لم تكن نشأة فن الرواية محددة بتاريخ أو زمان معين، ولم تكن فنًّا قديمًا قائمًا بذاته كالشعر، ولا نوعًا رائجًا بسيطًا كالقصة، وإنما وُلدت حديثًا من رحم الثقافة الغربية، فنستطيع القول أنها أحدث فنون الأدب، وقد حاول المختصون في ذلك المجال البحث عن بدايتها، فاجتمعت أغلب الظنون على أن “دون كيشوت” كانت الانطلاق، ومنهم من يرجعها إلى عجيبتَي الإغريقيين “الإلياذة” و”الأوديسة”، إذ يقولون بأن الملاحم كانت الشكل الأول الذي تطورت عنه الرواية حتى وصلت لشكلها الحديث، وفي مقابلها ظنون أقل تعزو التقدم في هذا الفن إلى العرب، حتى وإن لم يتخذ النص حينها شكل الرواية الذي نعرفه أو الذي تعرفه نصوص الرومانيين واليونانيين، فيرجعونها إلى ابن طفيل في العصر الذهبي للإسلام، وأبي العلاء المعري، وغيرهما.
لكن الراجح أن الرواية ظهرت في الغرب وتبلورت ونضجت إلى شكلها الحديث قبل نحو ثلاثة قرون، ثم انتقلت إلى العرب على يد المصريين المبتعثين إلى أوروبا، الذين تأثروا بحركة الثقافة هناك، فعادوا إلى بلادهم ليترجموا هذا الشكل الأدبي الذي ظهر في الغرب حديثًا آنذاك، فكانت “مواقع الأفلاك في وقائع تليماك” باكورة هذا الفن لدينا في العالم العربي، ولم تعدُ كونها ترجمةً من رفاعة الطهطاوي، عام ١٨٦٧م، لكنها على ذلك كانت إيذانًا بتعرفنا على هذا الفن، ثم الانتقال إلى محاولات التقليد التي تركز على الشكل أكثر من المضمون، ثم محاولات التكوين التي تذهب إلى ما هو أبعد من الشكل، وقد فهمناه، فتُعنى بمواضيع من الواقع الذي حولها، ثم الانتقال والانتشار إلى مراحل وأشكال وأنواع ومضامين تناسب المجتمع الذي انتقلت إليه الرواية.
وتعد “زينب” لمحمد حسين هيكل هي أول رواية عربية، على الراجح، والتي كانت في عام ١٩١٣-١٩١٤م، أو “حسن العواقب” للأديبة اللبنانية زينب فواز التي كانت في ١٨٩٩م، ورافقتها محاولات أخرى قادمة من لبنان، على يد خليل الخوري، حيث انبرى الأدباء حينها لتجربة هذا النوع، كما فعل اليازجي والمازني وطه حسين وتوفيق الحكيم وعباس العقاد، وشيخ القصة العربية محمود تيمور، والأديب العراقي محمود أحمد السيد، وغيرهم.
وليس عيبًا أن يكون منشأ الفن غربيًّا، خصوصًا أن لنا -نحن العرب والمسلمون- السبق في فنون كثيرة، وعلوم أكثر، فليس من الصحيح -في رأيي- أن نلوي عنق التاريخ في أي زمان ليوافق منشأ فن، ولد أصلًا في مكان آخر، فلمَ لا تكون محاولات العرب والمسلمين الذين سبقوا ظهور هذا الفن محاولات أدبية عظيمة ورائدة لكن في أنواع أخرى غير الرواية؟ وعلى كل حالٍ لستُ مؤرخًا لأفتي في مسائل أفنى أهلها أعمارهم في سبيل كشف أغوارها، لكنه رأي المتعلم فيما يقرأ ويفهم.
ماهية الرواية
يتعطش القارئ خلالها للأحداث، ويتابع الحبكة بظمأ شديد، ويُسقى بين فينة وأخرى بما يريحه هنا أو هناك، حتى تتعقد الأحداث وسبل الشخصيات مجددًا، فيتجدد الظمأ، حتى يُروى القارئ، بينما يحمل بين يديه الرواية. ومن هنا نفهم أصل التسمية عندنا ومنشأها، ومن هنا كذلك أفهم سر الرواية والشيء الذي يميز الراوي الحقيقي عن غيره، أن يعرف كيف يسقي القارئ ويرويه، فهو راوٍ، لكن الذي يميز الضليع في هذا الفن أن يعرف كيف يعطّش القارئ أولًا، فلو كان ممتلئًا غير متعطش، متخمًا لا يسعه أن يتنفس حتى، فلن يكون له في روايتك حاجة.
