في مقالته المطولة[1] يتناول عويمر أنجم[2] الخلافة باعتبارها البديل الحضاري الوحيد الذي يمكن أن ينتصر للمستضعفين والمهمشين، وخاصة المسلمين الذين تبدو الخلافة بالنسبة لهم المانع الوحيد في وجه مزيد من الانحطاط. وتغذي التطبيقات السيئة للخلافة مثل (داعش) فكرة التطبيقات الجيدة الممكنة، خاصة في ظل فشل الإسلاميين في تحقيق هدفهم الأسمى: الخلافة، أضف إلى ذلك أن عجز الشعوب المسلمة وخيانة النخب المسلمة لها ترسخ فكرة الخلافة والهوية الإسلامية العالمية.
ولكن في المقابل فإن رفض فكرة استعادة الخلافة قوية كذلك، فهناك من يجادل بأنها غير مرغوب فيها لأنها دولة ثيوقراطية ونظام سياسي ينتمي للقرون الوسطى لا مكان له في عصر الحداثة، وثمة آخرون يؤمنون أن الخلافة غير ممكنة التحقق بالنظر إلى رسوخ الدولة القومية كحقيقة صلبة، بينما يرى فريق ثالث أن الخلافة غير ضرورية من الناحية الدينية فهي مؤسسة تاريخية وليست دينية.
ولكن لا يمكن قبول فكرة أن الخلافة غير ممكنة لأنها لم تعد موجودة، فالديمقراطية مثلا بدأت في مدينة يونانية صغيرة ثم اختفت لألفي سنة قبل أن تعود من جديد. إن فكرة الخلافة تعني وحدة المسلمين سياسيا، ومن ثم فهي فكرة ليست بجديدة وليس على المسلمين إعادة اختراعها، كذلك لا يمكن المحاججة بأن الخلافة لم تتحقق في صورتها المثالية إلا نادرًا، ففكرة الخلافة المثالية مثلها مثل الديمقراطية المثالية، والدولة القومية المثالية غير موجودة.
استعادة الخلافة بين الرومانسية والواقعية
يميز أنجم في هذا السياق بين المثالية المقاربة والمثالية اليوتوبية، فالمثالية المقاربة تدرك عدم قدرة الإنسان على تحقيق المثال كاملًا غير أن هذا الطموح لتحقيق المثال يلهم المساعي الإنسانية، أما المثالية اليوتوبية فهي غير عقلانية وغير ممكنة التحقق.
لم تكن الخلافة يوما مثالية حتى في أفضل أيامها، كما أنها لم تستمر باضطراد ومن دون مشاكل عبر ثلاثة عشر قرنًا من الزمان، ومن ثم علينا أن نرفض النظرة الرومانسية للخلافة، وإذا كانت فكرة أن الأشكال السابقة من الخلافة لم تكن موحدة ولم تكن عادلة دائمًا تعني أن الخلافة لم تكن موجودة، فإن ذلك يعني بالمثل أنه لم يكن ثمة مسلمين عبر التاريخ باعتبار أنهم لم يكونوا مسلمين مثاليين، وأنه كذلك لم تكن هناك ديمقراطية عبر التاريخ للسبب ذاته، ويخلص أنجم إلى أن محض الإشارة إلى عدم مثالية الخلافة تاريخيًا ليست حجة معتبرة ضد إمكانية تحقق الخلافة وجدواها.
يستمد المؤمنون بفكرة الخلافة رغبتهم في إعادتها من الأمر الإلهي والتطبيق النبوي، ولكن بعيدًا عن وجوب الخلافة من الناحية الدينية (الفقه والتشريع)، يرى أنجم أنه عند الحديث عن جدوى الخلافة وكونها مرغوب فيها أم لا فإنه يجب الالتفات إلى التاريخ والسياسة كما يجب عقلنة فكرة الخلافة، بمعنى أن أي حراك لتحقيق الخلافة يجب أن يكون قادرًا على مواجهة التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تجابه المسلمين.
وفي عصر الثورات المضادة المدعومة بأموال الدول النفطية وتحالف العسكر العابر للحدود وإفلاس النخب الدينية وعجزها، إضافة لتحلل الدولة القومية التقليدية وصعود الرأسمالية العالمية، كل ذلك يكشف عن أسطورة الدولة القومية في عالم المستضعفين، فالسيادة في الدول الضعيفة هي خرافة مرادها الإبقاء على الوكلاء المحليين للقوى الدولية في كراسيهم. لقد كان نظام الدولة القومية باطشًا، ومفرقًا، بل وجحيمًا للمسلمين، ليس فقط لأنها كانت وسيلة القوى الكولونيالية لتفريقهم والتحكم في مواردهم، وإنما لأنها تتناقض بنيويًا مع الإسلام.
