عامان سبقت بهما جماعة الإخوان المسلمين السودانية مولد دولة السودان المستقلة في يناير 1956 لكن الشقيقين على كل حال لم يلبثا أن اعتراهما سبات عميق بانقلاب الفريق إبراهيم عبود على الديمقراطية الناشئة في 1958 وعادا معا بقيام ثورة أكتوبر 1964 التي أعادت السودان إلى الديمقراطية.
لم تغير الثورة وجه الدولة فحسب بل غيرت معه وجه الحركة كذلك. حسن الترابي عميد كلية الحقوق بجامعة الخرطوم آنذاك حملته الثورة التي كان أحد رموزها من موقعه كأمين للمكتب السياسي في الحركة إلى زعيمها السياسي الفعلي. انزعجت القيادة القديمة للجماعة جراء صعود الترابي لكن انزعاجها لم يمنع انتخابه أمينا عاما للحركة بحلول عام 1969. كانت الجماعة على وشك الانشقاق إلا أن الجيش قرر حسم الخلاف عبر وضع الجميع في السجن.
مايو 1969 قاد العقيد جعفر النميري -سيحصل العقيد سريعا على رتبة المشير ضمن التقليد العربي في منح الرتبة لكل ضابط ينجح في تنفيذ انقلاب عسكري- انقلابا عسكريا أطاح بالديمقراطية الثانية وأرسل قادة الأحزاب السياسية وبينهم الترابي إلى السجن أو المنفى قبل أن يعود فيصالحهم سنة 1977 قرب بورتسودان[1]. خرج الترابي من السجن الذي قضى فيه سبعة أعوام مباشرة إلى المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي التنظيم السياسي الرسمي الأوحد والحاكم في البلاد.
بدأت فترة التمكين. هكذا أطلق الترابي لاحقا على الفترة بين المصالحة الوطنية 1977 وسقوط النميري ونظام مايو عام 1985. لم يؤسس الترابي جماعة ضخمة على غرار إخوان مصر الذين رفض بيعة تنظيمهم الدولي. ولم يؤسس حزبا سياسيا كذلك على غرار إسلاميي المغرب العربي.
سلك الترابي بحركته مسلك تنظيم سري طليعي يحاول التغلغل في مؤسسات الدولة واستيعاب مفاصلها تمهيدا للإمساك بها[2]. تولى القائد بنفسه بحكم اختصاصه وزارة العدل ومكتب النائب العام في الوقت نفسه ليبسط هيمنته على منظومة القضاء. هذا دون أن يتخلى عن موقعه السياسي في الاتحاد الاشتراكي ومستشارا للنميري ومشرفا سياسيا على إقليم دارفور. ياسين عمر الإمام -أحد رواد الحركة- تولى رئاسة برلمان الاتحاد الاشتراكي. إلى جانبه رجل الحركة القوي علي عثمان طه رائدا للبرلمان أي زعيما لكتلة الأغلبية الموالية للحكومة فيه.
بينما انفجرت علاقة الصادق المهدي بالنميري سريعا (الحكم لا يحتمل رأسين) كان الترابي مستعدا لأن يضحي بشعبيته وسمعته مقابل التمكن من الدولة. لم يمتلك إخوان مصر تلك الجرأة؛ أن يذوبوا ظاهرا في نظام السادات بينما يحاولون القبض على عنقه. بعد أن أفلح تمكين الترابي في إمساكه بالسلطة بعد 1989 حاول خيرت الشاطر نقل التجربة بنفس العنوان “خطة التمكين” كما أظهرت وثائق قضية سلسبيل 1992 لكن مبارك لم يكن النميري ومصر لم تكن السودان وتنظير الترابي لم يكن حاضرا هنا. على كل كان تمكين الشاطر أضعف كثيرا من أن يحيط بدولة كمصر.
ساعد فكر الترابي السياسي اتجاهه الحركي. كان الترابي مؤمنا بالقومية السودانية بقدر إيمانه بإسلاميتها. لم يرتق التنظير السياسي للحركات الإسلامية لمثل هذا المزيج إلا لاحقا على يد منظرين قادمين من خارجها كطارق البشري[3]. لم تستشعر الدولة حساسية كبيرة تجاه الرجل الذي رفض أن يبايع تنظيما دوليا عابرا للسودان مثبتا أنه سوداني بقدر ما هو إسلامي.
