قادت أحداث الربيع العربي عام 2011 حركات الإسلام السياسي في أكثر من قطر عربي نحو مواقع المسؤولية لتشارك في الحكم (مصر). وتتولى مهام الإدارة والتدبير اليومي (المغرب وتونس) بعد الاصطفاف على مدار عقود من الزمن في المعارضة أو الانزواء في المنافي أو داخل أقبية السجون.
فمنذ نشأتهم في سياق الصدام مع الحداثة الغربية بداية القرن الماضي لم يحظ الإسلاميون باختلاف تجاربهم على امتداد الوطن العربي بالتأييد والدعم والمؤازرة كما حدث إبان الحراك العربي سوى في حالات محدودة وفي سياقات خاصة (الجزائر و السودان).
لم يحِد حزب العدالة والتنمية ممثل تيار الإسلام السياسي في المغرب إلى جانب جماعة العدل والإحسان المعارضة للنظام عن التوجه العام للقوى الإسلامية في بلدان الربيع العربي.
فقد بدا هذا التيار في أعين جماهير المحتجين طاهرا من خطايا الدولة العميقة ما خوّله أهلية تقديم نفسه بديلًا عن بقية القوى الفاعلة في المشهد السياسي. رغم ما أبداه الحزب من تحفظ عن التفاعل والمشاركة في دعوات الاحتجاج يوم 20 فبراير/ شباط 2011، بمبرر مراعاة المصالح العليا للمغرب وعدم تعريض استقرار البلد للمخاطر واحترام مرجعية الحزب.
كان الموقف من الاحتجاجات شبه موحد بين إسلاميي المنطقة العربية ليس بسبب عداء ذاتي للفعل الثوري بقدر ما يندرج في باب التكتيك السياسي. فقد وجد الإسلاميون أنفسهم أمام مفارقة محيرة. فمن ناحية كلهم طموح إلى التغيير الذي يسمح لهم بالوصول إلى السلطة. ومن ناحية أخرى هم غير مستعدين لإزعاج النظام ما داموا لا يملكون من السلطان ما يجعلهم ندا له. ناهيك عن أنهم لا يريدون قطع حبل الود معه. خاصة وأنهم غير قادرين على توقع ما سيحدث وغير مطمئنين إلى مآلات ونتائج الحراك.
لذلك تعاملوا بمنطق الربح والخسارة مع النظام قبل غيره وبتكتيك نفعي محض لكنه مغلف بما ينسجم مع قناعاتهم ورؤيتهم الإيديولوجية.
هذه البراغماتية في التعاطي مع متغيرات الواقع الاحتجاجي بما يعنيه ذلك من مواقف مترددة وخجولة من مناصرة الاحتجاجات الشعبية لم تحل دون تولي حزب العدالة والتنمية -في سابقة من نوعها في تاريخ المغرب- قيادة الحكومة بعد صدارة الانتخابات التشريعية المبكرة. ثم قدرتهم على الصمود في وجه العواصف المتوالية بعد سقوط أو تراجع الإسلاميين عربيا بعد وأدِ المد الثوري وتحول النفس التحرري الديمقراطي إلى آخر سلطوي استبدادي برعاية مشتركة بين الدولة العميقة وبلدان الثورة المضادة.
فكيف استطاع مركب إخوان المغرب ضمان الاستمرارية في سياق عربي مضطرب؟ وأي حصاد وراء عشر سنوات من قيادة الحكومة؟ أم أن البقاء في سفينة المخزن وتطبيع العلاقات مع النظام صار في أعين الإسلاميين إنجازًا بحد ذاته؟ وهل قدم الإسلاميون خلال ولايتهم الحكومية قيمة مضافة يسجلها التاريخ لصالحهم في معركة التحول الديمقراطي وتكريس الحقوق والحريات في المغرب؟
البراغماتية أساس قوة إسلاميي المغرب
تداخلت عناصر ذاتية وأخرى موضوعية في تشكيل تجربة عشر سنوات (2012-2021) من قيادة الإسلاميين للحكومة في المغرب. بالموازاة مع دخولهم البرلمان قبل حوالي عقد ونصف باسم حزب “الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية”[1] شرع الإسلاميون المنشقون عن تنظيم الشبيبة الإسلامية في التغلغل جماهيريا بين الفئات المتوسطة والفقيرة مستغلين في ذلك الجناح الدعوي ممثلا في حركة التوحيد والإصلاح والجناح المدني المكون من شبكة وطنية من الجمعيات القطاعية (نسائية وطفولة وشباب وكشافة ومهنيين…) خاضعة لهم بشكل مباشر أو متوافقة معهم من ناحية الإيديولوجيا[2].