والرواية في معناها الأدبي، حسبما نفهم لا ما نحفظ، هي سرد أدبي نثري طويل، بل أكبر الأشكال الأدبية حجمًا، يعتمد على الخيال في أساسه، وقد يلمح إلى الواقع في مجريات أحداثه، تعتمد على قوة خيال كاتبها وقدرته على السرد بإطنابٍ غير ممل، ولا بإيجاز يختصر الأحداث والشخوص في قصة قصيرة أو طويلة بعض الشيء، فيخرج عن الفن إلى فنٍّ غيره، ليكون مولوده مشوّهًا، لا رواية ولا قصة.
وعلى هذا فليس للرواية تعريف موحد يحتكرها، وما يميز الرواية عن غيرها أنها متطورة دائمًا، تعتمد على الخيال وتعدد الشخصيات والأحداث والحبكة، والتدرج والتنقل بين حدث وآخر وشخصية وأخرى، وقد تتخذ من ثلاث شخصيات مثلًا، قد تتقاطع مصائرهم في النهاية، أبطالًا لها، فليست مقتصرة على موقف ولا قصة ولا حتى حياة شخصية واحدة أو زمن واحد.
وأرى في الرواية أنها ليست فنًّا حديثًا وُلد بمعزل عن إخوته، وإنما جاءت تطورًا لكل الفنون الأدبية التي سبقتها، شاملًا لغيره، قادرًا على أن يكون داخله ما يمكن استخلاصه في قصص قصيرة، وقد يكون الحوار أو مجرى الأحداث فيها من الشعر ما يمكن استخلاصه في قصيدة، وقد يحوي الحوار ما يصلح لأن يُستخلص مسرحيةً، وعليه فإن الرواية قد تكون مِن أسمى هؤلاء جميعًا وإن كانت أحدثهم.
وعناصر الرواية الأساسية: الفكرة التي تكتب من أجلها الرواية، أو التي تريد إيصالها بعدما يفرغ القارئ من قراءتها، والزمان الذي تدور فيه، حتى لو كان مستقبلًا بعيدًا، والمكان الذي يحوي الأحداث، ولو كان من وحي خيالك، أسسته أنت وأثثته، والشخصيات التي يحويها هذا المكان ويجري عليها الزمان، وإذا اجتمعت الشخصيات فلا بد من عنصر مهم، وهو الحوار، حتى لو لم تجتمع الشخصيات واختلت كل شخصية بنفسها، فلا بد من حوار ينبغي أن نسمعه ولو بين البطل وذاته، وبينما يجري هذا كله، كأنه في “خلّاط”، فهذا الخلاط هو الحبكة، التي تجعل مبنى الرواية متجانسًا، وأحداثها وشخصياتها تسير على نحو متزنٍ بين التشويق والغموض غير المبالغ فيه.
ولا بد حين يشغل الراوي خلاطه ويجمعه فيه عناصره أن يكون مريدًا لشيء ما، يبحث عنه، يجعل الشخصيات والأحداث مسخرة له، وهو العقدة، التي تبدأ منعقدة في البداية، ثم نبحث عن حلها طوال الرواية. وقد يكون موضوعها اجتماعيًّا أو رومانسيًّا أو سياسيًّا أو غيرها.
لماذا الرواية؟
نشأت الرواية في أوروبا لتعبر عن الطبقة الوسطى التي تبحث عما يسليها أو ما يروي مشاغلها، ونشأت عندنا بفعل الترجمة والتأثر بالغرب ثم صارت لها خصوصيتها التي تنفرد بها عن الرواية الغربية، فهمومنا غير همومهم، وعُقدنا غير عقدهم.
وانتقلت الرواية من مرحلة المحاكاة والتقليد إلى الانشغال قليلًا بالماضي الذي تحن إلى شخصياته وأحداثه، ثم إلى المجتمع حولها لتوثّق ما يجري فيه، وتحاول فهم تعقيداته وفك ألغازه، كما فعل ذلك ببراعة نجيب محفوظ في أعماله المتوّجة بالثلاثية، وكذلك المبدع خيري شلبي، ورأينا كذلك ما يعالج مسألة الهوية، أو على الأقل يطرح سؤالها المعقد البسيط في الآن ذاته، مثل “موسم الهجرة إلى الشمال” القادمة من الجنوب، من عند الطيب صالح، الذي مثّل حينها نقلة مهمة، بين الغرب الذي نتأثر به، والشرق الذي ننتمي إليه، لنحاول أن نقرر فيه النهاية: من نحن؟
لكن الرواية لم تلبث طويلًا في ذلك، حتى باغتها الواقع المر، فجعلها رواية واقعية تُعنى بآلامه، وكانت نقطة الاستفاقة تلك هي النكسة، التي فاجأت الجميع، فرأينا مردها على أعمال غسان كنفاني في فلسطين، الرجل الذي أفنى ما أفنى من عمره الصغير، يبحث عن حل لتلك العقدة العربية الأصيلة، عقدة الهزيمة، فوجدنا فيما كتبه التخلي عن الحل الجمعيّ، والوحدة الموهومة، ليقدم الحل واقعيًّا مرًّا، في المقاومة الفردية، كلٌّ مسؤول عن شرفه وأرضه وعرضه، لا حكومات ولا أنظمة ولا حُلم عربي جماعي.