إن نوع الإسلام الذي ستكتب له الاستدامة في المستقبل يجب أن يكون أصيلًا وفي الوقت ذاته قادرًا على أن ينقذ العالم لا من الإسلام وإنما بالإسلام، إن استعادة الخلافة تعني إدراك أن التحديات الجمعية التي تواجه المسلمين ليست دينية ولا ثقافية وإنما سياسية، والحل الوحيد لها هو في سياسة إسلامية.
منذ ما يزيد على قرن من الزمن لم يُسمح للإسلام أن يكون إسلامًا وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي أطلق هنتنجتون أطروحته صراع الحضارات (يجب أن نحارب الجميع) وكذلك خرج فوكوياما بفكرة نهاية التاريخ (يجب أن يذوب الجميع فينا)، وفي إطار صراع الحضارات المتصور أزيح الإسلام كبديل حضاري ممكن، ولذلك فإن الحل هو في استعادته.
إن دماء المسلمين التي تسيل في أنحاء الأرض بلا ثمن، والعداء الشامل للإسلام في العالم اليورو-أميركي جنبًا إلى جنب مع ما يواجه المسلمين من حرب وكولونيالية وإبادة وفساد وتلوث وتجويع يدفع المسلمين عبر العالم للإيمان بفكرة خلافة إسلامية حديثة تحميهم من كل هذه الويلات والرزايا.
إن رؤية صامويل هنتنجتون وبرنارد لويس عن صراع الحضارات والحدود الدموية للإسلام عدائية وغير دقيقة، إلا أنها تحمل بعدًا واقعيًا مكنها من التغلب على آلاف الكتابات التي حاججت بأنه ليس ثمة حضارات متمايزة، إذ أنه في واقع الأمر ثمة حضارات متمايزة.
الخلافة والشريعة: أيهما يسبق الآخر؟
يحاجج أنجم بأن الوحدة السياسية للمسلمين مبدأ كان على الدوام جزء من الهوية الإسلامية عبر التاريخ وهو مبني على ضرورات الإسلام، غير أنه ينتقد تسييس فكرة كون الإنسان خليفة الله في الأرض والتي بمقتضاها ينسب الإسلاميون المعاصرون للقرآن الفكرة الحديثة عن السيادة الشعبية في الدولة القومية، ما يشغل بال أنجم هو الاستخدام التاريخي لمصطلح الخليفة والذي عنى الحاكم السياسي الأعلى للمسلمين.
مثلت الخلافة شكلين من أشكال الاستمرارية: استمرارية تاريخية تتمثل في الاتصال الرمزي بالنبي ﷺ وخلفائه الراشدين (المثال الذهبي)، واستمرارية جغرافية تتوحد بموجبها أراضي المسلمين في وحدة واحدة، كانت هاتان الاستمراريتان هما اللتان حمتا عالم المسلمين من التفتت والانهيار ومكنتهم من إدارة التشتت السياسي والطائفية الدينية والتنافس الثقافي.
ثمة خمس نماذج تاريخية للخلافة، النموذج الأول هو النموذج المعياري للخلافة هو الخلافة الراشدة والذي بعد سنوات قليلة لم يعد قادرًا على الوفاء باحتياجات إدارة إمبراطورية مترامية الأطراف، ومن ثم حل محل الخلافة الراشدة شكل الخلافة الإمبراطورية في أواخر العصر الأموي، ومع تراجع قوة الخلفاء في بغداد ظهر الشكل الثالث للخلافة والذي كان عبارة عن سلطة روحية ورمزية واستمر هذا الشكل خمسة قرون تقريبا، ويمكن تسمية هذا النموذج الثالث الدستورية الإسلامية الكلاسيكية وقد صبغ هذا النموذج الشكل الذي اتخذته الخلافة معظم التاريخ الإسلامي.
كان الشكل الرابع للخلافة مزيجًا من النموذج الثاني والثالث معًا، وقد ظهر إلى الوجود مع ظهور الدولة العثمانية التي كانت واحدة من أنجح وأقوى امبراطوريات زمانها وأكثرها استقرارًا، ويشير أنجم إلى أن الشكلين الثالث والرابع للخلافة لا يمكن وصفهما بالثيوقراطي ولا المطلق، كما أنهما لم يكونا مثاليين. أما الشكل الخامس والأخير للخلافة فكان قصير العمر للغاية ويتمثل فيما يمكن تسميته بالخلافة الدستورية أواخر العصر العثماني حين تبنت الدولة برامج التحديث الذي شمل الجيش والاقتصاد والمجتمع.