1985، مولد الديمقراطية السودانية الثالثة ومعلم جديد من معالم فكر الترابي الحركي. حرص الترابي على أن تتوارى الحركة الإسلامية كتنظيم شبه سري وطليعي في الخلفية بينما يبرز في الواجهة حزب. حزب الترابي ليس قناعا سياسيا ترتديه الحركة على طريقة الحرية والعدالة وإنما حزب جبهوي يضم إلى جانب الحركة حلفاء فعليين يقدمون دعما فعليا ويحصلون في المقابل على نصيب من القرار السياسي.
هذا ما فعله الترابي في الديمقراطية الثانية بتأسيسه جبهة الميثاق الإسلامي التي ضمت إلى جانب الإخوان جماعات سلفية وصوفية مستقلة. سيعود الترابي ليفعل في الديمقراطية الثالثة بتأسيس الجبهة القومية السودانية التي ضمت زعامات محلية ورجال دولة عمّقوا التمكين.
1989، حين سيطرت لأول مرة حركة إسلامية سنية على الدولة في بلد عربي. دبرت الحركة الإسلامية وحزب الجبهة القومية الإسلامية انقلابا عسكريا مستعينة برفاق مايو وخلايا الإسلاميين وضباط مستعدين للتعاون داخل الجيش.
ثورة الإنقاذ الوطني، هكذا أسماها قائدها العقيد عمر البشير (المشير لاحقا) حين تلا بيانها الأول. ذهب الترابي بقدميه إلى السجن رفقة قادة الأحزاب السودانية الأساسية الذين اعتقلوا آنذاك. خطة تليق بعبقرية الترابي الحركية لإخفاء الطابع الإسلامي للانقلاب عن المجتمع الدولي. رغم ذلك لم يمض أكثر من شهور قليلة قبل أن تكتشف مصر والجيران والقوى الدولية أن الجنرال الذي رحبوا به لإنهاء فوضى الحكم في السودان يضع العمامة.
الخواء الأيديولوجي: من الحركة إلى الدولة
اتسمت الأعوام الأولى للإنقاذ باضطراب شديد في بنية النظام الجديد وفي الواقع لم يكن هناك نظام سياسي متفق عليه داخل الحركة قبل الانقلاب. وكأن كثرة الحديث عن “الدولة الإسلامية” و”النظام الإسلامي” أنسوا الحركة أن تفكر فيما هو هذا النظام الذي تحلم بتأسيسه.
خلال السنوات الأولى ألغيت الأحزاب السياسية والبرلمان تحت شعار الشرعية الثورية. اعتمد النظام في سنواته الأولى نظام المؤتمرات الشعبية مستلهما تجربة ليبيا القذافي الهزلية في زعم الحكم الشعبي. لاحقا أُسّس مؤتمر وطني غير منتخب.
في 1998 أُقرّ دستور جديد تحت ضغط من الترابي بعد معركة داخل الحركة حول ما أسماه الترابي “التوالي السياسي”. ظل هذا المفهوم غامضا وموضوعا للتأويلات المختلفة غير أنه كان يعني ببساطة حرية التنظيم السياسي. الخلاف داخل الحركة حول التوالي أظهر إلى أي مدى غاب عن الحركة رؤية واضحة لمضمون النظام الإسلامي والسياسات اللازمة لتطبيقه.
غياب الرؤية السياسية والاكتفاء بمقولات نظرية فقيرة المضامين حول تمايز الشورى الإسلامية عن الديمقراطية الغربية ولّد دولة بوليسية وفوضوية لم تعرفها السودان حتى في حقبتي الحكم العسكري السابقتين.
أقفلت الصحف سوى اثنتين تابعتين للنظام وعندما سمح النظام لأخريين إسلاميتين سرعان ما أقفل إحداهما بعد أن غردت خارج سرب الإنقاذ. أسس النظام جهاز أمن الثورة بقيادة بكري حسن صالح من الجناح العسكري ثم نافع علي نافع من الحركة الإسلامية.
