في عام 2020، لم يحدث إطلاقًا في تاريخ صناعة السينما، أن كان عامًا بهذا الجفاء والثِقل والركود الفني والتُجاري، تسببت الجائحة بانغلاق شبه كُلّي سواء محليًا أو عالميًا ما أقحم الصناعة في مأزق هائل، سلب الكثير من العُمال أشغالهم وألزمهم منازلهم، بيد أن الكارثة لم توقف السينما بشكل كامل، رُبما أعاقتها قليلًا ولكن لم تقضِ عليها، خصوصًا مع ظهور الأمل بالرجوع مرة أخرى تزامنًا مع فيلم المُخرِج كريستفور نولان الأخير Tenet، الذي تميز بجرأته الإنتاجية الضخمة، بالإضافة لمقامرته على اسم نولان كوسيلة لجذب جمهور المسافة الآمنة والقفازات وواقي الوجه إلى مقاعد السينما مجددًا، وأظن أنهم نجحوا حتى لو بشكل جُزئي في جذب الجماهير مرة أخرى نحو القاعات، ليُصبح أول الأفلام في السينما بعد الركود الكارثي والإغلاق القسري.
وبعد صحوة نولان، طل علينا المُخرج والكاتب المميز تشارلي كوفمان بفيلم جديد، يحاول فيه إرجاع الأمور لمجاريها مرة أخرى، ولكن هذه المرة على منصة Netflix، والحق أن المنصات مثّلت ملاذًا لمُحبي الفن بعد غلق السينمات، لتتحول إلى نافذة للعرض والإنتاج وتُنقذ الموسم من الناحية الإنتاجية وعدد الأفلام.
حصل فيلم I’m Thinking of Ending Things المُقتبس عن رواية بنفس الاسم للكاتب إيان ريد على إشادة كبيرة من قِبل النُقاد والجمهور المُتابع للأفلام. لذلك ومن هُنا؛ لن نناقش فنيات تقنية أو إخراجية أو حتى إنتاجية، نحن فقط سنحاول مناقشة طريقة كوفمان الحكائية في رواية القصة، بما يُناسب نمط الحكي الخاص بكوفمان المتأثر بالنمط الأدبي والجو العام للرواية القاتمة.
البداية: هروب البطل من واقعه
يحمل الفيلم خصوصية تشارلي كوفمان في قص الحكاية، لينقل مُعاناة الشخوص الداخلية التي تتبدى في مُعظم أفلامه، ويظهر هذا النوع من المشاعر بوضوح من خلال بطل القصة جاِك المكوّم على نفسه، والمُكدّس بالمشاعر ولكن بشكل عكسي، فهو لا يُصدّرها للمُجتمع ليُساعد في بناء سياق اجتماعي وشخصية لنفسه، إنما على النقيض، يُغذي ذاته بالمشاعر؛ وبُناء عليه يضغط على اللاوعي بالذكريات والصوّر الذي يعطيها له المُجتمع بشكل ضخم وهائل ولكن بطريقة ليست جيدة أو مألوفة.
يُمكننا القول أن البطل رقيق القلب ولم يحتمل العالم فيأخذ المعلومات ولكنه لا يرُدها بذراع أخرى عبر أفعال اجتماعية أو سياقات تفاعلية كرد فعل مجتمعي صحي، بل يأخذها ويبني بها بيوتًا وسيارات ومباني خرسانية وحتى نساء جميلات بفساتين شتوية وقصات شعر لطيفة وأسماء مختلفة في كُل مرة، كعوالم موازية لهذا الواقع، يحاول النجاة بينها، وأقصد هنا أنه يحاول النجاة بين ذكرياته، كفعل مُضاد لتلك الذكريات التي تركت أثرًا سيئًا عليه، بل ويصنع لنفسه تحديًا يصارع فيه العجوز أشخاصًا أصحاء، فمن ستؤول له الكفّة؟
هذا هو لُب المسألة، كيف سينتهي الصراع بين الثنائي المتوالي على تمرير الكُرات بسُرعة والتخلي عن مسئولية قيادة القصة، لأنه لا توجد شخصية رئيسية مفهومة للمتلقي تساعده على فهم الأحداث بشكل طبيعي؛ فهي تبدو غامضة، دون أي خيوط توضح خلفيات تلك الشخوص وما وراءها، لذلك فالشخصيات تبدو للوهلة الأولى شيطانية، دون جذور، تركت نفسها للصوت الداخلي كي يجوبها ويتمشى بها موضحًا ما يفرضه السياق.
