهو شيخ من مدينة الإسكندرية تولى إمامة المسجد المذكور في عام 1989، وتمكن من جذب الشباب البدو غير المتزوجين بأعداد كبيرة، ونجح في التوسط لحل النزاعات، أما الشخص الثاني فهو من أولاد علي، ويدعى الشيخ “عثمان”، لكن وقف الانتماء القبلي كعقبة أمام انتشاره وسط القبائل الأخرى، وشارك الاثنان ودعاة آخرون في عقد محاكم شرعية لحل النزاعات بدلًا من الاحتكام للعرف أو قوانين الدولة، ولعب السلفيون دورًا في تغيير بعض العادات البدوية مثل الاستشفاء بالموتى وتعليق التمائم، كما انتشر النقاب بين النساء، وتراجع التدين الصوفي أمام الفكر السلفي. وعزا هوسكين انتشار السلفيين في المناطق الحدودية إلى التغيرات المجتمعية مثل التحضر وتغيير الأنماط الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع البدوي، وتغير العلاقات بين الأجيال حيث لا تسمح المجالس القبلية للشباب بإبداء الرأي أو الحديث في وجود الكبار، بينما مثلت المساجد منصات للتعبير عن ذواتهم. وقد مثل فوز حزب النور السلفي بحصة المقاعد المخصصة لأولاد علي في محافظة مطروح في انتخابات 2011 هزيمة مدوية للسياسيين القبليين المرتبطين بنظام مبارك، لكن سلطة هؤلاء السياسيين القبليين التي يستمدونها من النظر إلى الهوية القبلية والقرابة باعتبارها الملاذ العملي والمرجعية لأولاد علي، عادت مجددًا مع وصول السيسي للحكم، وتكوينهم لشراكة معه، حيث طلب السيسي منهم الولاء السياسي لنظامه مقابل التعهد بعدم تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية العابرة للحدود التي تخص القبيلة طالما أنهم يضمنون تنظيمها وبقائها ضمن حدود معينة.
المصادر
[1] Tribal Politics in the Borderland of Egypt and Libya, Thomas Hüsken, 2019.
تعليقات علي هذا المقال