تعدّ السّوق القديمة في سراييفو “الباشتشرشيا” وجهة أساسية لمن أراد زيارة البوسنة، وحين تطأ قدما السّائح أرضها، ينتابه شعور بالدّهشة للطّابع الإسلامي الغالب، المتمثّل بعدد كبير من المساجد في بقعة صغيرة لا تتجاوز خمسة كيلومترات، ما يشير لكثرة عدد المصلّين والسّكّان المسلمين المقيمين في المنطقة منذ دخول القوّات العثمانية إليها عام ١٤٦٣م، في مفارقة هائلة مع العواصم المجاورة لها مثل بلغراد عاصمة صربيا، وزغرب عاصمة كرواتيا، اللتان لا تحويان سوى مسجدًا واحدًا في كلّ منهما.
وحين يبدأ السّائح بالتّعرّف عن قرب على المواطنين سيتفاجأ بانتشار أسماء عربية وإسلامية مثل أحمد ومصطفى وأمينة، تلك الحال تتفرّد بها البوسنة وألبانيا وكوسوفو، دونًا عن كلّ دول أوروبا التي حكمتها الدّولة العثمانية في السّابق لقرون عدّة، مثل اليونان وبلغاريا والمجر وصربيا.
حاول العديد من الباحثين والمؤرّخين وضع فرضيّات لتفسير إقبال أهل البوسنة والهرسك بشكل طوعي، وبأعداد كبيرة على اعتناق الإسلام، وترتكز أغلب الفرضيّات على الوضع الجغرافي المتميّز للبوسنة كمنطقة جبليّة غزيرة الغابات، نائية نسبيًا، وفاصلة بين الإمبراطوريات والحضارات والطّوائف، المتمثّلة بالحضارة الشّرقية الأرثوذكسية، والغربية اللاتينية الكاثوليكية.
موقع البوسنة المتوسّط جعلها نهبًا لمحاولات التّوسّع ومدّ السّيطرة والنّفوذ، والصّراعات المستمرّة على أراضيها على حساب حياة السّكّان الذين عاش أغلبهم حياة زراعيّة رعويّة بسيطة، ولم تتح لهم إمكانيّات بناء مدن مزدهرة تصبح مركزًا حضاريًّا مهمًّا يسمح بتطوّر حياتهم، هذه المقدّمة ضرورية لفهم التّحوّلات التي طرأت بعد وصول العثمانيين للمنطقة، والتي جعلت سكّان البوسنة بالأخص ينظرون إليهم كفاتحين محرّرين وليس كغزاة محتلّين.
الكنيسة البوسنية وطائفة أحباب الإله
لفت نظر علماء الآثار شواهد قبور أثرية منتشرة في نواحي مختلفة عن أرض البوسنة، تلك الشّواهد كانت مختلفة لأنّها لا تحمل علامة الصّليب المعتادة المنتشرة في كافة المناطق حول البوسنة، ما قادهم لاستنتاج أنّ هناك طائفة دينية ذات معتقدات مختلفة هي التي سادت في أرجاء دولة البوسنة قبل قدوم العثمانيين وهي “البوغوميل” التي تعني أحباب الإله باللغة البوسنية.
كانوا يعتبرون أنفسهم مسيحيين ولكن وفق تعاليم المسيحيّة المبكّرة، بالمقابل اعتبرها الفاتيكان مهرطقة، بسبب ارتباط تعاليمها بالمثنوية واعتبارها المسيح ليس ابنا لله، كانت أقرب للمزيج بين المعتقدات المسيحية والمعتقدات الشعبية السّائدة، وكانت في الوقت نفسه تعبيرًا عن الحالة الاجتماعية والسياسية لمجتمع فلاحي متخلف ودولة إقطاعية تقوم عليه، وفيما بعد تبنّت الكنيسة الوطنيّة البوسنيّة مذهب “البوغوميل” فصار مذهبًا رسميّا في المنطقة الخاضعة لها.
ولفترة زادت على قرن من الزّمان انتمى ملوك البوسنة لتلك الكنيسة، ولكن البابا لم يشأ ترك هذه الكنيسة وشأنها، فتحالف مع مملكة المجر الكاثوليكيّة، وبتحريض منهما ووعد بالدّعم العسكريّ ضد أعدائه، فأعلن ملك البوسنة ستيبان توماس ولاءه للبابا واعتمد الكاثوليكيّة مذهبًا رسميّا، وسمح للرّهبان الفرنسيسكان بالانتشار في البوسنة وبناء كنائسهم ومعابدهم، ولم يرق قرار ملك البوسنة لفلّاحيها وأصحاب الأراضي وسكّان الجبال، لأنهم تربّوا على رفض سلطة الأكليروس ورأوا في القرار استعبادًا وإذلالًا لهم، فوقع الصّدام.
