منذ عامين وبعد انتقالي للعيش في إسطنبول تعرفت على شباب وفتيات عرب ممن عايشوا الثورات وكانوا فاعلين فيها. كان من كرمهم أن شاركوني تجاربهم الشخصية. اشتركت تلك القصص في كثافتها الفكرية ومرورها بتحولات أنتجت تصورات جديدة عن النفس والمجتمع والدين. وخلال الحديث تكرر ذكر الثورات وأحداثها وبدت كنقطة تفصل بين عالمين، أحدهما على وشك الاختفاء وآخر ما تزال معالمه تتشكل وتتبدل.
بعد مرور أكثر من عشرة أعوام لا نستطيع إنكار حقيقة الأثر النفسي الذي أحدثته ثورات الربيع العربي والتي ما تزال آثار ندبها بارزة لدى الكثيرين كأنها وقعت بالأمس، ولا شك أن هذه التجارب النفسية أنتجت ردات فعل أثرت على تصورات الأفراد عن أنفسهم والعالم بشكل قادر على إحداث تحولات دينية جذرية. تقترن هذه التحولات بما بات بارزًا في الآونة الأخيرة من ظواهر الإلحاد واللادينية وتصاعد الصوفية والروحانية وتوجه عام نحو التدين الفردي مقابل انحسار الإسلام السياسي.
من خلال تتبع بعض تلك التجارب والقصص الشخصية تشير كثير من تلك التحولات المصاحبة لتغيرات نفسية إلى ظهور دين حديث حاولت تسليط الضوء عليه وعرض أبرز المراحل النفسية للتحول إليه. وربما تكون هذه المحاولة سببًا لفهم ما يحدث لكثير ممن يشغلهم الدين ويبدل حياتهم أو ربما وجد أحدهم نفسه أو تعرف على صديق أو شقيق في إحدى هذه السطور.
مِن أين؟ وإلى أين؟
عندما نتحدث عن التحول الديني فإننا نفترض نقطتين إحداهما تسبق الأخرى وكلاهما يعود لدين اعتنق أو غودر. في هذا المقال يأخذ الدين السابق شكلًا واضحًا فمعظم من خاض تجارب التحول الديني بعد الثورات خرجوا من تيارات إسلامية أو خلفيات إسلامية تقليدية أو محافظة. أما عن الدين المتحول إليه فهو مما يصعب تحديده بشكل علمي مدروس وذلك عائد إلى صعوبة رصد التحولات الدينية بعد الثورات لتغيرها المستمر ولأسباب تعود إلى سيولتها وعدم تجليها في كيان بارز وموحد كما كانت تبدو قبل انحسار التنظيمات الإسلامية.[1]
وهناك سبب آخر يرتبط بالجانب النفسي يجعل من الصعب على الباحث أو حتى على صاحب التجربة فهم طبيعة هذه التحولات وأسبابها. فهي مضمرة في النفوس وإن بدت مظاهرها على السطح. ويرتبط هذا الخفاء والباطنية بطبيعة الوعي الديني الحديث الذي أشير له بدين الفرد أو دين تحقيق الذات الذي يصفه عالم الاجتماع توماس لوكمان بغير المرئي لخصوصيته وانحساره في نطاق فردي. يعبر دين الفرد عن رحلة يخوضها الإنسان في البحث عن الحقيقة الكامنة في أعماق نفسه من خلال تجربته الداخلية المعتمدة على شعوره واتصاله بوحي خاص[2].
يحمل هذا الدين منظومة من الأفكار القادرة على تشكيل سلوكيات ومعتقدات مجموعة الأفراد المنتمين لهذه التجربة وصبغهم بهويات جديدة. وهو يتسلل عبر مظاهر سلوكية مختلفة بشكل خفي قد يمنع صاحب التجربة من إدراك أن ما تشكل من وعي وطقوس ورموز وأفكار جديدة، يمثل دينًا، بالمعنى الوظيفي للكلمة. وربما تتكشف أبرز مظاهر هذا الدين من خلال ظاهرة “المؤثرين” وما أنتجته مواقع التواصل الاجتماعي من منظومة تحتفي بالفرد وتحقيقه لذاته[3].