شكلت إيديولوجيا حزب العدالة والتنمية عنصر قوة ساهم في الاختراق السريع للعديد من الطبقات الاجتماعية بالمغرب. فما يحمله الإسلاميون من إيديولوجيا تبدو منسجمة إلى حد بعيد مع ثقافة ووجدان تلك الفئات المسحوقة التي كان لها الفضل في احتلاله الصدارة في أول انتخابات بعد أحداث عام 2011.
وكان ابتعاد الحزب عن مواقع المسؤولية عنصرا إضافيا ساهم في ارتفاع أسهم الحزب في البازار السياسي قبيل انتخابات 2011. خاصة وأن مصداقية الأحزاب المنافسة له شبه منعدمة وشرعية الفعل لديها مفقودة بسبب أدائها الباهت أو المخيب لآمال الجماهير في تجارب حكومية سابقة منذ آخر إصلاح دستوري عام 1996. فهذه الأحزاب أقرب ما تكون إلى الدكاكين السياسية التي تسعى وراء اقتسام الكعكة الانتخابية منها إلى تنظيمات سياسية حقيقية ترمي إلى خدمة المصلحة العامة.
يبقى وفاء الإخوان للبراغماتية في المعارضة كما في الحكومة أساس قوتهم وصمودهم[3]. فالسياسة لديهم رهينة بسياق ممارستها والمواقف تقدر بقدرها حسب ما تقتضيه الضرورة ويفرضه الواقع. هذا ما تكشفه بوضوح إطلالة سريعة في مسيرة الحزب منذ انخراطه في المشهد السياسي بالمغرب. فسيرتهم حبلى بالمواقف المتناقضة والمتعارضة أحيانا مع أصول وأدبيات أطروحة الإسلام السياسي. فمعيار تحديد الموقف هو “فقه اللحظة” الذي يضمن تحقيق الانسجام مع رغبات النظام دون أدنى اعتبار للقناعات الإيديولوجيا أو ضرورة تناغم المواقف[4].
بهذا النهج استطاع حزب العدالة والتنمية ضمان البقاء في رئاسة الحكومة لولايتين متتاليتين ما شكّل سابقة في التاريخ السياسي بالمغرب. فالمقاربة الاسترضائية للمخزن كانت ديدن الإخوان في مواجهة الدولة العميقة حتى إنهم في بعض المواقف صاروا مخزنيين أكثر من المخزن[5] نفسه من شدة دفاعهم عن خطايا النظام في العديد من الوقائع. كانت أشهرها تبرير ما حدث من عنف ومحاكمات لنشطاء حراك الريف.
واستطاع تحقيق مكاسب ذاتية استثنائية في علاقته مع النظام وتحديدا المؤسسة الملكية. فيما لم تتجاوز حصيلة عشر سنوات من التدبير تولى فيها قادته حقائب وزارية وازنة (الخارجية، العدل، النقل والتجهيز، الطاقة والمعادن، التعليم العالي، التنمية الاجتماعية…) المعتاد من تجارب حكومية سابقة.
المخزن أولا وأخيرا
قاد الإسلاميون النسخة الثالثة من تجربة الإصلاح الديمقراطي في المغرب[6] بعد دستور 2011 التي فرضه حراك داخلي قادته حركة 20 فبراير مدعومة بسياق إقليمي سادت فيه رياح الحراك العربي. ما جعل الرهان كبيرا على هذه المحاولة ورفع سقف الانتظارات من تجربة الإسلاميين اعتبارا للسياق العام للأحداث من ناحية. ولمرجعية الحزب الإسلامية والأصول الاجتماعية لقادته من ناحية أخرى.
