تسعى هذه المراجعة إلى التعريف بكتاب “حوكمة وإدارة قطاع الأمن” وذلك بهدف تسليط الضوء على أبرز الإشكاليات والنقاشات التي يتضمنها، فهو نتاج تجربة شخصية لخبير مرموق في مسألة إدارة القطاع الأمني حول العالم، حيث عمل دايفيد شُوتر في الحكومتين البريطانية والفرنسية ومنظمات دولية مستشارًا في القضايا الأمنية لمدة ثلاثين عامًا، كما ساهم في حل عدد من المشكلات الصعبة والحساسة للغاية، وكان منخرطًا في بعض التحولات الأمنية والدفاعية التي كانت تحدث في أفريقيا وأوروبا الشرقية.
الكتاب مقسم إلى مقدمة، وثلاثة عشر فصلًا، وخاتمة، وهو كتاب مفيد بالغ الأهمية، مكتوب بلغة بسيطة، بإمكان القارئ العادي غير المتخصص الاستفادة منه، لا شك أنه إضافة نوعية للمكتبة العربية بشكل عام والمهتمين بالعلاقات المدنية العسكرية بشكل خاص.
ما يميز الكتاب هو وضوح الأفكار التي يطرحها والقدرة التحليلية المتميزة للمواضيع التي تناولها، لكن ما يعيبه أنه لم يركز بشكل أكبر على حالات الدول العربية والأفريقية، خصوصًا أثناء تناوله لظاهرة المرتزقة والميليشيات.
لماذا نحتاج إلى جيش؟
يتناول الكتاب مواضيع عدة مثل السيطرة والمخابرات، الشفافية والمساءلة، علاقة قطاع الدفاع بالنظام الحكومي والعملية الديمقراطية، وكيفية وضع السياسات الأمنية وإنشاء قطاع أمني فعال وطريقة معالجة هذه المواضيع والمشكلات.
في البداية يعرف الكاتب، قطاع الأمن تعريفًا واسعًا حيث يشمل الدفاع وإنفاذ القانون والقطاع القضائي والجهات الفاعلة التي تؤدي دورًا على مستوى الإدارة والإشراف في عملية تصميم الأمن وتنفيذه، مثل الوزارات والهيئات التشريعية ومنظمات المجتمع المدني.
يقدم شوتر عرضًا عن أهمية الأمن في استقرار الدولة والحياة اليومية ودور الأمن في التنمية الاقتصادية والسياسية، ولذا فإن وجود قطاع أمني جيد الأداء أمرٌ أساسي لنجاح أي بلد، ويناقش الكتاب أن قوات الأمن تعمل على تنفيذ السياسات لا صنعها، عكس المدرسين والأطباء وموظفي السجون فهذه القوى تتيح تطبيق سياسات الحكومة، وعليها أن تقوم بعملها بشكل صحيح إذا أريد للبلد أن ينعم بالاستقرار.
في الفصل الثالث من كتابه يرفض شوتر مقاربة مفكرين مثل فاينز وهنتنجتون في العلاقات المدنية العسكرية التي تتمثل في جعل الجيش عاجزًا وعديم الفائدة قدر الإمكان، بحسب تعبيره، ويرى أن العلاقات المدنية العسكرية لو كانت تتعلق بخفض القوة العسكرية وحسب، لكان الأمر المنطقي هو إلغاء الجيش كليًا، وأن الجيش ينبغي ألا تٌختزل وظيفته في القتال والانتصار في المعارك وحسب، ويقول إن الوظيفة الأساسية للجيش دعم السياسات المحلية والخارجية للدولة بالقوة أو التهديد بالقوة.
كما يمكن استخدام الجيش في مسعى للحد من خيارات الدول الأخرى عن طريق بعث رسالة سياسية تقليديًا، وفي قيام الجيش بدور رمزي ببعث برسالة سياسية حول الاستعداد للدفاع عن الأراضي الوطنية وشن العمليات خارج البلاد التي تريد زيادة الأوطان على المسرح العالمي.