ما هو التحول الديني؟
يمتلك كل واحد منا مجموعة من الأفكار التي تشكل منظومة متكاملة في عقولنا تحركنا نحو الفعل على أرض الواقع. تحافظ عقولنا أيضًا على بعض الأفكار الخاملة التي قد تراودنا ولكنها لا تكون سببًا في استنهاض أفعالنا. فمجرد التفكير في المسيحية أو البوذية لا يجعل منه تحولًا دينيًا.
تتغير اهتماماتنا في بعض الأحيان بشكل يدعو إلى انتقال نوعي في وعينا، تنتقل فيه الموضوعات المركزية إلى مكانة هامشية. وكما ينظّر له الفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس يحدث التحول الديني عندما تتبدل الحماسة في نظام وعي الإنسان وينتقل ما كان في الهامش إلى المركز المعتاد لطاقة الإنسان الشخصية أو المنطقة الساخنة كما يصفها جيمس لامتلاكها طاقة حركية وتفاعلها الدائم.
لكن هذه الحماسة قد تتبدل ويحدث التحول الديني بتعرض الأفراد لمجموعة من المؤثرات المتتالية بشكل مكثف ومفاجئ. وهنا يبرز دور الثورات العربية وما أحدثه مجموع ما تعرض له الشباب العربي بعد اشتباكهم معها. هذا الاشتباك المباشر بين الإنسان وأخيه الإنسان وما خلفه من خذلان على الصعيد الفردي والجماعي. ولهذا الخذلان آثاره النفسية التي قادت البعض إلى الارتداد نحو الخلاص الفردي والانكفاء على التدين الشخصي أو الروحي وربما الكفر بكل ما هو سياسي.
ورغم أن مكانة الثورات وتأثير أحداثها على وعي كثير من شبابنا اليوم تُعتبر علامة فارقة إلا أن تلك الأحداث لم تكن سوى العامل المحرك الذي استطاع إخراج كوامن الوعي إلى السطح. ذلك يعني أن هناك عوامل أخرى تسبق أحداث الثورات وتلحقها استطاعت أو ما يزال باستطاعتها اختراق كوامن النفس وتحريكها نحو مسارات جديدة فالدعوة إلى دين الفرد لاقى قبولًا قبل الربيع العربي وزاد انتشارًا بعده. تتبنى مثل هذه الأطروحات نظرة كلية وكونية للدين مقترنة بنبذ العنف ونقد الإسلام السياسي والدعوة في المقابل إلى تقديس الإنسانية وتحرير الإنسان من العقيدة والتمرد على التراث[4] وهو ما يتناسب مع بعض العادات الثورية التي اكتسبها شباب الربيع العربي.
أولى خطوات الرحلة
يعتبر التحول الديني ظاهرة طبيعية تقترن بالتغيرات المصاحبة لمرحلة البلوغ وطبيعة التطور العقلي للإنسان في تلك المرحلة [5]. وإذا عدنا إلى مرحلة الطفولة، نلاحظ أنها فترة تتميز بالاستقرار الذهني حيث يتلقى فيها الإنسان أفكاره الدينية التأسيسية وتتحول إلى حقائق وقيم موحدة.
تبدأ أولى خطوات التحول الديني عند تعرض هذه المنظومة الراسخة إلى مجموعة من المؤثرات والتحديات التي تخوضها مع أنظمة فكرية تتحداها لتبدأ رحلة الفرد نحو الشكوك المستمرة أو بروز نزعات تأملية وروحانية. تتشكل وفق ذلك صراعات تتعلق بمسائل دينية مثل الذنب والحساب واليوم الآخر وعادة ما تقترن بحالة من اللوم أو تأنيب الضمير.
ومع استمرار هذه الحالة وتضخمها في وعي صاحبها يبرز شعور لديه بانقسام ذاته ويزداد الصراع بين ذاتين دون أن يميل إلى واحدة منها. فهو الآن من أصحاب النفوس المتشظية بعد أن أصبح لديه حياتين واحدة طبيعية وأخرى روحية عليه أن يفقد إحداها ليشارك في الأخرى[6].