أسس الجهاز “بيوت الأشباح” حيث اعتقل وعذب وهدد بالاغتصاب (خرجت شهادات بالفعل عن أنه مارس الاغتصاب) كل من فكر في معارضة النظام[4]. الانتهاكات بلغت حد الإعدام خارج القانون لكبار الأطباء الذين قادوا إضرابا ضد نظام الإنقاذ في 1990 ثم لتجار النقد الأجنبي الذين اتهموا بالاتجار في السوق السوداء (كافة هذه الانتهاكات معترف بها من قبل قادة التجربة وإنما يبررونها بالظرف الثوري).
لم يكن الاقتصاد بأحسن حالا من السياسة. في النظرية يرفض الإسلاميون الرأسمالية والاشتراكية. في الممارسة يتبنون شكلا بدائيا رثّا من النيوليبرالية[5]. في العام الثالث صدر البرنامج الثلاثي للإنقاذ الاقتصادي[6] وتضمن:
- تحرير سعر صرف العملة
- تحرير الصادرات والواردات
- خصخصة شركات ومؤسسات القطاع العام
- خفض عجز الموازنة عبر تقليص الإنفاق الحكومي وتقليل عدد موظفي الجهاز الحكومي
- رفع الدعم عن السلع
“هذه ليست رأسمالية بل هي نظام إسلامي يقوم على تحرير المبادرة الاقتصادية الشعبية.” هكذا قال إسلاميو السودان. في الواقع ثمة أطروحات اقتصادية نقدية تتجاوز القسمة الثنائية بين الرأسمالية والاشتراكية لكنها ليست إسلامية ولا ضد إسلامية. وما هو إسلامي بحق هو إدراك أن كل تلك الأطروحات اجتهادات يجب طرحها ديمقراطيا والتفكير فيها بحرية دون إلصاقها بالإسلام أو رميها بالعداء معه لأنها لم تدمغ بديباجات تراثية.
في الواقع أيضا لم يكن الترابي شديد الإيمان بالدولة بل كان مشروعه يعتمد على دور واسع للمجتمع ويقوم على المبادرة الشعبية. إذن لا يمكن للإسلاميين الجدد أن يبرروا فشل التجربة بتغليب الدولة على المجتمع.
توسعت منظمات العمل الاجتماعي الإسلامية وهو المجال الذي كان الإسلاميون قد تغلغلوا فيه منذ فترة التمكين حتى تولى أحد عناصر الحركة الإسلامية وزارة الشئون الاجتماعية في مطلع الثمانينات. حتى الجيش تشكل إلى جانبه قوات للدفاع الشعبي لم تحقق تقدما يذكر في القتال في الجنوب واستمر تقدم الحركة الشعبية لتحرير السودان وتتابعت انتصاراتها.
في مواجهة الخواء الأيديولوجي يلجأ الإسلاميون إلى حلول سيكولوجية. في مواجهة الانتهاكات والفساد تكون المشكلة هي الحاجة إلى تزكية القائمين على السلطة لا تفعيل مؤسسات رقابية وفرض قيود ديمقراطية على السلطة. في مواجهة الفشل الاقتصادي والمؤسسي يكون الحل هو الانتظار أن يصير المجتمع أكثر تدينا وكأن الملائكة ستستبدل بالبشر.
المفاصلة
بعد عشرة أعوام عاد عمر البشير إلى الإذاعة والتليفزيون التي ذهب إليها أول مرة لإعلان البيان الأول لثورة الإنقاذ الوطني. هذه المرة كان ليعلن حل المؤتمر الوطني (البرلمان) المنتخب حديثا متخلصا من رئيسه وقائد الحركة الإسلامية وشريك الحكم في السودان حسن الترابي.
كانت الخلافات قد دبت داخل الحركة الإسلامية منذ وقت مبكر. مقربون من الترابي أرجعوها إلى اللحظة الأولى للانقلاب. سيطر علي عثمان طه -نائب الترابي- وعوض الجاز -قائد الأجهزة الخاصة للحركة الإسلامية (الجهاز الأمني)- على مقاليد الأمور بالتعاون مع القيادة العسكرية بينما جرى تجريد الترابي من النفوذ الفعلي.
