يقول الفيلسوف الكندي آلان دونو في كتابه (نظام التفاهة): «فالتافهون كثر من حولنا، يطلِّون من كلِّ مكان، ويدخلون البيوت عنوةً وما باليد من حيلة لطردهم»، فالتفاهة حقيقة أصبحت تحاصرنا من كلِّ مكان، ولكن كيف يصبح الأمر عندما تكون التفاهة سياسة، أو وسيلة في الحكم، فقد اتخذت الدكتاتوريات العربية من هذه السياسة وسيلة أيديولوجية لمحاربة العلم والتقدُّم، ولطرح مشاكل مجتمعاتها بأسلوب التسخيف حتى تُظهر المجتمعات على أنَّها مجتمعات تافهة وليست جديرة بالاحترام؛ وبأنَّ الحاكم هو العاقل الأوحد بينهم، وأنَّه القائد القادر على الوصول إلى الحقيقة، وبالتالي هو الأحق بالسلطة.
فالديكتاتوريات العربية تقوم على سرقة اللحظة التاريخية التي سمحت لها بالوصول للسلطة، ولاستمرار هذه السرقة وديمومتها تحاول إيقاف عجلة التاريخ، ممَّا يتطلَّب منها إيقافًا للعلم الحقيقي، أقول الحقيقي؛ لأنَّها قد تدعم الكثير من الأنشطة تحت المسمَّى العلم، لكنَّها في حقيقة الأمر ليست سوى أنشطة دعائية أو أيديولوجية تصبُّ في مصلحة ترسيخ نفوذها وبلورة صورتها.
الإذاعة والتلفزيون بوصفهما استراتيجية سلطة
في سلسلة الانقلابات العسكرية التي شهدها عددٌ من البلدان العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، كانت وجهة القادة المنقلبين واحدة، إذ كانت تتَّجه كلُّها إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون الرسمي لإعلان استلامهم للسلطة في البلد، فقد توجَّهت “حركة الضبَّاط الوحدويين الأحرار” في الجيش الليبي بقيادة الملازم أوَّل معمَّر القذافي إلى مدينة بنغازي لتحتلَّ مبنى الإذاعة، ولتعلن استلام زمام السلطة، وكذا الحال في انقلاب حافظ الأسد في سورية، حيث سيطرت قوَّاته العسكرية على مبنى إذاعة دمشق ومبنى إذاعة حلب، بالإضافة إلى مكاتب جريدتي “البعث” و”الثورة”، وفرضت الرقابة العسكرية على بثِّ الأخبار والتحليلات السياسية وإخضاع جميع البرامج السياسية والثقافية والإعلامية لهذه الرقابة.
كما أنَّ جمال عبد الناصر هو من أشرف على تأسيس الإذاعة والتلفزيون المصري، وقد افتتح مبنى التلفزيون بمناسبة الذكرى الثامنة لثورة يوليو، ليستخدمها في خدمة أجندته السياسية وبثِّ رسائله القومية، وقد استخدم إذاعتي صوت العرب والشرق الأوسط، أمَّا أنور السَّادات فقد استخدم الإذاعة وسيلةً لتبرير توقيعه اتفاقية السَّلام مع الكيان الصهيوني، كما أنَّ انقلاب عبد الفتاح السيسي وعزل الرئيس المصري المنتخَب محمد مرسي وتوقُّف العمل بالدستور ترافق مع قطع بثِّ عدَّة وسائل إعلامية، والسيطرة على التلفزيون الرسمي، وفي لبنان يمتلك كلُّ تيار وكلُّ طائفة محطَّة تمثِّلهم، فيستخدمونها منبرًا لزعيم التيار أو الطائفة، وغيرها من الأمثلة التي كان التلفزيون الرسمي فيها بوابة لشعارات السلطة وأخبارها.