وكانت هذه هي الواقعية التي أكسبت الرواية معاني أهم من التسلية، ونزعت عنها لباسها الترفيهي المتّهمة به دائمًا، ووضعت الروائيّ في مكانه الحقيقي، مقاومًا إذا أراد أن يقاوم، وباحثًا عن الحقيقة وكاشفًا لها، لا يختبئ من خوفه خلف نصوصه البعيدة عما يراه الناس كل يوم.
وتعددت مواضيع الرواية العربية فلم تبقَ سياسية أو اجتماعية فقط، وإنما رأينا منها ما عُني بهموم دينية في الأساس كما فعل نجيب الكيلاني، ورأينا كذلك صنوفًا ترفيهية، على رأسها الروايات البوليسية والمغامرات والفانتازيا، التي وصلت ذروتها مع الألفية الجديدة، على يد نبيل فاروق وأحمد خالد توفيق.
وها هي الرواية تصل إلى هذا الجيل الجديد، لنجد محاولات حثيثة، ومميزة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لكنها قليلة وسط هذا الكم المخيف من الابتذال والإسفاف، الذي جعل الشهرة أساس النشر، لا جودة العمل المكتوب، فتذهب كثير من دور النشر إلى المشهورين على مواقع التواصل الاجتماعي (إنفلونسرز)، لتطلب منهم الكتابة مقابل عروض مغرية، أهمها معنويًا لقب “كاتب” الذي سيلازم المشهورين وسيحضر الكثيرون حفلتهم، وتجني دار النشر من ورائهم الملايين، والمتابعين، والانتشار، وتجني الثقافة العربية من خلفهم مخلفات فكرية، وأجنة مشوّهة، ولغة ركيكة، وعصر مظلم من عصورها، ووصمة سوداء في جبينها.
والجريمة هنا موزعة على ثلاثة، الجمهور الذي جعل من المحتوى المبتذل مدعاةً للشهرة، وهو الجمهور نفسه الذي يتهافت على أي منديل ورقي يلقيه هذا المشهور، لا مجرد عمل مطبوع، ودار النشر التي تقدّم المادة على الجودة، فتملأ الأوراق بكلامٍ أرخص من تكلفة طباعته، والأستاذ المشهور نفسه، الذي يجهل أنه جاهل، أو يعرف أنه جاهل ويتجاهل ذلك، فيضع كلامه العامي الذي هو أدنى من كلام المصاطب (وكلام المصاطب كثيرٌ منه حكيم وبليغ)، بين دفتي كتابٍ، يضعه لاحقًا في دفتر نجاحاته، حين يسأله أحدهم: ماذا فعلت في حياتك؟
وعلى ذلك كله، تبقى الرواية الحقيقية منزهة عن هذا الإسفاف في محتواها، الذي على كل حالٍ يختفي مع تجدد الزمان، ليبقى ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، أعمارًا أطول من أعمار كتابه، ولنا في مكتباتنا الزاخرة بكتب أعمارها عشرات ومئات وآلاف السنين حتى، عظةٌ ودليل وعبرة.
أثقل من الكتب.. وأخف منها
يبقى الاتهام القائم للرواية، الموجه في كثير من الأحيان من قبَل “النخبة المثقفة”، التي تحاول احتكار مصادر الثقافة على ما بين أيديها ويلقى رواجًا عندها، أن الرواية أقل بكثير من الحجم الذي تأخذه، وإذا أردتم قيمة حقيقية وثقافة ووعيًا وفكرًا فابتعدوا عن الروايات، وتخرج أحاديثهم في كل مناسبة ثقافية، وقبل كل معرض كتاب، جاهلين أهمية الرواية ومحرومين من محيطها الواسع.
