قبل وصوله للسلطة عبر “السيسي” عن إيمانه بدور معين يستطيع الفن أن يلعبه في الحشد والتجييش، وعند إقامة انتخابات الرئاسة[1] عام 2014م حث الفنانين على دعوة الشعب للمشاركة في الانتخابات لما يملكونه من قدرة التأثير على وعي الجماهير، قائلًا لهم: “الأمم المتقدمة تسوّق صورتها للعالم من خلال الفن والرسالة الإعلامية الصادقة”.
ولأن مصر في العقد الذي سبق ثورة يناير كانت حافلة بالأعمال الفنية التي تنتقد نظام مبارك، وهي أفلام عبرت عن الفقر والعشوائيات، فجاء السيسي واعيًا لقدرة تلك الأفلام وتنبؤاتها التي تحققت عام 2011 حين غضب المهمشون غير المسيسين، وهاجموا مؤسسات الدولة التي ما دأبت تقمعهم.
لذلك رأى السيسي في الأفلام التي تصور العشوائيات أنها تعرض صورة سلبية وتصدر شكلا للانفلات الأخلاقي والتدهور المعيشي في تلك المناطق، ما ينعكس سلبًا على الصورة الذهنية لمصر.
بدأ “السيسي” مبكرًا في إلقاء الرسائل المبهمة التي تحمل رؤيته ومشروعه للسينما والدراما والتي أصبحت دستورًا لصناع الفن في مصر، وفي احتفالية عيد الشرطة عام 2015م قال السيسي: “يا أستاذ أحمد أنت والأستاذة يُسرا، والله هتتحاسبوا، أيوه هتتحاسبوا، عايزين ندي الناس أمل في بكرة ونحسن قيمنا وأخلاقنا وده مش هيجي غير بيكم كقطاع من القطاعات، والدولة لها دور في ذلك”.
لم يكن هذا التصريح الوحيد الذي عبر عن امتعاض السيسي من الوسط الفني في مصر والذي جعله يعطيهم رسائل أشبه بتعليمات، إذ أن هناك العديد من التصريحات الأخرى مثل قوله: “يا بخت جمال عبد الناصر بإعلامه” وأيضًا “انتوا بتضُروا مصر جامد جدًا من غير ما تقصدوا” وربما يمكننا اعتبار أن تلك التصريحات كانت بداية نهج جديد سارت عليه قطاعات السينما والتلفزيون في مصر بعد ذلك.
محظورات بالبنط العريض:
لا يخجل النظام حاليًا من تقنين منع الحديث عن موضوعات بعينها بعدما درجت العادة على أن تختبئ أظافر البطش وراء مؤسسات الرقابة، فقد أنشأ النظام عام 2017م مجلسًا تنظيميًا جديدًا يشرف على الإنتاج، كما أصبح المحتوى الإعلامي خاضعًا هو الآخر للرقابة.
وتمثلت الصورة الأكثر فجاجة في قيام لجنة الدراما التابعة للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بإعلان المحظورات التي يتوجب على من أراد صناعة عمل في مصر أن يتجنبها، وعلى رأسها ألا تتضمن المسلسلات التلفزيونية مشاهد جنسية أو ما يحث على الإلحاد، وقطعًا عدم تناول الوضع السياسي، وكانت النقطة الأهم التي تُتَوج هي “توجه الدولة الجديد” والذي تَمثل في عدم تقديم رجال الجيش والشرطة وأي شخصيات أخرى تمثل السلطات إلا في صورة إيجابية، ويعمل تحت سلطة النظام سلطة رقابية نشطة لا تترك مجالًا للثغرات، فبينما كانت تكتفي الرقابة في عهد مبارك بمشهد حلقة أو حلقتين من مسلسل لتحكم بصلاحية عرضه، أصبحت الرقابة الآن تشترط مشاهدة ثلاثين حلقة من المسلسل أو أكثر على حسب عدد حلقات المسلسل.
في تقرير نشرته وكالة رويترز[2] عام 2019 تحت عنوان “السيسي يوسع حملة التضييق لتشمل خصمًا جديدًا.. (المسلسلات التلفزيونية)” قال المنتج “جمال العدل” صاحب الشركة الأضخم في مصر حتى صعود شركة “سينرجي” المملوكة للمخابرات العامة، والذي أنتج عشرات الأعمال التي اشتبكت مع قضايا المجتمع، لكنه أوقف تصوير مسلسلين خوفًا من المنع: “أنا حسيت ان ده مناخ ما أقدرش اشتغل فيه، أنا مبعملش حاجة غلط، الإنتاج الفني أصبح يمثل وجهة نظر واحدة، عين واحدة، رؤية واحدة”.
