منذ السبعينيات يٌنظر للسياسة الخارجية المصرية باعتبارها سياسة تعبئة موارد[1]، سواء أكانت هذه الموارد سياسية لتوفير الدعم للنظام السياسي في مواجهة المعارضة الداخلية وعوامل عدم الاستقرار، أو اقتصادية لتوفير الدعم المالي والتمويل الدولي للاقتصاد المصري المأزوم بأزمات تمويل بنيوية بما يوفر دعما للنظام السياسي وللدولة المصرية في أداء مهامها وتقديم ما تبقى من خدماتها العامة للمواطنين.
ومنذ نكسة العام 1967 تحديدا كانت كل الحكومات المتعاقبة على السلطة في مصر -وإن بدرجات متفاوتة ومن مصادر مختلفة- تحرص على نيل المساعدات والقروض الخارجية. سواء من بعض الدول والقوى الإقليمية أو من مؤسسات التمويل المختلفة، أو تحاول تعبئة مصادر داخلية بطرق متنوعة لا تنفصل عن الاعتبارات السياسية. ومن ثم تُثار بين الحين والأخر أسئلة حول جدوى هذه القروض والمساعدات والاستثمارات في تحقيق التنمية والاستقرار للداخل المصري وللإقليم والمنطقة برمتها ومدى تأثيرها على الأجيال والحكومات القادمة من حيث أنها تورثها أعباء تمويلية واستدامة دائرة الديون وخدماتها.
الحاجة المزمنة للتمويل الدولي
من هذا المنظور تصبح السياسة الخارجية مسؤولة عن إيجاد أسواق للعمالة المصرية للتخفيف من حدة البطالة وتصديرها للدول المحيطة التي لديها طلب على العمالة الوافدة ولا سيما دول الخليج العربي. يستدعي هذا سياسات خارجية للحفاظ على حقوق هؤلاء العمال وضمانها، كما أنها تصبح مسؤولة عن توسيع شبكة التجارة والاستثمار المصرية في الخارج سواء عن طريق الشركات الخاصة أو الشركات المملوكة للدولة. كما أنها تستدعي جذبا منظما للسياحة والاستثمارات وهو ما ينعكس على الجولات الخارجية المكثفة للمسئولين عن هذه الملفات مع المسئولين رفيعي المستوى في كافة جولاتهم. كما يصبح الترويج للمشروعات التنموية والحاجات التمويلية -بهدف استدامة القدرة على الوفاء بالديون- بقدر ما هو مسئولية وزارات المجموعة الاقتصادية، مسؤولية جديدة للخارجية في ظل نهم غير مسبوق للاقتراض لتمويل المشروعات القومية العملاقة التي تطرحها الحكومة في الداخل، وبرغم إنشاء وزارة مختصة بشئون الهجرة فإن هذا الملف ظل معلقا بين وزارات الخارجية والقوى العاملة والهجرة.
ثمة مشكلة هيكلية في الاقتصاد المصري وهي الحاجة الدائمة والمزمنة للتمويل الدولي والناجمة بشكل أساسي عن تراجع القطاعات الإنتاجية من زراعة وصناعة لصالح قطاع الخدمات. وتخلي الدولة عن مسئولياتها تجاه هذه القطاعات واتخاذ سياسات جوهرها ترك الأصول الصناعية حتى تخسر ومن ثم طرحها للخصخصة والخلاص منها. الأمر الذي يؤدي لتراكم بيروقراطية كبيرة من دون عمل حقيقي، ويستلزم تسيير دولاب الدولة بالواسطة والمحسوبية استهلاك أموال أكثر للوفاء بأجور هذه البطالة المقنعة، ثم يستهلك الفساد ما تبقى من ضرائب لتتحول أزمة عجز الموازنة عن الإنفاق على الخدمات العامة من صحة وتعليم وسكن ومواصلات إلى أزمة مزمنة وحادة. جراء هذه الحاجة المزمنة خضعت مصر لبرامج إصلاح اقتصادي هيكلي قاسية ليس آخرها برنامج الشراكة الاستراتيجية مع البنك الدولي 2015-2019. والذي كان يرصد نسبة الفقر عند 25٪ وكان النقد الأساسي للاقتصاد المصري وفقا له أن النمو الاقتصادي في العقود الثلاثة الماضية لم يكن كافيا للحد من الفقر أو لاستيعاب النمو السريع للمعروض من الأيدي العاملة.[2] لكن هذه النسبة ارتفعت لـ33.2٪ وهو ما يعني عدم نجاعة السياسات والتوصيات المتبعة وفقا للبنك الدولي ولا حتى برامج الحماية الاجتماعية في تلافي تأثيرات التضخم الكبير وانهيار سعر العملة الذي أحدثه تعويم الجنيه في نوفمبر 2016 مع بدء تطبيق البرنامج.