بدأ التنظير المكثف لفكرة الخلافة عندما أصبح وجود الخلافة مهددًا في القرن الخامس الهجري، واختلفت الآراء حيال إمكانية وجود حياة إسلامية من دون خليفة، وتم قبول سلطة الحاكم المتغلب الذي يستطيع حماية المجتمع أو جزء منه. وقبل أن يدمر المغول بغداد كان ينظر للخلافة باعتبارها خلقت العالم الذي يمكن للشريعة أن تتحقق وتتطور فيه، هذه الحقيقة إضافة إلى ادعاء الخلافة اتصالها بالنبي ﷺ كانت أقوى من أي تبرير نصي أو شرعي.
هنا أصبحت الخلافة أكبر حتى من الشريعة، نظّر ابن خلدون للأسس الاجتماعية والمادية والنفسية للسلطة السياسية، ومن ثم خلق نظرية في التاريخ والسياسة سبقت عصرها، دعم ابن خلدون الخلافة وكتب رائعته “المقدمة” ليشرح تاريخها ويدعو لعودتها، وكان ابن خلدون مهمومًا كنظرائه بمشكلة التوفيق بين مثاليات الشريعة وحقائق التاريخ، وعندما تحطمت الخلافة في بغداد كانت الشريعة هي التي وفرت الدافع لإقامة حكومات إسلامية لحين استعادة الخلافة.
لقد كان هناك دومًا ثمة إجماع على فكرة الخلافة وضرورتها، إذ كانت الخلافة دومًا مركزية في الاعتقاد الإسلامي، لماذا؟ لأنها كانت المشكلة الأساسية للإسلام، فقد كان التنظير للقيادة الشرعية للمجتمع أمرًا محوريًا في تحديد الإيمان منذ أن دعت الطوائف المنشقة المبكرة إلى التشكيك في استقامة المجتمع السائد ولياقته كحامل ومجسد لرسالة الله. لذلك، كان تبرير وجود الجماعة الذي حافظ على القرآن والسنة النبوية هو “القضية المشتركة” المركزية التي تشكل ضمنها الكثير من الفكر الإسلامي خلال القرنين الأولين للإسلام.
إلغاء الخلافة: الإسلام دين بلا دولة
ميز المسلمون بين الخلافة باعتبارها الحكومة الإسلامية الصحيحة وبين الملك بمعنى السلطة السياسة، واستمر هذا التمييز طوال العصر الوسيط، ما يميز بين الاثنين هو أن الخلافة أمانة لا سلطة تعسفية، وأنها تقتضي أولوية مصالح الأمة على ما سواها، وظلت فكرة الضرورة الدينية للخلافة من المسلمات حتى القرن العشرين حين ظهرت أفكار إلغاء الخلافة لدى القوميين الأتراك بعد قرن من التحديث والعلمنة.
عقب إلغاء الخلافة كتب علي عبد الرازق ما يمكن وصفه بأهم تنظير للعلمنة السياسية في كتابه الإسلام وأصول الحكم، جادل عبد الرازق بأن رسالة النبي كانت دينية روحية لا سياسية، وأن الإسلام دين خاص بالفرد، وأن جميع الأعمال السياسية للنبي ﷺ وخلفائه الراشدين كانت أمورًا عرضية طارئة اقتضتها الحاجة ومنفصلة من ناحية المفاهيم عن الإسلام كدين.
كان عبد الرازق ليبراليا ذا أجندة سياسية واضحة، لا مجرد عالم دين، وقد كان كتابه قراءة قسرية وغير تاريخية لكل من رسالة النبي ﷺ والخلفاء اللاحقين ويعطي فهما ضحلا للحداثة، وعلى الرغم من كثرة الردود التفصيلية على عبد الرازق ودحض حججه لم يجد القوميون والعلمانيون العرب أفضل من كتاب عبد الرازق لتعزيز أجندتهم السياسية العلمانية.
كانت الخلافة تمثل للمسلمين الاستمرارية والوحدة، وليس أدل على عمق هذا المثال من التعرف على هول الصدمة الشعورية والسياسية والثقافية التي شعر بها المسلمون من جراء إلغاء الخلافة، ولكن أبقى العديد من العلماء والنشطاء والحركات المتجاوزة للحدود القومية على فكرة الاتحاد السياسي للمسلمين حية خلال القرن الماضي.