كُل ما تتميز به الشخصيات هي رغبات، مُجرد أصوات تقود مَركَب الحدث وتدفعه للأمام، لذلك فالفيلم يُعتبر فيلم أصوات داخلية؛ يشُدها إله حسب رغبته الكامنة، شخصٌ أعلى؛ بيد أنه يفقد السيطرة في بعض اللحظات فتصدر عنه التفاتة مفاجأة يقتنصها المُشاهد حتى يفهم سياق الحدث.
تشارلي كوفمان: ماتريوشكا عجوزة
منذ بداية حياته الكتابية، وهو يتعمد أن يبني عوالم مُركبة، فخطوطه السردية ثخينة وبطيئة ولكنّها ناجحة في إيصال الفكرة لخط النهاية، فيحشد كوفمان بكثافة قصص متعددة الطبقات لا يستطيع المرء أن يتخذ فيها رأيًا محددًا، أو يقر بصواب المعقول منها، فعوالمه تدور دائمًا في اللامعقول بعيدًا عن الرومانسيات الهوليوديّة التي تُهدد حقائق العلاقات الاجتماعية وتُزيف الوقائع بمُغالاة وهشاشة، ولا تكتفي بحقيقتها المُتخيلة على الشاشة؛ بل يحدث نوعًا من الإزاحة فيأخذ الإيهام الرومانسي مكان الواقع المُعاش، لهذا نحتاج هذا النوع من الأفلام، لأنه يدور بمعزل عن الميلودراما المُبتذلة، ويخلق عالمه بعيدًا عن الافتعال، حتى لو كان عالمه غير واقعيًا في الأساس، ولكنه يتماس مع الواقع بشكلٍ أو بآخر.
لذلك؛ فقصص كوفمان حتى إن لم واقعية بشكلٍ كاف بيد أنها على الناحية الأخرى تحمل في طياتها الكثير من الطبقات والإسقاطات التي لا تجد مآل نفسها إلا الواقع، مثل الدُمية الروسية (ماتريوشكا)؛ تقع عينك دائمًا على الطبقة الأولى، الغطاء اللامع، والذي من الممكن أن يُقدم الكثير من التفسيرات؛ لأنه من المفترض أن يعمل ك”فَرشَة” للتمهيد لما بعده، ولكن في فيلم كوفمان تكون الطبقة الأعلى من الدُمية بمثابة السماء التي تُغطي كُل شيء، طبقة شفافة لن تستطيع أن تراها، لأنه أولج المُتلقي بشكل مُباشر في خضم الطبقة الثانية دون تمهيد، وهذا الأسلوب الغريب للحكي هو ما أضاف لمسة من الغموض على القصة، فأصبحت الطبقة الثانية هي حفل الاستقبال للجماهير من خلال المشهد الافتتاحي وما بعده، لتنقسم هذه الطبقة لجزئين؛ جُزء في السيارة وجُزء في منزل الأبوين.
الجزء الأول الذي يبدأ برحلة إلى منزل الأبوين، داخل السيارة فيما تضرب عجلات السيارة الأرض، وينغلق الزجاج الشفاف على أصوات داخلية تُمارس عملها المُفضل وهو الحديث. تبدأ الشخصيات بالحديث، يحاول (جاِك) أن يجذب أطراف الحديث مع الفتاة جانبه، فيتطرق الحديث لأشياء أعمق وأعمق من مجرد حديث عابر بين حبيبين، في الشعر والموت والزمن، تحاول الشخصيات أن تُمنطق حديثها قدر المُستطاع، لكن باب الحديث دائمًا “موارب” لاستقبال موضوعات متنوعة يشعر المُشاهد أنها مُجرد تخيُلات وجودية عن الحياة والخلق والزمن، وتتعرقل الشخصيات بأشياء مألوفة، أو يجري الحديث عنها بشكل مُفاجئ تُفسح المجال بشكل أكبر للحوار حتى يأخذ أكثر من سبع عشرة دقيقة، حتى وصول الشخصيات إلى منزل الأبوين.
وهُنا يبدأ الجُزء الثاني من الطبقة الثانية، ونلاحظ هُنا أن المكان يتسع والألوان تأخذ منحى ظلاميّا بعض الشيء، ونُلاحظ ذلك في توزيع الإضاءة وقطعات المونتاج، ورغم ذلك يشعر المُشاهد بأن هُناك حُرية حركة خصوصًا بعد تناول الطعام، ولكن هُنا يحدُث خلل في الطبقة الأولى فيستدعي صورًا وشخوصًا لا يجدر بهم الوجود، فيبني وعيًا داخل اللاوعي الخاص به؛ بوجود معلومات يراها ويجمعها ويفحصها ليكوّن قصص وذكريات خاصة به.