انعكس هذا الرهان بوضوح في الجولات التالية حيث كسب الإسلاميون ثلاث جولات انتخابية متتالية (2011، 2015، 2016) بفضل ما أبدوه من “مقاومة” في مواجهة النظام وإصرار على تنزيل بعض الإصلاحات القطاعية مع حفاظهم على خطاب “المعارضة” في نهاية الأسبوع[7]. فعبد الإله بنكيران رئيس الحكومة السابق كان يضع رجلا في الحكومة وأخرى في المعارضة في بداية ولايته الحكومية ما عجل بأول عرقلة في وجه الرجل بعد سنة وسبعة أشهر فقط[8].
فهم الإخوان الرسالة جيدا فسعوا جاهدين إلى الإجابة عنها بإسقاط فزاعة الإسلاميين من خلال تزكية شعار “المشاركة لا المغالبة”. فمجرد حضور الحزب فاعلا في المشهد السياسي بحد ذاته معطى يستحق الإشادة والتنويه. ما جعلهم ينطحون المرة تلو الأخرى أمام جبروت المخزن قصد إثبات حسن النوايا للنظام وإبعاد تهم “الأخونة” والسعي نحو الهيمنة وتهديد إمارة المؤمنين بالمغرب.
لكن الهرولة وراء كسب ثقة النظام أفقدت الحزب عذريته السياسية بعد أن تحول إلى حزب على مقاس السلطة التي دفعته إغراءاتها إلى التفريط في قيادته (عبد الإله بنكيران) ومرجعيته النضالية. ليعيد بذلك تكرار سيناريو أحزاب عريقة دُجِّنت رغم أن بعضها كان لديه رصيد تاريخي يمتد لعقود من الزمن (حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مثلا).
تعزز هذا بتحول جذري لدى فصيل من مؤسسي الحزب الإسلامي لا سيما المسكونين منهم بهواجس سنوات السرية ومخاض البحث عن الشرعية والقبول لدى الدولة. فلا عاقل سوف “يفرط” فيما أفنى الإخوان شبابهم قصد تحقيقه عند أول احتكاك للحزب بالدولة حتى لو كان ذلك على حساب استقلالية الحزب أو مبادئه وشعبيته. فيما ينظر بعض القادة التاريخيين للحزب باعتباره أصلا تجاريا استثمروا فيه طويلا وقد حان موعد تحصيل الأرباح والمغانم الشخصية.
لذا لم ينزعج هؤلاء من الارتداد عن المسار الديمقراطي خلال ولايتهم الحكومية. كما أن ارتفاع نسبة الاعتقال السياسي وتزايد أعداد معتقلي الرأي ومتابعة الأصوات المزعجة للنظام بتهم عبثية (الاتجار في البشر، إدخال دبابة، محاولة الإجهاض، الاعتداء الجنسي…) في محاكمات تعيد إلى الذاكرة زمن سنوات الجمر والرصاص. ما يدل على العودة القوية للدولة الأمنية بالمغرب والتي للمفارقة طالما اشتكى منها الإسلاميون قبل جلوسهم على الكراسي الوثيرة في الوزارات وداخل قبة البرلمان.
يوم بعد آخر يتأكد أن قيادة حزب العدالة والتنمية الحالية تتجه نحو تكرار تجربة عام 2002 لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مع فوارق واختلافات طبعا. متناسية أن الحياة السياسية المغربية حبلى بتجارب لأمثالهم ممن زيَّفوا الحقائق وقمعوا الاحتجاجات وبرَّروا الواقع مدافعين وباستماتة عن المخزن طمعا في نيل الحظوة والرضى قبل أن يلفظهم السياق بعيدا إلى الهوامش بعدما ساهموا في فصل من فصول مسرحية “الانتقال الديمقراطي الموعود”.