يستشهد الكاتب بحالة كوريا الشمالية التي أصبحت قوات المناورة التقليدية فيها عديمة الجدوى، لديها مع ذلك ترسانة كبيرة من المدفعية بعيدة المدى والقذائف التقليدية قصيرة ومتوسطة المدى، أما حالة إيران مختلفة قليلًا لأن قواتها التقليدية مجهزة بشكل أفضل.
غالبا ما يطرح العسكر مشكلة التعامل مع المجتمع المدني، ولا سيما في الديمقراطيات، إذ يجد المجتمع المدني صعوبة مع الجيش، ومن غير الممكن إدارة الجيش كما تدار الديمقراطيات، كما يجب عدم إدارة المجتمع المدني كإدارة الجيش، يشير شوتر إلى أن الجيش يحتاج إلى أن يكون قادرًا على التدرب من أجل مهامه العنيفة، وألا يضر بالعملية السياسية، لكن الطريقة التي لا يمكن للأعمال العسكرية أن تتوافق مع معايير المجتمع المدني ينبغي ألا تتعارض مع مثل هذه المعايير، ويجب أن تستند إلى تفويض سياسي واضح.
المهنيون والمجندون: حول ردود أفعال الجيوش تجاه الثورة
يرجع شوتر سبب عدم ظهور المجندين عادة في كتب الجيش والسياسة، كونهم لم ينفذوا سوى القليل من الانقلابات العسكرية، ويرى الكاتب أن الاتجاه المتزايد اليوم لاستخدام الجيش في عمليات دعم السلام الدولية يضع فكرة الخدمة الوطنية أكثر فأكثر موضع شك، إذ أنه لا يمكن إرسال المجندين بسهولة إلى العمليات في الخارج لأنهم يفتقرون إلى التدريب، ولا يمكن إجبارهم في العديد من البلدان على الخدمة خارج حدود البلاد، ويقول الكاتب أن التجنيد ينطوي على صفقة: فالشباب سوف يتخلون عن جزء مهم من حياتهم للجيش من أجل الدفاع عن ترابهم الوطني، ولكن ليس من أجل وضعهم في ظروف معقدة وخطرة كما الجنود المحترفين.
لاحظ زولتان باراني مؤلف كتاب “كيف تستجيب الجيوش للثورات؟ ولماذا؟” أن المجندين الإلزاميين يشتركون في الكثير من القواسم مع مواطنيهم من الثوار، على العكس من الجنود المحترفين الذين قد يتم استدعاؤهم لقمع الثورة، ولذلك يمكن القول أن المجندين الإلزاميين هم أقل عرضة لإطلاق النار على الحشود التي قد تضم أصدقاءهم وأقاربهم، على العكس من هؤلاء الذين يتحمسون للتطوع في الخدمة العسكرية، أما الجيوش التي تدعم الثورات في النهاية مثلما حدث في رومانيا، فعادة ما تطلق النار على المحتجين في بداية المظاهرات، في الربيع العربي كان رد القوات المسلحة تجاه الثورة هو العامل الحاسم والأكثر أهمية في تحديد مصير الثورة[1].
علاوة على ذلك؛ يقارن ديفيد شوتر بين نوعين من التنظيمات العسكرية غير النظامية وهما المرتزقة والميليشيات.
لطالما كان المرتزقة جزءا من الحروب، كما شاع وجود جيوش بأكملها من المرتزقة، وما زالت تستخدم حتى الآن في عدة بلدان، وغالبا ما جُند السكان المحليين للقتال ضد قومهم، وقمعهم.