ظهر الدور الكبير للمحطات التلفزيونية الرسمية في ثورات الربيع العربي والتي تُشرف عليها أنظمة الحكم الاستبدادية، وفي الوقت الذي كانت الساحات مليئة بالتظاهرات كانت هذه المحطَّات تصوِّر المسيرات المؤيِّدة التي يتمُّ إخراجها قسرًا في أغلب الأحيان من الموظفين والعاملين في مؤسسات السلطة، فكانت تقدِّم الصورة المثالية للدولة، وتعدِّد إنجازات الحاكم المستبد، وتزيف الحقائق وتشوِّهها، متغنِّية بالأمن والأمان الذي يوفِّره حكم العسكر، ودائمًا ما كانت هذه المحطات الإعلامية تردِّد وتذكر بأنَّ البلاد مستهدفة من قوى خارجية، هذه القوى هي من تموِّل حركات على شكل احتجاجات شعبيَّة، لا تلبث أن تتحوَّل إلى شلالات من الدماء والعنف، مهدِّدة بفوضى لا تنتهي، وكلُّ ذلك بمنزلة رسائل ترسلها السلطة عبر إعلامها الرسمي لمن يريد الخروج من عباءتها الاستبدادية بغرض مخالفة أيديولوجيتها.
الإعلام الرسمي للسلطة وسياسة التفاهة
لقد بات إعلام السلطة العربية الاستبدادية مثالًا على صناعة التفاهة والإفراغ من المعنى، فقد ركَّز على التشويش والمهزلة والأخبار التي لا تتَّصل بمشاكل مجتمعها، فالتلفزيون الموريتاني مثلًا ركَّز كثيرًا على إذاعة خبر الملتقى الدولي لمحاربة البراز والتبول في الأماكن العامة، والإعلام المصري الرسمي تحوَّل إلى مؤسسة لإنتاج التفاهة ومحاربة العقل والعلماء، فجعلت من الفن التافه فنا رسميًا، وروَّجت له، فمنحت المؤسسات الحكومية لهؤلاء الفنانين الأوسمة والجوائز، بل وكرَّمتهم في أماكن تكريم العلماء، فمنذ أيام فاجأتنا جامعة عين شمس بتكريم فنانة مصرية على مسيرتها العلمية، مع العلم أنَّها لا تملك أيَّ إنجاز علمي أو بحثي، وقد حظي التكريم بتغطية من الإعلام الرسمي المصري، كما أنَّ الإعلام السعودي والمتمثِّل في وزارة الإعلام قامت بتكريم فنانة مصرية، وعلى هامش المناسبة قامت جمعية “مصريون في حبِّ الخليج” بإهداء الفنانة درعًا عليه ختم الرسول الكريم، الأمر الذي أثار جدلًا واسعًا، لاسيَّما في ظلِّ عدم توضيح الجهة المانحة للدرع في بداية الأمر سبب هذا التكريم.
وقد فاق الإعلام الرسمي السوري الخيال في نشر التفاهة والترويج للشخصيات التافهة، والتي لا تمتُّ للواقع بأيِّ صلة، فهذا الإعلام الرسمي الذي طالما وُصِف بأنَّه يتلاعب ويكذب بكلِّ شيء، حتى في درجات الحرارة التي كان يعرضها في النشرة الجوية، ومما يثير السخرية أنَّه كان يعلن عن درجات حرارة تتناسب مع موسم السياحة، ومع بدء الربيع العربي والثورة الشعبية طرح نظرية المؤامرة، وراح يكذِّب التظاهرات التي غصَّت بها الساحات، ويقدِّم المتظاهرين على أنَّهم ضحايا تآمر خارجي، وبأنَّه تمَّ تضليلهم، ودفع المال لهم للتخريب، ولعلَّ الكثير من السوريين يستذكرون المشهد الذي يلخِّص حقيقة هذا الإعلام عندما هاجم شابٌ مراسلَ التلفزيون الرسمي وصرخ بأعلى صوته ثمَّ هرب: “الإعلام السوري كاذب”.