والحقيقة أن الرواية منذ بدئها كانت مصدرًا مهمًّا لا للوعي فقط، وإنما للتغيير نفسه، لا تفعل فعل الكتب بأن يفهم قارئها ويعي، وقد تبقى معرفته حبيسة جوفه، وإنما تعمل على العاطفة فتجيّش ما بصدره ليكون في يده، وتشحن عاطفته فينتقل القول إلى الفعل، ولا يختبئ خلف ما يعلم مما لا يعلم، وإنما يغوص في أغوار ما أمامه ويقطع الطريق للمواجهة حتى يصير ما لا يعلمه شيئًا مما يعلمه.
وعلى عكس الكتب التي قد تصل إلى فئة على مستوى معين من الثقافة والتعليم، فإن الرواية تصل إلى ما هو أكثر بكثير، ولا يُتطلب فيمن يقرأها مستوى معينًا من التحمل ليكمل ما يقرأ، وإنما تقوم في الأصل على ما يقطع الملل، ويجذب بالتشويق.
ولا ينسى التاريخ روايات عظيمة صنعت أحداثًا فارقة في مجراه، وإن نسي كتبًا على رفوفه يغطيها التراب، فنجد رواية “كوخ العم توم” للكاتبة الأمريكية هيريت بيتشر ستو، التي نشرت ١٨٥٢م، قبل سنوات معدودة من الحرب الأهلية الأمريكية، التي أسست للقضاء على العبودية المتوغلة هناك، وكان ذلك هو موضوع الرواية، التي تدور من أجل فك عقدتها الأحداث وتتصارع الشخصيات، وحين قرأتها انتابتني ربما مشاعر عظيمة وإن لم أكن من السود المسلسَلين حينها في الأغلال، ويضربهم سيدهم بالسوط على سبيل المتعة والسادية والاستعباد، فكيف بمن وصلت إليهم حينها؟ وقد رأوا فيها الخلاص من معاناتهم، فلم تكن لتسليهم وتعدهم بعالم موازٍ أفضل، فيستعينوا على الآلام بالأحلام، وإنما نثرت كلماتها على أسماعهم كالملح على الجرح، فوضعتهم في مواجهة حقيقية مع واقعهم الحقيقي، فتحقق ما يرجونه، متأثرين بتلك الرواية التي يدين لها التاريخ الإنساني بالكثير.
ولا تقل أهمية عن الكتب ولا تقل الكتب أهمية عنها، لكن هذا صنفٌ وذاك صنف، ولكلٍّ وظيفته، وإن كان الكتاب يصنع مثقفين ويتأثر بها الروائيون بل وقد يستلهمون منه أفكار أعمالهم، مثلما استعانت كاتبة كوخ العمل توم في أثناء روايتها بكتاب العبودية الأمريكية، فإن الرواية -كما رأينا- كفيلة بأن تصنع التاريخ بعينه، ليتبارى المثقفون في كتابة الكتب حوله فيما بعد.
ومَن منا لا يعرف “١٩٨٤”؟ فعلت هذه الرواية ما فعلت في نفوس قارئيها، بل ربما زجت بحامليها إلى السجن متهمين في بلدان أخرى، لأنها تفضح حيَل الأنظمة القمعية وممارساتهم.
وعربيًّا لم تشحننا بخصوص القضية الفلسطينية أحدٌ بقدر ما فعل غسان كنفاني، فكلنا كنا رجالًا في الشمس مع أبطاله، وأبناءً لأم سعد، نسير في أرض البرتقال الحزين، ونحمل بداخلنا حلم العودة إلى حيفا، وكل شبر لنا في مدننا وقرانا المحتلة.
ومثله فعل إبراهيم نصر الله في مشروعه “الملهاة الفلسطينية”، وهذا أيضًا ما أخذتنا به رضوى عاشور إلى الطنطورة من خلال “الطنطورية”، وغيرهم الكثير ممن حاولوا، ويحاولون.
والأمثلة، لمن يريدها، كثيرة، والأدلة كافية، على أن الرواية ليست بهذا الحجم الضئيل، المنزوي في أحد أركان الثقافة، وإنما هي أصل من أصولها، ومنتَجها الوحيد الذي له هذه القدرة الربانية العجيبة على أن يفك عزلة الثقافة عن واقعها، ويسد الفجوة بين المكتبات والقراء، ويصنع بالنفوس ما تصنعه الكتب والخطب والشعر والمسرح والقصص والمقامات والملاحم مجتمعين في آن واحد، إذا صحت فكرتها وأخلص كاتبها.
نهايةً، فهذه هي الرواية باختصار شديد، أرجو ألا يكون مخلًّا، وهي التي أخف على نفوس القراء وأعينهم ومسامعهم وعقولهم وقلوبهم من الكتب، وهي في الوقت نفسه أثقل عندهم أثرًا، وأطول عمرًا.
تعليقات علي هذا المقال