بدأت الملاحقات ضدّ الرّافضين، وحملات الاضطهاد ممّا جعل كثيرًا من أهالي البوسنة يلجؤون إلى الأراضي التي سيطر عليها العثمانيون في شرق البلاد بحثًا عن الأمان والحريّة الدّينية، وحين عاشوا تحت ظلّ العثمانيّين لم يجدوا صعوبة في تقبّل الدّين الجديد الذي وجدوه أقرب لمعتقداتهم من الكاثوليكية، إذ كانت لديهم شعائر الصلوات الخمس، والتّعبّد في الخلاء، ومعارضة تقديس الأيقونات.
وأينما امتدّت فتوحات العثمانيين بعد ذلك في أرجاء البوسنة والهرسك كان سكّان المناطق التي تنتشر فيها الكنيسة البوغوميلية يعتنقون الإسلام بنسبة كبيرة، بينما كانت النّسبة أقلّ من ذلك في المناطق التي تنتشر فيها الكنيستان الأرثوذكسية والكاثوليكية، كما لاحظ المؤرّخ المتخصّص في البلقان محمد الأرناؤوط.[1]
لا نغفل هنا الإشارة إلى حقيقة أن البوسنة والهرسك لم تكن يومًا ذات أغلبية مسلمة مطلقة، إذ تراوحت نسبة المسلمين فيها في ذروة انتشار الإسلام بأرضها في النّصف الثّاني للقرن السّادس عشر من ٦٠٪ إلى ٨٢٪، بينما تراجعت بسبب الهجرات والحروب، حتى وصلت في عصرنا الحاضر إلى ٥١٪ بحسب احصائية ٢٠١٦م.
لاحظ المورّخون أن الكنيسة البوسنية اندثرت تدريجيًا ولم يبق لها أتباع في وقتنا الحاضر، لأنّ معتقداتها ذابت ضمن الإسلام، وتتمثّل آثارها الباقية في بعض الممارسات الدّينية التي يقوم بها مسلمو البوسنة إلى وقتنا الحالي، مثل التّوجّه لأماكن مخصوصة للدّعاء والاحتفال في وقت معيّن من السّنة، وعادة ترتبط هذه الأماكن بالمرتفعات أو مناطق نبع المياه، ما يشير أيضًا للتّراث الأقدم السّائد في المنطقة من الارتباط بظواهر الطبيعة والذي تغلغل في ديانة البوغوميل.
الدولة العثمانية والبوسنة: دين وحضارة
تحدّث المؤرخ البوسني محمد فيليبوفيتش عن خصوصية وضع أهل البوسنة بالنّسبة لنظرتهم للسّلطة العثمانية وقبولهم بها، وبالتّالي اعتناق السكّان للدّين الإسلامي قائلًا: ”العثمانيّون لمّا قدموا إلي المنطقة لم يجلبوا معهم دينًا جديدًا فحسب، بل حضارة وثقافة جديدتين، هم بدأوا بإعمار المدن، ومع تطوّر الصّناعات والحرف والتّجارة أثناء الوجود العثماني بدأ إنشاء المدارس والمكتبات والحمّامات العامة ، لذا طبقة كبيرة من المجتمع البوسني التي انخرطت في الاقتصاد الجديد والحياة العامّة الجديدة انخرطت أيضًا تدريجيّا في الدّين الجديد”.[2]
وإضافة لتأثير المعتقدات السّابقة، كان تأثير التطوّر الحضاري الذي لمسه السّكّان المحلّيّون وشعروا بأفضليّته على الوضع القائم قبل ذلك قد أعطاهم ميلًا لتقبّل الدّين الجديد الذي يقف وراء تلك الحضارة، تحوّلت البوسنة في زمن العثمانيّين لولاية حافظت على اسمها السّابق، وتمتّعت بنوع من الحكم الذّاتي، وصارت بعض مدنها مثل سراييفو وفيشيغراد حاضرة ومركزَا تجاريّا مزدهرَا في منطقة البلقان، وهذا ما جعل حتى بعض سكّان البوسنة من أتباع الكاثوليكية والأرثوذكسية يعتنقون الإسلام ليتمكّنوا من الارتقاء في السّلّم الاجتماعي ويحصلوا على امتيازات من الوضع الجديد.
