عندما يقوم باحث السياسات العامة بتقديم برامجه وسياساته إلى نظام حكم غير ديمقراطي فإنه يعمل بشكل مباشر على دعم استمرار هذا النظام في الحكم. في بعض الأحيان يحدث هذا مدفوعًا باعتقاد أن صنع السياسات العامة هي عملية تقنية/فنية يقوم من خلالها الباحثون في السياسات العامة بعمل أبحاثهم “العلمية” وحساب التكلفة والعائد بطريقة “كمية” والمقارنة بين السياسات المتاحة بناء على معايير “موضوعية” من أجل الوصول إلى أفضل الحلول المتاحة وتقديمها إلى صانع القرار الجالس في مقاعد السلطة.
لذلك يعتقد هؤلاء أن اسم أو انتماء الجالس في مواقع السلطة أو طبيعة هذه السلطة ذاتها (ديمقراطية أم سلطوية) ليس له تأثير على السياسات العامة المقدمة لهم. لكن هذا التصور عن السياسات العامة يمكن وصفه -على أقل تقدير- بأنه تصور منقوص. حتى في مؤسسات الولايات المتحدة وأوربا وبين الباحثين الذين لعبوا دورا رئيسيًا في تأسيس مجال السياسات العامة وساهموا في النقاشات الرئيسية به ولعبوا الدور الأكبر في توجيه المسارات الرئيسية لهذا المجال كان هناك تحذير دائم من تبني هذه الأفكار.
آرون ويلدافسكي على سبيل المثال في كتابه “قول الحقيقة إلى السلطة” كان دائم التذكير بالطابع “السياسي” للسياسات العامة بدلاً من التعامل معها باعتبارها ذات طبعي تقني/ فني فقط. وإذا انتقلنا من الغرب حيث الليبرالية الديمقراطية إلى العالم العربي حيث الأنظمة السلطوية المدعومة في أحيان كثيرة بالمؤسسات العسكرية فإن المشكلة لا تصبح تصورات منقوصة عن السياسات العامة يجب تصحيحها بل تتحول إلى سلوكيات وتصرفات تساعد على إطالة عمر الأنظمة السلطوية، وتوفر الظروف الموضوعية التي تعينها على الاستمرار.
الثابت أن جزءا أساسيا من عمل الباحثين في السياسات العامة هو تقديم اقتراحات وبدائل للقائمين على الحكم من أجل حل المشاكل العامة التي يعاني منها المواطنون أو من أجل تسهيل عمل هذه الحكومات وتحسين أدائها. أي أن السياسات العامة من حيث الموضوع وجهة الخطاب قريبة الصلة بالسلطة والحكام.
إذا جرت الأمور بهذه الطريقة فإن هناك افتراض غير معلن أن النظام الحاكم ديمقراطي يتمتع بالشرعية الدستورية أو القانونية وأن السياسات العامة تساعد على جعل الديمقراطية تعمل بشكل أفضل لصالح المواطنين لكن ليس هذا هو حال كثير من بلدان العالم العربي.
النظام السياسي غير الديمقراطي لا يفكر إلا في مصالح النخب السياسية الحاكمة وتحتل مطالب المواطنين واحتياجاتهم ترتيب منخفض في الأولويات وتزيد أهميتها فقط في حال أنها يمكن أن تدعم استمرار النظام السلطوي. فهل يجب على الباحث في السياسات العامة أن يشارك بالأفكار والحلول في ظل نظام استبدادي مثل هذا؟ ألا تعتبر مشاركته في هذا النظام هو عمل لدعم الأنظمة السلطوية وضمان استمرارها؟ لمن يوجه الباحث في السياسات العامة أفكاره وكتاباته في مثل هذه النظم الاستبدادية؟
يقول البعض أننا لو تركنا الشعوب بدون سياسات عامة فإن مصير الشعوب سيكون الموت البطئ في حين أن النخب الحاكمة سوف تجد لها حلولا سواء بأموالها أو بعلاقاتها لذلك فإن المشاركة في السياسات العامة واجبة حتى لو كان النظام غير ديمقراطي من أجل تقديم ما يمكن أن يحسن من حياة الناس البسيطة ومعيشتها.