وإذا كانت أهم مصادر التمويل الدولي للاقتصاد المصري في السنوات العشر الماضية هي تحويلات المصريين في الخارج. يليها الديون ثم عوائد السياحة ورسوم المرور في قناة السويس. ثم الاستثمارات الأجنبية التي لا تزال شديدة المحدودية رغم ما تقوم به الحكومات المتعاقبة من تعديلات على قوانين الاستثمار بشكل دوري إلى جانب تنظيم حملات دعائية ضخمة تشمل جولات خارجية لمسئولين ومؤتمرات وفعاليات اقتصادية لجذب الاستثمارات. فإننا إزاء تساؤلات جدية عن عدالة وملاءمة ما توليه السياسات المتبعة من اهتمام بكل تلك المصادر.
وبرغم تلك الأهمية لتحويلات المصريين في الخارج للاقتصاد المصري فإن هؤلاء المصريين في الخارج هم آخر من تهتم بهم الحكومات المتعاقبة. نحن إذن أمام مصدر تمويلي تعتمد الحكومة على استمراره واستقراره دون الحاجة لمجهود كبير. ويلاحظ هنا أن السياسات الاقتصادية التقشفية التي تتبعها دول الخليج التي تتورط الحكومة المصرية في التبعية لها ضارة بشدة بهذا المصدر للتمويل الدولي. كما أننا إزاء سياسات حكومية تعمل عكس اتجاه تشجيع هذا المصدر الهام، فالخدمات القنصلية المقدمة للمصريين في الخارج يمكن وصفها بأنها شديدة السوء والبطء في المجمل. أيضا رفعت الحكومة المصرية في السنوات الأخيرة كافة الرسوم والخدمات القنصلية وضاعفت تكاليف الحصول على تصاريح العمل والتي تصب في صندوق خاص تابع لوزارة الداخلية. وكذلك لم تسع بالقدر الكافي لاستثناء المصريين من بعض الإجراءات التي اتخذتها دول الخليج لتزويد مواردها بفرض رسوم إضافية على العمالة الوافدة أو تحسين شروط عمل هؤلاء المصريين في الخارج.
كما أن السياسات المصرية المنحازة بلا منطق سوى التبعية لمحور إقليمي أضرت سياساته بمصر، عززت استمرار الصراع العسكري في ليبيا لسنوات عبر دعمها للجنرال خليفة حفتر. الأمر الذي أدى لتراجع شديد لفرص العمل التي كانت متاحة للمصريين هناك وعودة مئات الآلاف منهم. وإذا أجرينا تقييما لهذه السياسات بمعايير غير عسكرية أو أمنية فإننا نكتشف أن السنوات الست الماضية تمخضت عن ضعف حقيقي في المصالح المصرية-الليبية المشتركة مقارنة بالمصالح المناوئة بمؤشرات العمالة والاستثمار والتجارة. إذ تراجعت التجارة البينية بشكل حاد وكذلك تراجعت الصادرات المصرية لأقل من ثلث ما كانت عليه في 2012[3] أيضا كان المصريون في قطر ضحية للأزمة الخليجية التي بدت فيها مصر في موضع التابع.
الطلب على العمالة المصرية شهد تراجعا حادا منذ 2015 رغم استراتيجية العلاقات المصرية مع دول الخليج، سواء بسبب التكلفة الكبيرة لسياسات السعودية والإمارات التي تصطف معها مصر في المنطقة وبالذات حرب اليمن أو بسبب التراجع في أسعار النفط والذي تسبب بظهور سياسات تقشفية في دول الخليج أدت على سبيل المثال لمضاعفة رسوم الاستقدام للوافدين والمرافقين في السعودية أكبر بلد مستقبل للعمالة المصرية. وتشير التقارير إلى أن مصر تراجعت للمركز السادس في تصدير العمالة بعد أن كانت تحتل المركز الرابع عالميا، ووصلت إلى أقل من 5 ملايين عامل.[4] رغم ذلك ظلت تحويلات المصريين في الخارج طوال السنوات الماضية في تزايد سواء لتدهور قيمة العملة المحلية أو لتزايد الحاجة للإنفاق على أسرهم بعد عودة المرافقين إلى مصر ومن ثم انخفاض نفقاتهم في البلدان المضيفة لصالح التحويلات. على كل فإن تراجع الطلب حتى وإن كان ناتجا عن ظروف خارجة عن إرادة النظام السياسي أو عن آثار جانبية غير مقصودة لسياساته فإنه يجد نفسه مضطرا لاتباع سياسات جادة والعمل على إعادة فتح أسواق جديدة وتعزيز الأسواق الحالية للعمالة المصرية.