المصادر
[1] أسس عبد الكريم الخطيب الحزب سنة 1967 في ظل حالة الطوارئ التي عرفها المغرب وظل على هامش الحياة السياسية بفعل رفض إعلان وتدبير الملك الحسن الثاني لمرحلة الاستثناء. فشلت حركة الإصلاح والتجديد التي سوف تتحول إلى حركة التوحيد والإصلاح في تأسيس حزب التجديد الوطني عام 1992 فدخلت في مفاوضات مع عبد الكريم الخطيب للانخراط معه في الحزب. وهذا ما تحقق عام 1996 عقب تنظيم حزب الحركة الشعبية الدستورية مؤتمرا استثنائيا دشنه بالتحاق عدد من أطر الحركة الإسلامية حيث أعاد هيكلته التنظيمية وانتخب عبد الكريم الخطيب أمينا عاما وسعد الدين العثماني نائبا له. بعد سنتين سوف يقرر الحزب في مجلس وطني تغيير اسمه إلى حزب العدالة والتنمية واتخذ المصباح التقليدي رمزا انتخابيا له.
[2] نشير إلى أن كل الهيئات والمؤسسات الموالية أو المساندة لحزب العدالة والتنمية والتنظيمات الإسلامية بوجه عام تتمتع بقوة رهيبة على مستوى التنظيم والكفاءة من حيث العمل الميداني ما ظهر بجلاء في التعبئة خلال المعركة الانتخابية.
[3] برع إخوان المغرب تاريخيا في تبني أسلوب براغماتي كلما فرضت ضرورة معينة ذلك ما جعل تجربتهم نوعية قياسا إلى باقي الإسلاميين داخل وخارج المغرب حتى عُد نقطة قوة الحزب التي مكنّته من تجاوز أزمات هدَّدت وجوده كما حدث في عقب الاعتداءات الإرهابية ليوم 16مايو 2003 بمدينة الدار البيضاء.
[4] ما أكثر الألغام التي انفجرت في وجه إسلاميي المغرب خلال قيادتهم للحكومة. من قبيل: المصادقة على قانون فرنسة التعليم في تناقض صارخ مع خطاب التعريب الذي يمثل ثابتًا من ثوابت مرجعية الحزب. وكذا التوقيع على اتفاقية التطبيع مع الكيان الصهيوني ما جعل عقودًا من النضال لدعم ومساندة القضية الفلسطينية بما تمثله من مركزية خاصة في مشروع الإسلاميين في مهب الريح. زد على ذلك المصادقة على مشروع قانون لتقنين زراعة القنب الهندي (نبتة الكيف).
[5] المخزن هو مصطلح له دلالة خاصة في اللغة الدارجة المغربية ويُصطلح به النخبة الحاكمة في المغرب التي تمحورت حول الملك أو السلطان سابقًا. ويتألف المخزن من النظام الملكي والأعيان وملاك الأراضي وزعماء القبائل وشيوخها وكبار العسكريين ومدراء الأمن ورؤسائه وغيرهم من أعضاء المؤسسة التنفيذية.
[6] كانت النسخة الأولى مع حكومة الراحل عبد الله إبراهيم (1958-1960) قبل أن تقال بعد سنة وخمسة أشهر فقط. وكانت النسخة الثانية مع الراحل عبد الرحمان اليوسفي (1998-2002).
[7] أعان هذا الخطاب الإسلاميين على اتخاذ قرارات قاسية توصف بأنها لا شعبية لتأثيرها المباشر على الطبقات الفقيرة في المجتمع مثل إصلاح صندوق المقاصة برفع الدعم عن المواد استهلاكية (المحروقات، السكر…) وإلغاء التوظيف المباشر بإلزامية اجتياز المباريات لولوج الوظيفة العمومية وإصلاح أنظمة التقاعد.
[8] تمثلت العرقلة في انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة واستقالة وزرائه بتاريخ 9 يوليوز 2013 ما أدى للانتظار 147 يوما من المشاورات قصد تشكيل حكومة ائتلافية جديدة. أعاد فيها المخزن تحديد نطاق وحدود اللعب للإسلاميين مستغلا موجة الردة الثورية في المنطقة العربية.