على سبيل المثال في أفريقيا “يجري توظيفهم من خلال الشركات الخاصة بأسعار أقل، وينحصر دور الشركات الخاصة هنا في الإشراف والتوجيه، فيما ينخرط المرتزقة المحليون في المواجهات وتنفيذ المهام التي غالبًا ما تعتمد على تجنيد الأطفال المختطفين أو من هم دون سن الـ 18 عاما، الخطورة هنا في هذه العلاقة هو تطور أداء المرتزقة المحليين وانتقالهم إلى تنفيذ مهام خارج حدود دولهم وقبائلهم ما يجعل من الصعب تقدير مخاطر الشركات والمرتزقة على حدٍّ سواء، ويصعب حصر نطاق حضورها بل وحتى طبيعة أعمالها، وإلى جانب ذلك فإنها تكتسب خبرات فنية عالية، ما يجعل حكومات عدة عاجزة عن مواجهتها”[2].
أما الميليشيات، وهي في الغالب منظمة على أسس مناطقية أو اثنية أو دينية، ولديها عادة مستوى متدنّ من المهارات العسكرية، وتتمثل مهمتها في السيطرة على الأراضي والموارد، وإذا لزم الأمر ترويع أعضاء الجماعات المعارضة لجعلها تغادر المنطقة، ويوضح الكاتب أن الأنواع المختلفة من التنظيمات العسكرية الموصوفة هنا، تظهر نقاط عديدة مثيرة للاهتمام عند مقارنتها، فجنود الدول الأفريقية الضعيفة الذين لا يتقاضون أجورًا ويتمتعون بمستويات منخفضة من التدريب يتحركون بطرق لا يمكن تمييزها عن الميليشيات التي يقاتلونها، على سبيل المثال، في العراق تحالفت الميليشيات مع القوات الحكومية لأسباب تكتيكية، أما في السودان فقد أدت الاختلافات والتنافسات الإثنية والقبلية إلى إعادة تنظيم مفاجئة، عندما تحالف مقاتلو النوير بقيادة “رياك مشار” مع الحكومة في الخرطوم لمحاربة جيش التحرير الشعبي السوداني.
الجيش وسيطرة المدنيين
يعالج الفصل الرابع من الكتاب العلاقات المدنية العسكرية في الأنظمة السياسية، باعتباره موضوع يشكل المسألة الأساسية لإصلاح القطاع الأمني، وتتمثل الأطروحة الرئيسية في أن التقليل من نفوذ الجيش لم يكن المسألة الوحيدة التي تثير العلاقات المدنية العسكرية، فالجيش كان له بالفعل دور مفيد يلعبه، ولا يمكن أن يقتصر هذا الدور على العمليات العسكرية الفعلية، كما يجب إدخال الجيش، بل بيروقراطية الدفاع بأكملها، في العملية الحكومية العامة.
يقترح الكاتب قائمة نموذجية يمكننا من خلالها معرفة إذا ما كان الجيش يخضع بالفعل لسيطرة المدنيين وأبرزها القيود الدستورية وترسيم حدود المسؤولية، وهذه القائمة تتعلق أساسًا بما أسماه «السيطرة» المدنية، أي الصحة العامة للعلاقات بين الجيش والدولة، وهذه العوامل هي علامات على أن الجيش متصالح مع موقعه ولا يرغب في تحديه، وبالطبع، فإن جميع هذه العوامل، لن يكون لها أي تأثير إلا إذا كان الجيش مستعدًا للتعاون.
كما هو معروف هناك تركيز في الأدبيات على أساليب السيطرة الرسمية والمؤسساتية، لكن بحسب شوتر فإن الأساليب غير الرسمية هي أكثر فاعلية بكثير، وهي تختلف اختلافًا كبيرًا ما بين البلدان، ولكنها قوية ومهمة بشكل خاص في المجتمعات القائمة على التوافق مثل العديد من المجتمعات في أفريقيا وآسيا. وتشمل هذه الأساليب غير الرسمية اختراق النخب العسكرية والمدنية، وإشراك المجتمع المدني في صنع السياسات، والاتصالات المتكررة بين الجيش وجماعات المجتمع المدني، وعلاقة عمل أوثق بين العسكريين والمدنيين، إن أساليب كهذه قد لا تكون واضحة دائمًا، ولكنها تشكل قلب السيطرة المدنية.