بعد التورط في محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك عام 1995 تبادل الجناحان الاتهام بالمسؤولية عن تلك الورطة التي ستضع السودان تحت العقوبات الدولية عام 1996. انزعج الترابي من انفلات الأجهزة الأمنية من تحت سيطرته. منذ ذلك الوقت حاول الترابي أن يستعيد سيطرته على الحركة فطالب بالانتقال إلى الحكم الدستوري الذي يقلص صلاحيات الرئيس لصالح رئيس البرلمان ويتيح التوالي السياسي. رغم نجاحه في ذلك قادت مجموعة من أبناء الحركة الإسلامية نفسها الانقلاب على الترابي.
ديسمبر 1998، عام قبل المفاصلة بين البشير والترابي. قاد عشرة من كوادر الحركة على رأسهم المجموعة الأمنية -نافع علي نافع وبكري حسن صالح- التمرد ضد قيادة الترابي. طالب العشرة بتقليص سلطات الأمين العام. نجح الترابي في استيعاب الضربة بمعونة كبار الحركة الذين حافظوا على ولائهم للقائد التاريخي لكن ما كان واضحا هو أن البلد لم تعد تحتمل رأسين.
“الحركات الإسلامية تعرف أن تبطل الباطل لكن أن تحق الحق كيف؟ لا تعلم” هذا هو الدرس الذي خلص إليه الترابي من التجربة. قال الترابي هذا الكلام في معرض وصفه لخصومه في الحركة الإسلامية[7].
غير أن التجربة في الواقع تقول أن جناح الترابي نفسه ليس استثناء[8]. إذا كان الجميع لا يعرف كنه المفهوم فإن المفهوم نفسه إذن هو المجوف والقابل لأن يملأ باجتهادات مختلفة[9]. إذا كان الجميع لا يدرك ما هو هذا “النظام الإسلامي”، فلعل المشكلة إذن في أنه ما من نظام إسلامي جاهز وأن النظام الإسلامي ما هو إلا اجتهاد يجب أن يصاغ في سياسات محددة.
“حاولت الحركة أن تمد يديها لتحيط بجدار الدولة ولكن هيهات”
هكذا كتب المحبوب عبد السلام[10].
المصادر
[1] بخصوص تاريخ السودان الحديث، فيمكن الرجوع إلى كتاب روبرت كولينز بهذا العنوان نفسه (القاهرة: مكتبة الأسرة، 2015)، مع الانتباه إلى موقف المؤلف العدائي تجاه الإسلاميين.
[2] بخصوص فكر الترابي الحركي، “الحركة الإسلامية في السودان: التطور الكسب المنهج” (المنصورة: مكتبة الإيمان، 1990).
[3] تبقى رسالة الصحوة الإسلامية والدولة القطرية للترابي تقليدية في المجمل لا تعبر كعادة فكره السياسي المحدود عن عبقريته الحركية.
[4]تقرير العفو الدولية عن السودان عام 1996.
[5] يجب أن نتذكر هنا تصريح حسن مالك عن صحة سياسات جمال مبارك إذا تخلصت من الفساد.
[6] بخصوص التجربة الاقتصادية للإنقاذ، نجلاء يوسف، “الأبعاد الاقتصادية لعلاقة صندوق النقد الدولي مع السودان”، بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير في العلاقات الدولية، جامعة الخرطوم، فبراير 2003.
[7] الحلقة الأخيرة من شهادته في برنامج شاهد على العصر على قناة الجزيرة.
[8] بخصوص فكر الترابي السياسي، “في الفقه السياسي: مقاربات في تأصيل الفكر السياسي الإسلامي” (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010).
[9] بخصوص مفهوم الدال الفارغ المشار إليه هنا عن شعار “النظام الإسلامي”، تراجع أعمال المنظر اليساري إرنستو لالكلاو، تحديدا الفصل الرابع من كتابه الأساسي “On Populist Reason” (Verso Books, 2005).
[10] بخصوص تقييم مجمل لتجربة الإنقاذ من الداخل، فيمكن الرجوع إلى كتاب المحبوب عبد السلام: “الحركة الإسلامية السودانية.. دائرة الضوء، خيوط الظلام: تأملات في العشرية الأولى للإنقاذ” (القاهرة: مكتبة جزيرة الورد، 2009).