وفي هذا المناخ الطارد والمنفر لصناع الفن الحقيقيين، كان على الدولة أن تواجه إشكالية تتمثل في أن هذا القطاع قد يواجه حالة من الركود بفعل هذه الرقابة، كما أن المنتجين قد يتوقفون عن الإنفاق خشية الخسائر، وهنا جاء دور الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية و”سينرجي” لتمثلا البديل الذي يساعد في وزن الكافة في الساحة الفنية المصرية.
دكتاتورية سينرجي
إنها شبكة معقدة من الشركات، ولكن لا يوجد شيء معقد على الإطلاق في اكتشاف من يديرها ويتحكم بها.
تبدأ القصة من شركة إعلام المصريين والتي تعود ملكيتها إلى شركة “إيجل كابيتال” المملوكة للمخابرات المصرية والتي أُنشئت عام 2016م وتم تصدير رجل الأعمال المصري “أحمد أبوهشيمة” لإدارتها، وسرعان ما أفضت إدارة تلك الشركة في ظروف غير معلومة لإقصاء “أبوهشيمة” ليحل محله المنتج “تامر محسن” رئيس شركة “سينرجي” والتي كانت شركة إنتاجية متواضعة في السابق، حيث استحوذت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية على شركة إعلام المصريين وأوكلت إدارتها إلى “تامر مرسي” وبالتالي أصبحت سينرجي جزءً من الآلة الإعلامية الضخمة للنظام إن لم تكن الأهم.
في زيارة بسيطة إلى موقع الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية الإلكتروني، يمكن الاطلاع على قائمة قنوات التلفزيون والراديو والصحف التي تملكها وتتحكم فيها الشركة، ولن يكون من الصعب استنتاج أن كل تلك المنافذ الإعلامية التي تملكها الشركة هي المنافذ الإعلامية الأهم والأشهر في مصر.
من خلال ذلك النفوذ الواسع “لتامر مرسي” نمت شركته الأساسية “سينرجي”، عند الاطلاع على قائمة إنتاج “سينرجي” منذ تأسيسها عام 2003، ستبرز نتيجة واضحة وجلية مفادها أن إنتاج الشركة في عام 2017م فقط يكاد يعادل إنتاج الشركة منذ تأسيسها.
والملاحظة الثانية الأهم في قائمة الإنتاج أن الأعمال التي تنتجها الشركة هي الأعمال التي تستحوذ على نجوم الشباك في مصر في السينما والدراما، بالإضافة للمسلسلات والأفلام التي تحتفي ببطولات الشرطة والجيش.
تقدم “سينرجي” مجموعة متنوعة من الأعمال في السينما والتلفزيون، من الكوميديا والدراما إلى الأكشن كما تحاول دخول مجال الخيال العلمي على النمط الأمريكي أيضًا، ولكن الأزمة التي تواجهها هي أن تلك الخيارات العديدة هي إجبارية، بمعنى أنها تتبع ذائقة حكومية معينة وإملاءات قاسية قبل أن تصل إلى المشاهد، لتخرج في النهاية مجموعة من الأعمال التي تسعى إلى التلقين العقائدي المبشر برؤية النظام.
في تقرير نشره موقع Open Democracy يتفق مجموعة من أبرز صناع الفن في مصر كالمخرج (تامر محسن وخالد يوسف) والمنتج “يسري السماك” على أنه قبل المشاكل الحالية للصناعة، كان سوق الدراما المصري مشبعًا بالمسلسلات التلفزيونية التي تنتج خلال ذروة موسم رمضان، والذي كان يتضاعف عامًا بعد الآخر مع تضاعف وزيادة عدد القنوات التلفزيونية المختلفة، الأمر الذي خلق فرصًا أكبر لبث الكثير من العروض.
وأدت العديد من التطورات التكنولوجية لتسهيل عملية الإنتاج ما زاد أعداد المشاهدة في دول عربية خارج مصر، مما أكسب المسلسل المصري إيرادات أكثر، ومنح النجوم المصريين شعبية أكبر جعلته يطلب راتبًا أضخم، وأصبح إنتاج المسلسلات أكثر كلفة، وأدى سوء الإدارة والديون التي تكبدتها القنوات الخاصة إلى منح فرصة للحكومة للدخول على خط صناعة الترفيه.
بدأت “سينرجي” بالمسلسلات التلفزيونية، قبل أن تدخل السينما لتحتكرها هي الأخرى بمجموعة من النجوم والأفلام المتنوعة، فصناعة الأفلام في مصر ليست مربحة بقدر المسلسلات، نظرًا لعائدات الإعلانات المقدمة للقنوات التلفزيونية.