ومن ثم، تبدأ الطبقة الثالثة في التكوّن من تلك الصور، محاولة بناء وعي داخلي يتصرف بمعزل عن الطبقة الأولي الشاملة، وهُنا يبدأ الفيلم في التحرك برتم أسرع وفي مجال أوسع، فيجري الحديث في أروقة المدرسة، ويظهر العجوز الذي يُمثّل الطبقة الأولي، ويتصرف كأنه جزء من الحكاية، ويفقد هذا العجوز قداسته، ويتخلى عن تحريك الخيوط عنوة وينزل من مرتبة الإله المُعذب، إلى رفيق حكاية تجيش بالعاطفة، فيُعانق لا وعيه، وتتحرك الشخوص بحرية أكثر، فتصنع لنفسها رؤية مُختلفة، تتصورها على هيئة رقصة رقيقة في رواق مدرسي لأشخاص يشبهونهم، كتخيل لمُستقبل كاسف، واستذكار لماضٍ لم يحضروه بعيونهم إنما شعروا بآلامه، تلك الرقصة التي لم تُحدد أي شيء، بيد أنها طاقة كامنة، عنفوان يمغنط الشاشة الرتيبة ويعطيها بعض الحيوية، إنها رقصة اللاوعي، رمزاً لتحرر الخيال من قيود ماضٍ لم يُجد شيء.
انعطافة سوداوية: هل أنا خنزير؟
وفي آخر ربع ساعة من الفيلم، تظهر الطبقة الأولى من الدمية/الفيلم، والتي لم تكن لامعة على الإطلاق، بل سوداء كامدة، يشوبها البؤس والوحدة، تظهر حقيقة الدُمية، مُجرد أستاذ فيزياء يحاول صُنع عالم لم يستطع اختراقه. ومُجرد تكوين العالم الذي كان فيه بمثابة الإله، ويحاول فيه تحريض الأحداث للسير بمنهجية معينة حسب رغبته، يتخلى عن حياته الحقيقية، وينكف عن العيش بها، هاجرًا إياها إلى الأبد، ويستدعي المشهد الذي يتجرد فيه العجوز من ثيابه كم كبير من البؤس، ويلقى نفسه بجانب الخنزير الذي تغذى عليه الدود في الأرض، ليعرض للمُشاهد سؤال، هل أنا خنزير؟ فقد هشمتني الوحدة، ولم يزل أثرها واضحًا على جسدي.
“سيكون كُل شيء على ما يُرام؛ عندما تتوقف عن الحسرة كونك خنزير، أو خنزير يؤكل من قِبل الدود، وهذا شيء أكثر فظاعة، هُناك أحدٌ ما عليه أن يكون خنزير يؤكل من قِبل الدود؟ صحيح؟ ومن المُمكن أن يكون هذا الشخص أنت”
هذه جُملة قالها الخنزير النصف مرأي في الفيلم، وهُنا ينقلنا لطبقة درامية أعمق في الدُمية، أقصد نواة الدُمية، والتي تستجلب من الماضي أبشع اللحظات لكي تحوّلها بفعلٍ آلي إلى شيء أكثر رقة وأقل شراسة وتعذر، بيد أن تلك الطبقة تُمثل نوعًا من المواجهة والمُكاشفة، ليست اجتناب للحقيقة أو الالتفاف حولها، بل بوحًا وتعرية. حتى نصل للعتبة الأخيرة من الفيلم، وهي أشبه بمرثية على شباب ضائع، وخوف مارق، وخجل مُقيد للنفس؛ نداء خيالي، وأنشودة ملائكية حول الوقت الذي لم يفعل فيه المرء شيئًا يجعله حقيقيًا، وليس أحمقًا يدور في حلقات داخل رأسه، وهي على الجانب الأخر دعوة للثورة على النفس، دعوة للخروج من القيد، بكُل مناحي الإحساس، والاندفاع للعيش بسلام كشخص طبيعي، لا يُكلفه الأمر سوى إيجاد امرأة يُحبها وتحبه، أو كما يقول: أظفر بامرأة؛ أنالها لنفسي.
تعليقات علي هذا المقال