هل تخدم السياسات الخارجية التنمية؟
بحسبانها سياسة تعبئة موارد فقط فإن نظام السيسي نجح إلى حد كبير في تعبئة وحصاد أكبر قدر ممكن من الموارد التي أتيحت له كما لم تتح لأي رئيس مصري سابق من البيئتين الإقليمية والدولية. سواء ما عٌرف في السنوات الأولى لحكمه بالمساعدات العربية وهي في جوهرها قروض واستثمارات ذات عائد قوي في أدوات الدين بالأساس ثم في بعض القطاعات المرتبطة بالعقارات والبنية التحتية. أو منح إنمائية شكلا بينما هي في حقيقتها قروض كما هو الواقع في المنح الإنمائية الضخمة التي تلقاها النظام من الإمارات في العامين 2014 و 2015. أو القروض الضخمة التي ارتبطت ببرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تحمل الكلفة الأكبر له المواطنون من الطبقات الفقيرة بينما حصدت الفئات الأعلى فوائد هذا البرنامج وعوائده.
إذن السؤال الأهم هنا هو مدى انعكاس هذه الموارد على المواطنين في الداخل، فإذا كانت السياسة الاقتصادية مدعومة بالسياسة الخارجية أنتجت كل هذا الكم من العقارات والبنى التحتية لصالح الفئات العليا والمستثمرين الأجانب سواء في المشروعات القومية الكبرى المرتبطة بالعاصمة الجديدة والعلمين الجديدة بما في ذلك مشروع القطار السريع على سبيل المثال وبما يساهم في رفع التضخم في أسواق العقارات في مصر، فإننا نصبح إزاء نمو لا تنمية، نمو في الأرقام والمؤشرات لا ينعكس على معيشة أغلب المواطنين إلا بارتفاع مؤشرات التفاوت وانهيار مخصصات الخدمات العامة مقارنة مع حجم الديون وخدماتها.
لا شك أن التنمية بحاجة أولية لمورد حيوي مثل المياه لذا يكون التفريط في هذه المياه عبر اتفاقات شبيهة باتفاق المبادئ الموقع في 2015 ومسار المفاوضات العبثي الذي اتبعه النظام تقصيرا في المهمة الأصلية للسياسات الخارجية. ولا تكفي الموارد المالية التي وفرتها السياسة الخارجية أو ساهمت في تعبئتها في مجالات الاستثمار والقروض والمنح لتعويض الخسارة المتوقعة في المستقبل. حيث تحتاج مصر أضعافها لتعويض النقص الحاد في المياه الذي قد ينتج عن سياسات خارجية فاشلة في التعامل مع ملف حيوي كسد النهضة. ورغم أن السياسات المتخذة للتكيف مع النقص الحاد في المياه المتوقع قبل إنشاء سد النهضة كثفت مؤخرا بأموال القروض وتوفر حاليا 800 ألف متر مكعب يوميًا، فإن إجمالي المستهدفات من تحلية مياه البحر أو معالجة مياه الصرف على أهميته حتى 2022 هو 400-450 مليون متر مكعب يوميا أي ما يمثل أقل من 1% من المياه التي تحتاجها مصر سنويا وبتكلفة عالية جدا إذ تصل تكلفة إنتاج المتر المكعب الواحد من تحلية مياه البحر حوالي 15 جنيها.[5] الأمر الذي يضعنا أمام تساؤلات حول من يتحمل هذه التكلفة في إطار تخلي الدولة عن دعم الخدمات الأساسية واتباعها لخطط الإصلاح الاقتصادي الهيكلي التي تقتضي التقشف وخفض الإنفاق على الخدمات العامة وتسليعها تدريجيا وأحيانا بشكل صادم تحت عناوين الإصلاح الجريء. بل إن استراتيجية المياه التي وضعتها مصر حتى 2050 تتضمن كلفة عالية جدا تتجاوز 900 مليار جنيه أو ما يعادل 56 مليار دولار[6]. نحن إذن إزاء تهديد جوهري للتنمية يتطلب كلفة عالية للتكيف مع تبعاته ومن يتحمل هذه الكلفة هم المواطنون، والجزء الأكبر منها ناجم عن سياسات خارجية خاطئة متراكمة عبر عقود طويلة إلا أن أخطاءها تكثفت في الفترة الأخيرة.