ويقول آخرون إن نصف إنجاز أفضل من لا إنجاز وإن تحسين عمل المنظومات الحالية أو المحافظة على المنجزات المكتسبة أفضل من تركها حتى تختفي أو حتى يتم إلغاؤها. يبدو في هذا الطرح شيء من الوجاهة. لكن مشكلته الأساسية أن النتيجة النهائية هي العمل على إطالة عمر الأنظمة الاستبدادية والتقليص من فرص التغيير السياسي مستقبلا. المشكلة الأخرى أنه توجد بالفعل بدائل أفضل لكنها لا تحظى بالقدر الكافٍ من النقاش ونحاول في الجزء التالي توضيح واحدة من هذه البدائل.
عامل مستقل أم تابع؟
العلاقة بين السياسة والسياسات العامة ملتبسة في أحيان كثيرة. على سبيل المثال لو كان هناك إجماع بين الحكومة والمواطنين على فشل السياسات الحكومية المستخدمة فإن هذا لا يعني بالضرورة حدوث تغيير في هذه السياسات.
الملاحظة الأخرى أنه حتى لو أدت السياسات الحالية إلى أزمات كبيرة وعميقة فإن هذا لا يعني بالضرورة أنه ستتغير لاحقا أثناء الأزمة أو بعدها. بل ربما تستمر هذه السياسات بعد الأزمات نتيجة عمل تغييرات طفيفة بها.
الحل إذا أن نغير من طريقة تعاملنا مع علاقة السياسات العامة بالسياسة بحيث نتعامل مع السياسات العامة كعامل مستقل وليس كعامل تابع إذا استخدمنا اللغة المنهجية. أما إذا استخدمنا لغة السياسة فإننا نتعامل مع السياسات العامة كأداة للتغيير السياسي وليس نتيجة له. وهذا يحتاج إلى مزيد من الإيضاح.
في السياقات السلطوية كما هو حال أغلب دول العالم العربي فإنه يمكن للسياسات العامة أن تلعب دورا في زيادة فرص وإمكانية التغيير السياسي بدلًا من أن تكون داعمة لاستمرار هذه النظم. يمكن لهذا أن يتم من خلال إحداث عدد من التغيرات الأساسية:
التغير الأول هو أن تكون السياسات العامة -في صورة برامج وسياسات بديلة- هي الرافعة التي تستخدمها الحركات والأفراد من أجل تحقيق التغيير السياسي. الربيع العربي أنتج أفرادا وحركات لديها دافعية للعمل السياسي ولا تنقص برامجها أفكار ورؤى ثقافية أو هوياتية.
بداية من اليسار الثقافي حيث برنامجه الرئيسي يتمثل في كون المشكلة تتلخص في التراث الذي يحتاج إلى تجديد أو في التيارات الإسلامية التي تتبنى في خطاباتها الشعبوية برامج وسياسات مبنية على الهوية الحضارية الإسلامية والتمايز عن الغرب انتهاء بالقابعين في مواقع السلطة حيث خطاب الوطنية ذي الصبغة الفاشية لدغدغة المشاعر دون تغيرات في حياة المواطنين إلى الأفضل.
ماينقص العالم العربي أفراد وحركات لديها تصورات وبرامج مرتبطة بتحسين معاش الناس وحياتهم وكرامتهم. إذا تواجدت هذه البرامج بهذا المحتوى فإنها يمكن أن تعمل على تشكيل خطاب سياسي جديد جوهره التركيز على المواطن وتحسين حياته ومستهدفه تغيير حياة هذا المواطن إلى الأفضل وأداته برامج السياسات العامة التي تقدمها من أجل تحقيق هذه المستهدف. بهذا تتحول السياسات العامة إلى أداة من أجل تحقيق الديمقراطية داخل الدولة الاستبدادية بدل من النظر لها كنتيجة ستتحسن مخرجاتها بعد التحول الديموقراطي.