خلص شوتر بعد هذا العرض، إلى أن مفهوم سيطرة المدنيين، رغم شعبيته، لا يضيف سوى القليل من الوضوح ويربك المسألة فعليًا بطرق مختلفة، وأنه يصح للبلدان التي كانت فيها العلاقات المدنية العسكرية سيئة في الماضي وحيث يطلب فعلًا من الجيش أن يعتاد وضعية أقل سلطة أو تأثيرًا مما كان يتمتع به، حتى ولو كان هذا الموقع في النهاية هو أكثر إرضاءً من الناحية المهنية، إذ ليس هناك ما هو أقل حكمة في مثل هذه الحالة من أن نقول لجنرال ما أنه سيكون من الآن فصاعدًا خاضعا لسيطرة المدنيين.
طرق عمل وزارة الدفاع والمخابرات
في معرض حديثه عن أساليب عمل وزارة الدفاع، يرى شوتر أن نجاح أو فشل وزارة الدفاع يعتمد في نهاية المطاف على الطريقة التي يقرر عبرها أركانها العمل معها، كما أن التنظيم الافتراضي الذي هو في الأساس شبكة من العلاقات الاجتماعية والمهنية، كلما كان أفضل وأقرب، كلما كان أداء التنظيم أفضل، ولا شك أن السمة الأهم لمنظومة ناجحة ومعقدة مثل وزارة الدفاع هي الاحترام المتبادل. في المقابل، تعتبر وزارات الدفاع في الدول العربية “صندوق أسود” حيث تعمل أغلبها بشكل سري.
أما في تعريف المخابرات، يقول الكاتب: أن المخابرات هي عملية اكتساب واستخدام معلومات من كيان ما (ليس بالضرورة دولة) لا يريدك أن تمتلك تلك المعلومات ولا يدرك أنك قد حصلت عليها، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل المخابرات لها دور في صنع القرار؟ يجيب شوتر على ذلك بقوله: إذا كان على المخابرات أن تكون مفيدة فلا يكفي وضعها في السياق قطعة تلو الأخرى فقط، بل ينبغي وضعها في السياق بأكمله، وهذا ما يمكن أن نسميه تقديرًا استخباراتيًا، ويساعد الحكومة في عملية صنع القرار.
ميزانية الدفاع والفساد: المساءلة عن ماذا؟
يلعب المال دور أساسي في ميزانية الدفاع وعادة ما يستحوذ على عدد لا بأس به من الناتج المحلي يختلف من بلد إلى آخر، لكن في المجتمعات الفاسدة تتأثر مشتريات قطاع الدفاع بالفساد. يلاحظ الكاتب ذلك بوضوح ويرى أنه من الضروري الاستجابة السريعة لهذه المشكلة والمطالبة بمزيد من الشفافية والرقابة البرلمانية، فضلا عن خلق ثقافة تستهجن خيانة الأمانة وتكون فيها الضغوط المؤسساتية ضد الفساد قوية بشكل حاسم.
في الأخير يقدم شوتر بعض الاقتراحات حول دور البرلمان، ويرى أن المساءلة أمام البرلمان هي دائمًا أمر جيد، لكن سياسة الرقابة ليست سهلة التنفيذ ونادرًا ما تكون فعالة، وبعبارة أخرى، فإن الرقابة ليست غاية في حد ذاتها، بل إنها إسهام في بلوغ الغاية.
المصادر
[1] زولتان باراني، كيف تستجيب الجيوش للثورات؟ ولماذا؟ ترجمة: عبد الرحمن عياش، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ٢٠١٧، ص ٤٤ وما بعدها.
[2] شادي إبراهيم، خريطة السلاح في إفريقيا: بين سياسات الاستعمار الجديد وتنافس القوى الكبرى، مركز الجزيرة للدراسات ١٢ سبتمبر / أيلول ٢٠٢١.
تعليقات علي هذا المقال