أصبحت الخلافة هي الهدف الأساسي أو على الأقل هدفًا فرعيًا لكل حركات الإصلاح والإحياء. ولكن في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت سياسات الدول القومية وتفوقت على أية محاولات جادة في هذا الإطار، إلا أن هذه الطموحات عادت إلى الواجهة من جديد على يد حركات إسلامية سعت للوصول للسلطة في عدة دول.
فشلت معظم الحركات في ذلك وحتى عندما نجحت كما في السودان وإيران اكتشفت أن المنطق الداخلي العلماني لنموذج الدولة القومية كان أقوى دائمًا من طموحاتهم الأيديولوجية واستسلمت غالبًا لضرورات القمع والفساد والمحددات الإقليمية والجيوسياسية.
لم تتجذر الدولة بجدية في العالم الإسلامي، وفي حين أن الإسلاموية الاجتماعية اكتسبت شعبية متزايدة، إلا أنها لم تفِ بوعدها، بقيت فكرة الخلافة على النار الهادئة كهدف نهائي يجب تحقيقه كخطوة أخيرة بعد تحقيق الديمقراطية والتقدم.
لقد استهلت الثورة العربية الكبرى (١٩١٦-١٩١٨م) حقبة -استمرت قرنا- من عدم الاستقرار وانعدام الشرعية السياسية في الشرق الأوسط العربي، إن المنطقة متشنجة بشكل متزايد، ولا يوجد أي حل قصير المدى لأي من مشاكلها المتزايدة، ولا زال ميراث التقسيم الأوروبي للمنطقة مستمرا.
إن مستقبل الدول القومية المسلمة غامض، وثمة سبب واحد على الأقل لاستحالة الدولة القومية: الإسلام، فقد فشلت كل المساعي العلمانية -علي اختلاف تياراتها- لبناء الشرعية، إن الدولة العربية ضعيفة وغير شرعية ولذلك فهي شرسة.
وأدى فشل المحاولات العلمانية لتوجه الملوك والعسكريين الأوتوقراطيين لاستغلال الإسلام والسيطرة على العلماء والنخبة الدينية وتحويلهم إلى مرتزقة تعمل ضد شعوبها، إن الإرهاب ما هو إلا نتيجة مدمرة لمشكلة عدم شرعية الدولة في الأراضي ذات الأغلبية المسلمة، وإن المشاكل التي تواجه الدول ذات الأغلبية المسلمة ليست عرضية بل هي لازمة لأي دولة عليها أن تتعامل مع دين شعبي لا تستطيع إعادة توجيهه ليلائم أغراضها.
فضلًا عن ذلك؛ فإن الإسلام فريد في قدرته على تحدي الحداثة ليس فقط عقديًا وإنما سياسيًا كذلك عبر مفاهيمه الخاصة بالانتماء والتعاضد وحكم القانون والتسامح مع التعددية، وفي المقابل فإن الليبرالية السياسية عاجزة أمام الرأسمالية المتوحشة وغير متسامحة مع الالتزام الديني والأخلاق المجتمعية وحتى الاستدامة البيئية.
إن الدولة القومية الحديثة عندما نعرفها بدقة هي مؤسسة غريبة عن الإسلام بكل أشكاله، فهي مؤسسة لا أخلاقية بل وحتى ضد أخلاقية ومن ثم فلا يمكن لها أن تقبل الإسلام، فالدولة القومية الحديثة من الناحية البنيوية ذات أيديولوجية علمانية، فضلا عن ذلك فإن قوى وسلطات الدولة القومية ليست شخصية، بل تتم ممارستها من قبل مجموعة من الناس.
والأهم من ذلك أن هذه السلطات يتم إنفاذها (دائما على نحو انتقائي) من قبل القوى العالمية باسم الاتفاق الدولي الذي هو نظام الدولة القومية، كذلك فإن الدولة القومية مستحيلة في أي إطار إسلامي لكونها هي الأعلى دومًا من الناحية البنيوية، فهي تعلو على الدين والمؤسسات بل هي التي تمنحهم شرعية الوجود والاستمرار، وهي بطبيعتها البنيوية علمانية ومعلمِنة وقادرة على استغلال الدين لأبعد الحدود.
أضف إلى ذلك إلى الإسلام لا يعترف بالحدود القومية ولوازمها: الولاءات، الاحتياجات، الحقوق، المعاناة، وغيرها. إن نهاية الدولة القومية يمكن أن تقدم فرصة تاريخية لإعادة تأسيس شكل أكثر إسلامية وإنسانية للوجود السياسي للمسلمين.