ومع تراجع الطلب على العمالة المصرية واتباع الدول المضيفة لسياسات استقدام مكلفة وبالذات بالنسبة للمرافقين فإننا إزاء عودة لآلاف المصريين من الخارج. وإن كانت أزمة كورونا زادت من وتيرة هذه العودة وكشفت بعضا مما تمثله من ضغوط على المرافق والخدمات العامة المتدهورة أساسا.
خاتمة
تنتج سياسات تعبئة الموارد الخارجية من دون خطط تنموية محلية ومشروع سياسي واضح نوعا من التبعية وتركز الشركاء. كما أنها إن كانت مبنية على أسس من الاستقطاب الإيديولوجي الحاد كما هو الحال بعد 2013 فإنها تعزز سياسة المحاور الإقليمية وتنتج آثارا متناقضة. فبينما تتعزز العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية مع أطراف محددة تتدهور بالقدر نفسه أو بقدر أكبر مع أطراف أخرى، ما يجعل عملية صنع وتنفيذ السياسة الخارجية نفسها أبعد ما تكون عن التوازن وأكثر كلفة تنفيذا وتخطيطا.
لا معنى لتلك التنمية إن كانت طاردة للأطباء والمهندسين والمعلمين والعمالة الفنية الماهرة لأن هذا يعني أن مصر تعلم لصالح دول أخرى. بينما تستمر معاناة المواطنين المصريين من تردي الخدمات الصحية والتعليمية وتتدهور مؤشراتها في العديد من المجالات. هذا ما ينبئنا به الوضع في مصر منذ عقود وتكثف في السنوات الأخيرة حيث تتزايد بطالة الشباب ويقل إنتاج فرص العمل المستقرة وتنخفض الدخول الحقيقية ما يدفع طاقات الشباب للهروب من هذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
تحتاج مصر لسياسة خارجية متكاملة تنطلق من الداخل وتأخذ في الحسبان تلك الحاجات التمويلية. كي تحاول تلبيتها بأقل البدائل كلفة ومنها تعزيز تصدير العمالة المصرية للخارج ومراعاة السياسة الخارجية في كافة القضايا لحساسية هذا الملف. بالإضافة لتعزيز السياحة والاستثمارات وتخفيض الاعتماد على الديون عالية الكلفة. كل هذا يتطلب إصلاحات هيكلية حقيقية بتعزيز القطاعات الانتاجية.
المصادر
[1] نادية محمود مصطفى، سياسات تعبئة الموارد السياسية الخارجية لمصر في عهد أنور السادات، في علي الدين هلال، محرر، دراسات في السياسة الخارجية المصرية من ابن طولون إلى السادات، القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية،١٩٨٧، صـ273-396. متاحة على موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، https://bit.ly/2Sb7BkD
[2] البنك الدولي، جمهورية مصر العربية: إطار الشراكة الإستراتيجية للسنوات المالية 2015-2019، https://bit.ly/352SX1t
[3] عمر سمير، المعضلة الليبية والأمن القومي المصري: المعادلات والأولويات، المعهد المصري للدراسات، بتاريخ ٢٨ يناير ٢٠٢٠، https://bit.ly/37zCIJL
[4] محمد عبدالله، تراجع العمالة المصرية بالخارج.. من المسؤول؟، الجزيرة نت، بتاريخ 2/3/2020، https://bit.ly/3dIJUpe
[5] انظر صفحة الموقف المصري، بعنوان، التقدم في ملف تحلية المياه .. إشادة واجبة، بتاريخ ٧يونيو ٢٠٢١، https://bit.ly/3g5lx8M
[6] محمود عبده، هل تملك مصر خيارات مائية لمواجهة آثار سد النهضة؟، اندبندنت عربية، بتاريخ ٢٢ يوليو ٢٠٢٠، https://bit.ly/3v1Rbbn
تعليقات علي هذا المقال