ويدعم هذه الفكرة اعتناق أبناء نبلاء وإقطاعيّ البوسنة الإسلام على الرّغم من أنّ آباءهم قد حاربوا الدّولة العثمانية، مثل ستيفان هرسكوفيتش الابن الثالث لدوق سانت سافا، أحد أقوى النّبلاء في مملكة البوسنة، تحوّل ستيفان إلى الإسلام واتخذ اسم أحمد، وانتقل إلى القسطنطينية، ثمّ تولى منصب الصدر اللأعظم باسم هرسك زادة أحمد باشا[3].
هذا التأثير الحضاري للدّولة العثمانية ربّما كان من أقوى العوامل التي رسّخت من نفوذ الإسلام داخل البوسنة، وجعل من اللّغات التركية والفارسية والعربية لغات أساسيّة في الثّقافة والتّأليف وطلب العلم، ما زلنا نلمح آثارها في الوثائق والمخطوطات وكذلك اللوحات على المساجد والمباني القديمة.
البوسنة ملاذ المسلمين الأوروبيين
وصلت الفتوحات العثمانية أقصى مراتب توسّعها في أوروبا باتجاه الغرب والشّمال في القرنين الخامس عشر والسّادس عشر، فأصبحت أراضي شاسعة من المجر وسلوفينيا وكرواتيا والجبل الأسود وصربيا تحت سلطة الدّولة العثمانية، هذه الأراضي وإن لم تشهد إقبالًا كثيفًا على اعتناق الإسلام لكن عددًا من القرى والنّواحي فيها اعتنق أفرادها الإسلام بشكل كبير.
مع تقدّم جيوش الدّول الأوروبية وثورات السّكّان ترك المسلمون المحلّيّون أراضيهم ولجأوا لأقرب نقطة تسيطر عليها الدّولة العثمانيّة، فكانت البوسنة إحدى نقاط الهجرة التى وفد إليها اللاجؤون ثم استقرّوا فيها، خصوصًا أنّ أغلب القادمين من كرواتيا والجبل الأسود وسلوفينيا ثمّ من صربيا يشتركون مع أهل البوسنة في العرق واللغة، ممّا زاد نسبة المسلمين في البوسنة، التي كانت تقلّ أحيانًا بسبب انتشار الطّاعون في المدن التي كان جلّ سكانها من المسلمين، وكذلك مشاركة مسلمي البوسنة في الحروب العثمانية.
وتعد معركة فيينّا ١٦٨٣م التي تخلّى بعدها العثمانيون عن التّوسّع غربًا إحدى الأحداث الفاصلة التي أدّت لنزوح إسلامي كثيف إلى البوسنة، في المقابل حدثت هجرة عكسيّة من قبل غير المسلمين من سكّان البوسنة إلى دول مسيحيّة كما حدث مع خروج ٤٠ ألف كاثوليكي من سراييفو مع جيش يوجين سافوي الذي غزا أراضي البوسنة على رأس جيش عظيم من النّمسا في ١٦٩٧م.
لا تنفكّ الدّعاية الصّربية والكرواتية عن تكرار مقولة أن الإسلام دين لا ينتمي للمنطقة، بدعوى أن مسلمي البوسنة إما أتراك في الأصل أو قدموا مع الأتراك العثمانيّين، أو أنّ عملية الأسلمة جرت بالقوّة، وأنّ سكّان البوسنة الحاليين إما صرب أو كروات في الأصل، في تناقض مع وقائع التّاريخ والشّواهد الأثرية التي تثبت وجود قوميّة بوسنية ذات ثقافة وتراث خاصّ، ومعتقدات ميّزتها عن المناطق المجاورة سمحت لعدد كبير من أهل البوسنة والهرسك أن يكون لهم رد فعل مختلف على التوسّع العثماني، وأن يصبح هذا الانتماء الإسلامي المتسامح الذي يحتضن الأديان الأخرى طابعًا فريدًا يميّز البوسنة والهرسك، كافحت مرّات عدّة على مدى القرون للمحافظة عليه، وكلّفها الأمر كثيرًا من مجازر الإبادة والتّطهير العرقي[4].
المصادر
[1] البوسنة والهرسك خلال الحكم العثماني. محمد الأرناؤوط، صفحة ٢٢١
[2] المؤرخ البوسني محمد فيليبوفيتش. فيديو https://bit.ly/3u41fUf
تعليقات علي هذا المقال