الخلافة المستقبلية: دولة بناء أم تدمير؟
يميز أنجم بين الدولة ككيان مجرد وذو سيادة وبين الحكومة باعتبارها جهاز إداري وقانوني في إقليم ما، إن تصور الخلافة المستقبلية يجب ألا ينخدع بالمنطق القائل بأن الحكومة والمؤسسات والمجتمعات والتواريخ المحلية يجب أن يتم تدميرها لخلق دولة عظمى إقليمية.
إن الخلافة المستقبلية يجب أن يتم تصورها لا كدولة قومية عظمى أو محض دمج لدول موجودة بل كنوع مختلف من الحكم الذي يستمد شرعيته من فلسفة سياسية مختلفة عن تلك الفلسفة المؤسَسة على ويستڤاليا والقومية والعلمانية.
ولا يتطلب هذا النكوص عن أي خبرة حديثة إلى نموذج جاهز ينتمي للعصر الوسيط ما قبل الحديث، بل يتطلب استدعاء الحكمة والتوجيه من الماضي في الوقت الذي نتطلع فيه إلى المستقبل، كما يتطلب منا توسيع أفق التفكير والتفاعل مع التجربة المعاصرة خارج الأنماط المهيمنة.
بمجرد أن نحرر أنفسنا من فكرة أن الدولة القطرية هي النموذج الواجب اتباعه فإن الكثير من الإلهامات ستنفتح من الماضي والحاضر، ويجادل أنجم بأن مفهوم الاستعادة المبتكرة للخلافة هي بعيدة كل البعد من أن تكون غير مفكَّر بها، فقد كانت الخلافة هي الشكل الذي تخيل به مفكرون مسلمون مستقلون المستقبل، ويعطي أنجم مثالًا بعبد الرزاق السنهوري الذي قدم رؤية لاستعادة الخلافة على نحو منهجي وتقدمي كاتحاد فيدرالي للحكومة المحلية التي تحكم حكمًا ديمقراطيًا قائم على مبدأ الشورى أي عبر التمثيل والتشاور والمساءلة.
وفي النهاية يتساءل أنجم: كيف يمكننا الرد بشكل أفضل على فقدان الإيمان والولاء لله واللامبالاة وفساد النخبة؟ وكيف يمكن مساعدة اللاجئين المحرومين، ومساعدة إخواننا المضطهدين في الإيمان؟ وتسهيل التعاون الاقتصادي؟ وتغيير المؤسسات السياسية؟ وتحسين الخطاب الديني؟ وإثراء الحوار والخطاب مع المسلمين داخل وعبر الحدود الطائفية والقومية؟ وتحسين التعليم والتواصل متجاوزين العديد من حواجز المسافة واللغة، والتحيز؟ ويشير إلى أنه يجب الإجابة على كل هذه الأسئلة بطريقة تهزم الحكام المستبدين وفي نفس الوقت تهزم الإرهابيين.
فالسعي وراء نظام سياسي عادل لا يمكن أن يحل محل السعي وراء الصلاة الخاشعة، وطاعة الوالدين، والزواج الأفضل، والصداقات الأعمق، والمجتمعات المحلية القوية، والأهم من ذلك كله الاهتمام بتحقيق العدالة للمحرومين والضعفاء.
وينتهي أنجم إلى أن الحفاظ على الوضع الراهن في العالم الإسلامي هو حلم بعيد المنال، ولكن الحلم بتغييره ليس كذلك، فالنظام الحالي غير إسلامي، وغير أخلاقي، ومعادٍ لمستقبل لائق للمسلمين وللبشر عموما، إن السؤال ليس هو “من يريد الخلافة؟” بل “من يحتاج الخلافة؟” والإجابة أنه ليس فقط المسلمون من يحتاجون الخلافة بل البشر كلهم.
المصادر
[1] Ovamir Anjum, Who Wants The Caliphate. Yaqeen Institute, 31 October 2019: https://bit.ly/3K5tuaJ.
[2]عويمر أنجم أستاذ كرسي الإمام خطَاب للدراسات الإسلامية في قسم الفلسفة والدراسات الدينية بجامعة توليدو. وهو يركز في دراسته على العلاقة بين علم الكلام والأخلاق والسياسة والقانون في ظل الإسلام في القرون الوسطى والحقبة الكلاسيكية مقارنة بالفكر الغربي.
تعليقات علي هذا المقال