بدون وجود سياسات عامة بديلة للسياسات القائمة فإنه من الصعب توقع حدوث تغيير سياسي ديمقراطي. طبقا لهذا الافتراض فإننا نفرق بين نوعين من الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى انتقال سياسي ديمقراطي هناك “الأسباب الضرورية” من أجل بدء انتقال سياسي ديمقراطي تشمل على سبيل المثال الثورات الشعبية أو حدوث انقسام في النخب الحاكمة أو وقوع أزمة اقتصادية عميقة ومؤثرة وهي في أغلبها تشمل الأسباب التي تؤدي إلى انطلاق أو بداية التغيير السياسي الذي لا يمكن أن يحدث بدون وجود هذه الأسباب.
لكنه ورغم أهمية هذه الأسباب الضرورية إلا أنها في حاجة إلى نوع أخر هو “الأسباب المكملة” والتى بدونها لا تكتمل عملية التغيير التي بدأت، من ضمن هذه الأسباب المكملة وجود سياسات عامة بديلة. وينتج عن هذا الافتراض أيضًا أن جودة عملية التغيير السياسي وسرعتها سوف تتأثر بمدى قدرة وفاعلية السياسات العامة البديلة على حل المشاكل. وبمعنى آخر أنه كلما كانت قدرة السياسات العامة البديلة أفضل في حل المشكلات فإن هذا سيزيد من سرعة التغيير السياسي الديمقراطي كما أنه سيضمن استمراريته.
للناس أم للسلطة؟
التغير الثاني المطلوب في طريقة تعاملنا مع السياسات العامة هو أن يتحول خطاب الباحثين في السياسات العامة من السلطة (باعتبارها محط صانعي السياسات العامة، وموضع متخذي القرار) إلى الناس باعتبار أنهم هم المستهدفون من هذه السياسات وأنهم الهدف النهائي لها. بما يؤدي إلى تحسين حياة الناس.
فالهدف هو تقديم ما نظن أنه “الحق” أو “الصواب” إلى الناس بدلًا من تقديم ما نظن أنه “المناسب” إلى السلطة. بهذا فإن السياسات العامة تتحول من أداة في يد الأنظمة الاستبدادية تعينها على الاستمرار في الحكم إلى كونها أداة للضغط عليها بهدف التغيير أو رافعة يتم من خلالها الدعوة لعملية التغيير السياسي وتمريرها.
إن قول الحقيقة إلى السلطة كما قال ويلدافسكي أو النصح لأئمة المسلمين وعامتهم كما قال الرسول الكريم محمد (ص) يفرض على باحث السياسات العامة ألا يتحول إلى أداة لدعم السلطوية بدلًا من أن يكون أداة لتحقيق كرامة الناس وحريتهم.
فالسياسات العامة ليست منزوعة القيم كما قد يظن البعض بل هي مليئة بالقيم المعيارية/ الأخلاقية كما يُذكرنا ويلدافسكي دائما هذه القيم تظهر في أوضح صورها عند تقييم السياسات العامة. أما تجنيب سؤال القيم أو تهميشه أثناء تحليل السياسات العامة أو صنعها فإنه يجعل منها أداة ضد الشعوب بدلًا من أن تكون أداة لصالحها. وحتى لا يحدث هذا فإن وجود السياسات البديلة مع استهداف باحثي السياسات العامة لوصول هذه السياسات إلى الناس لا إلى السلطة هما مطلبين من أجل أن تتحول السياسات العامة إلى أداة لدعم تحول ديمقراطي بدلًا من كونها أداة لدعم استمرار السلطوية.
والله أعلم.