وكان اختراق التلفزيون متسقًا مع اهتمام الدولة بأن تصل رسالتها إلى القطاع الأكبر من المشاهدين الذين يزيدون بالطبع أمام التلفزيون، فقد لا يتمكن الجميع من شراء تذكرة سينما، لكن بالطبع سواء كانوا أغنياء أو فقراء فهم على الأغلب يشاهدون التلفزيون.
أنتجت “سينرجي” مسلسل “كلبش” والذي حقق شهرة كبيرة، تدور أحداثه حول رجل شرطة يكافح الإرهاب، وقام ببطولته الممثل “أمير كرارة” أحد الفنانين المقربين للنظام، والذي جرى الاستثمار في صورته الذهنية البطولية ليقدم بعد ذلك شخصية ضابط الجيش “أحمد المنسي” في المسلسل المفضل لنظام السيسي “الاختيار”.
تُمثل “سينرجي” وجه النظام الناعم بتوسعاتها السينمائية والإعلامية المتطورة تقنيًا عما كان يُقدم في الإعلام المصري، وفي الواقع لا تشكل “سينرجي” منافسًا لبقية الشركات الإنتاجية في مصر، لأنها تلعب خارج إطار المنافسة وهي التي تحدد من يعمل ومن يجلس في بيته، ويمكننا أن نستشف ذلك من الزلات اللسانية والمواقف التي يبديها العاملون بالمجال الفني دون أن يكون بها تحدِ صريح للنظام.
فلقد سبق للمخرج “يسري نصر الله” أن أعلن اعتزاله، ومؤخرًا هدد المخرج “داوود عبد السيد” بنيتهِ الاعتزال هو الآخر، أما الموقف الأشهر فكان من نصيب الممثلة “غادة عبد الرازق” حينما دونت على صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي “انستجرام” في نهايات العام 2018 بأنها تعرضت لتهديدات بالجلوس في المنزل وعدم العمل في حال عدم الإذعان لشروط شركة تمثل الجيش أو المخابرات.
سينما البُعد الواحد
بعد أن ينتهي عهد السيسي والنظام الحالي في مصر، وبغض النظر عن كل ما صُنع وما يُصنع في السينما والدراما، سيظل ذلك العهد مشهورًا بصفة أساسية هي مسلسلات وأفلام الشرطة والجيش، والتي تُركز على رجال شجعان ذوي بعُد أوحد هو البُعد الخيري، إنها شخصيات أكثر مثالية من “جيمس بوند” ذاته، لكنها ترتدي رداءًا مصريًا.
عادت الأفلام الوطنية إلى الساحة بقوة، وهو شيء كان مطلوبًا من الجمهور منذ زمن، ولكن المشكلة أنها عادت لتُردد صدى خطابات النظام ورؤيته للأمن القومي المصري ومكافحة الإرهاب من خلال أعمال حركة سيئة التنفيذ رغم ميزانياتها الضخمة.
دخلت الجوقة الوطنية إلى السينما بقوة أيضًا من خلال أعمال فنية استلهمت الماضي، ومرة أخرى تمت الاستعانة “بأمير كرارة” في فيلم عن الشرطة المصرية التي كافحت فساد الاحتلال البريطاني وهو “أرض كرموز”.
فيلم آخر قدم سردية النظام في السينما هو “الممر”، والذي تكلفت ميزانية إنتاجه نحو 6 ملايين دولار، حيث عٌرض عام 2019 في ذكرى حرب السادس من أكتوبر، وتناول الصراع العربي الإسرائيلي في سيناء خلال أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات فيما عٌرف بحرب الاستنزاف التي أعقبت هزيمة يونيو 1967.
جاهد الفيلم ليصور الجيش كالمنقذ والحامي الوحيد، ولكنه نجح في أن يكون صورة حقيقية لخطابات السيسي، مثيرة، ومبسطة وعاطفية إلى حد كبير، مع اقترانه بالدعوة لحمل السلاح ضد العدو أيا كان؛ كم تردد على لسان أحد شخصيات الفيلم وقد حظى “الممر” بمباركة السيسي الذي استضاف أبطاله في ندوة تثقيفية للقوات المسلحة مُشيدًا بما قدموه.
المصادر:
[1] المركز الديمقراطي العربي: توظيف السينما في المجال السياسي وأثره على الوعي السياسي في المجتمع المصري في الفترة 2012 إلى 2018م، إعداد: ندى ياسر عبد المعطي عبد اللطيف.
[2] تقرير خاص- السيسي يوسع حملة التضييق لتشمل خصما جديدا.. المسلسلات التلفزيونية- وكالة رويترز.
تعليقات علي هذا المقال