وفي ظلِّ اشتداد الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي يعيشها الشعب السوري يخرج الإعلام الرسمي بوصفات التفاهة، كأن يقدِّم دراسةً عن فائدة الاستحمام بالماء البارد، وهي تغييب لحقيقة انعدام الكهرباء والتدفئة تقريبًا، أو تقريرا عن أضرار النوم في الصيف تحت هواء المروحة، وغيرها من السخافات والتفاهات التي باتت رائجة على شاشة الإعلام، وما فيها من إهانة للعلم والعلماء، كتقديم مجموعة من الناس تحت مسمَّى شعراء، في الوقت الذي يكونون فيه بعيدين كلَّ البعد عن حقيقة الشعر، إضافة إلى هبوط مستوى التعبير الأدبي بشكل يرسِّخ الاعتياد على التفاهة والسخافة، ممَّا ينتج جيلًا بعيدا عن كلِّ أشكال الجدية والمصداقية بسبب التردِّي الأخلاقي والقيمي، فكما يقول ديستوفيسكي: «هذا التعوُّد على الشر هو ما يجب أن نحزن عليه».
كلُّ هذه التفاهة التي تبثها السلطة عبر إعلامها ترمي إلى تدمير الوعي وتعزيز الهزيمة في إرادة الشباب، فيتكوَّن شكلٌ من الوعي الزائف الذي تمارس السلطة من خلاله حكمها، وتستمر بأيديولوجيتها، وتستهدف من ورائه تغييب عقل المواطن وعدم مناقشة القضايا الحقيقية التي تمسُّ حياته، فلا نقد ولا حوار، حتى يغدو الوعي في حالة من الغياب واللافاعلية، فيصبح الشعور بالسلبية والدونية والانغلاق على من حوله سمة تميِّزه، فالتعليم أساس التغيير، وهذه الأنظمة الاستبدادية مقتلها في التغيير.
وبالعودة إلى محمود أمين العالم في كتابه (الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر) والذي يقول في مقدمته: «التضليل الفكري وتزييف الوعي وخلط الأوراق الأيديولوجية من بين أخطر الوسائل والأسلحة لتكريس تخلُّفنا وتبعيتنا»، فلا بدَّ لهذا العقل المنغلق أن يخرج من حياة التفاهة المؤطِّرة له بفعل السلطة وسياستها، ليمارس فعله التواصلي – حسب تعبير هابرماس – وليحقِّق التفاعل الاجتماعي، ويكون فاعلًا قادرًا على التغيير، متجاوزًا لحالة تمركز العقل حول التنميط الزائف للذات، والاغتراب الداخلي.
صحيح أنَّ أنظمة الاستبداد العربي هي الأعتى والأكثر دموية في التاريخ المعاصر، كما أنَّها تملك وسائل العنف ولا تتهاون في استخدامها ضدَّ كلِّ من يطالب أو يحاول إصلاحها أو تغييرها، إلَّا أنَّ العالم اليوم بات مشرعًا على جميع الجهات لمن يبحث ويطلب الحقيقة، فهل تحمل السلطات الديكتاتورية كامل مسؤولية هذه التفاهة التي نعيشها؟! ألم تفتح ثورة الاتصالات الأبواب أمام من يرغب بالسفر افتراضيًا والتجول في العالم والنهل من العلوم المختلفة؟! ألم يعاني العالم كلُّه من تفاهة تجتاحه وتسطِّح فكره وتهدِّد مستقبله؟! ألم تعاني أكثر المجتمعات تقدُّمًا من التفاهة، ألم تنتشر لوحات في كندا وأمريكا كتب عليها “توقفوا عن جعل الحمقى مشاهير!؟”
في الختام، ربما لم يقل ألبرت إينشتاين أبدا الحكمة التي يرددها الكثيرون على لسانه والتي تقول: «أخاف من اليوم الذي تتفوَّق فيه التكنولوجيا على التفاعل البشري حينها سيمتلك العالم جيلًا من الحمقى»، لكن هذا لا ينفي صحة المقولة، نعم حدث ذلك حين تحكَّمت الأنظمة الاستبدادية بإنتاج التفاهة عبر سنوات طويلة من حكمها، وأفرغت العلم من محتواه الفعلي، وأوجدت جيلًا لا يعرف شيئًا عن تاريخه أو شخصياته، لا يملك من يقتدي به، حتى بتنا نجد صورة لفنانة أو صورة لاعب كرة قدم تنال تفاعلات ومشاهدات المتابعين أكثر بكثير من خبر سياسي أو حدث تاريخي أو منجز علمي.
تعليقات علي هذا المقال