تشكل هذه المرحلة ما يعرف لدى علماء الأنثروبولوجيا بالعتبية وهي طقس يعبر عن مرحلة انتقالية يكون فيها حال الإنسان “ما بين بين”. تمتلئ العتبية بالغموض والارتباك والكثير من الوحدة وشعور الإنسان بالاغتراب عن نفسه والذي يتحول لاحقًا إلى اغتراب عمن حوله فهو لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
ملامح أولية للدين
مع اتخاذ موقف استجابة للصراع الداخلي ينتقل الوعي إلى مساحة جديدة يتحول فيها نحو منظومة مختلفة من الأفكار والمقاصد. وربما تكمن هنا أقسى الاختبارات وأعنفها في رحلة التحول نحو دين الفرد لأن فيها قتلًا “رمزيًا” لذات الإنسان القديمة وقمعًا لها. يحدث في هذه المرحلة قطيعة مع الماضي تتفاوت نسبتها بين الأفراد وتبدأ رحلته نحو النسيان وتبخر ماضيه بعد أن أصبحت ذكرياته مصدر ألم وإزعاج أو حتى إحراج.
ولأن الذات لا تتكون دون شبكة علاقات مع ذوات أخرى فإن في نسيان الذات وقتلها قطيعة اجتماعية ونسيان لأدوار اجتماعية وهوية كانت تمثل الذات القديمة. وبالتزامن مع ظهور عالم جديد بأفكار وعلاقات تتطابق مع الذات التي قتل نفسه لأجلها تبرز للمتحول دينيًا ذات ليست حقيقية بقدر ما هي متخيلة لما يريد أن يكونه. وهنا تبدأ الحاجة إلى البحث عن هوية بديلة عادة ما تكون مجهزة مسبقًا تصبغ الإنسان وإن لم يكن ساعيًا لها بجد فقد تتلقفه هوية الإلحاد على سبيل المثال دون قناعته بها.
ومن الحيل النفسية -الواعية أو اللاواعية- لمن يسعى في هذه المرحلة لاعتناق هوية بديلة قيامه بسلسلة من المواجهات أو المشاكسات ضد الهوية السابقة تتمثل بتعريض الأفكار والسلوكيات الجديدة للمجال العام بشكل يؤكد على التحدي والتجاوز. قد تتحول بعض هذه المواجهات إلى مظاهر عنيفة يقصدها صاحب التجربة لذاتها فهو يعلم أنه كلما كانت المواجهة أعنف كلما ساعدت على قتل الذات القديمة وتعززت لديه في المقابل هويته الجديدة. تشكل هذه التجربة للبعض صدمة عاطفية يشاركها مجموعة من المشاعر السلبية تجاه الماضي بما يتضمن من علاقات اجتماعية وأفكار دينية.
تحاول هذه الذوات أن تخلق نفسها من جديد من خلال مجموع الاعترافات والمواجهات التي تنبع عن إيمان بالنفس والثقة بقدرتها على الوصول للحقيقة بنفسها. لذلك، تخضع الذوات المؤمنة بدين الفرد إلى سلسلة من الاعترافات المتمثلة بكشف الذات “الحقيقية” ومشاركة القصص الشخصية أمام الآخرين. ولأن هذه الذوات لا تكف عن التشكل والتغير فإن الحاجة إلى الاعتراف تصبح لازمة طقوسية يظهر كثير من معالمها في مواقع التواصل الاجتماعي مع حاجة الكثيرين إلى بث اعترافاتهم اليومية. فمن خلال مجموعة من الخصائص التي تمنح الفرد الاعتراف ولو بضغطة زر أو تعليق قصير يقدم الدعم دون إصدار الأحكام تتصل الذوات التي تسعى للشفاء من حالة التشظي واجتياز مرحلة العتبية.
متى تنتهي الرحلة؟
منذ بضع سنوات أجريت مقابلات مع بعض الأمريكيين في دراسة ميدانية تعرفت من خلالها على جون الذي صرح لي أنه ما زال يبحث عن روحه وأنه لم يتصل بها بعد. كانت هذه خلاصة هامة لأمريكي أبيض بلغ من العمر حينها 88 عامًا بدأ رحلته في البحث عن ذاته في ريعان شبابه فالتحق بجماعة دينية معاصرة تتبنى دين الفرد بشكله المؤسسي[7]. ليست هذه الخلاصة وحدها صادمة فمن خلال القصص المختلفة التي تابعتها منذ اهتمامي بالتحولات الدينية في الوطن العربي تؤكد الشهادات على حالة من التيه وازدياد مشاعر الغربة النفسية والاجتماعية إضافة إلى استمرار الأزمات الوجودية وأسئلتها التي قد تؤدي إلى خيارات عنيفة لدى البعض فيها الكثير من الأذى النفسي والجسدي.
ولأن هذا الدين يدعو إلى مركزية الإنسان قد تصل إلى تأليهه فهو يحمله مسؤولية امتلاك ذاته وخلقها من جديد. وهي العملية التي لا تنتهي إذ كلما وصل الإنسان إلى نسخة أفضل من ذاته راقب وحفر في عيوبها من جديد إلى أن يهدمها فهو يقتل ذات تلو الأخرى ويقدمها قربانًا للحقيقة القابعة في المستقبل. الحقيقة التي لا تبدو أنها تشبع حتى تقضي على صاحبها أو تتركه في تشظيه وانقسامه يعيش مرحلة لا نهائية من العتبية.
وبينما تستقر تجارب الكثيرين عند هذا الحد ينجح البعض في تجاوز هذه الحالة بعد اتخاذ قرار مفاجئ بالعودة إلى الوراء للاتصال بذواتهم القديمة والتي حملت معها الحقيقة الأولى. يؤكد البعض ممن شاركني رحلاتهم الشخصية نحو العودة والتذكر حدوث تغير أثر على تصورهم لأنفسهم وتقبلهم للعالم واختفاء كثير من الأسئلة الوجودية المقترنة بأزمات نفسية.
بناءً على مجموع التجارب النفسية المكثفة التي يمر بها شبابنا اليوم يبدو أن التحول الديني يتحقق في حالة العودة والتذكر والتي هي وحدها القادرة على توحيد النفس المتشظية. فالتحول الديني لا يحدث إلا بوصول الإنسان إلى “الوحدة الجوانية” وهي غاية لا تتحقق إلا عندما تُصب في القالب الديني كما يشير جيمس مؤكدًا أن الدين “يتكفل بتحويل أكثر أشكال البؤس التي لا تطاق إلى أعمق أشكال السعادة وأدومها بسهولة وبشكل دائم وناجح”[8].
ربما من الجائز القول أن تحقق هذا التحول ما هو إلا بداية رحلة مستمرة من العتبية بمعناها الأوسع بوقوف الإنسان الدائم على عتبة جلال الله فمقصد الرحلة عبادته حتى نبلغ اليقين. أما قبلها يبقى الإنسان في تحول دائم بين النسيان والتذكر، فتلك رحلة الإنسان الأبدية.
المصادر
[1] محمد فتوح، “من يملأ الفراغ؟ الكيانات الدينية والثقافية في مصر بعد الثورة“.
[2] فراس السواح، دين الإنسان، دار علاء الدين (سورية، 2002)، 31.
[3] خولة طمليه، هل تؤمنون بدين الفيسبوك؟.
[4] تنشر وتتبنى مؤسسة مؤمنون بلا حدود الكثير من هذه الأطروحات. انظر مثلاً “الإيمان الحر أو ما بعد الملة” لفتحي المسكيني.
[5] Edwin Starbuck, The Psychology of Religion, Walter Scott (NY, 1900), 28.
[6] ويليام جيمس، تنويعات التجربة الدينية، ترجمة إسلام سعد- علي رضا، مركز نهوض للدراسات والنشر (لبنان، 2020)، 213.
[7] تعرف هذه الديانة بالتوحيدية الكونية، ولها انتشار في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبعض الدول الأوروبية.
[8] ويليام جيمس، تنويعات التجربة الدينية، ترجمة إسلام سعد- علي رضا، مركز نهوض للدراسات والنشر (لبنان،2020). 222.