من المفارقات اللافتة للانتباه أن كثيرا من الدراسات المهتمة بالإسلام السياسي ركزت اهتمامها على تجارب الحركات الإسلامية في الشرق الأوسط والعالم العربي. متجاهلة أن أكثر من ثلثي المسلمين يعيشون خارج هذه المنطقة. كما أن لكثير من الإسلاميين خارج العالم العربي تجارب سياسية ناجحة تستحق الاهتمام.[1] وتمثل تجربة حركات الإسلام السياسي الماليزية نموذجا لافتا يستحق العناية والاهتمام من كل المعنيين بهذا المجال.
ماليزيا: الدولة والإسلام ونظام الحكم
تمثل ماليزيا نموذجا فريدا لدولة حديثة شكل الاستعمار البريطاني الإطار العام لنظامها السياسي. فماليزيا مملكة فدرالية دستورية حافظت منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1957م على نظام حكم برلماني ديمقراطي تعددي لم يتعطل سوى لفترات وجيزة وظلت النخبة المدنية الحزبية تقود المشهد فيه منذ الاستقلال حتى الآن.
ورغم تعقيد المشهد الديمغرافي الماليزي (فهي دولة متعددة الأعراق لا تزيد نسبة المسلمين فيها على ٦٠٪) إلا أن الملايو المسلمين (٥٥٪ من السكان) ظلوا عماد النظام السياسي الماليزي وقادوا البلاد منذ الاستقلال.
ورغم وجود تيارات سياسية ملايوية عديدة (قومية واشتراكية وليبرالية وإسلامية) بالإضافة لوجود أحزاب تمثل الأقليات غير الملايوية وأحزاب متعددة العرقيات إلا أن حزب أمنو القومي الملايوي ظل (منذ نشأته عام 1946م) الفاعل الأهم في المشهد السياسي الماليزي حتى الآن.
وقد شكلت المنافسة الشديدة لعقود على مقاعد الناخبين الملايو بين حزبي أمنو (القومي) ومنافسه التقليدي حزب باس (الإسلامي) ثم بين أمنو وأحزاب إسلامية وقومية جديدة الميدان الأهم للصراع السياسي والفكري والمجتمعي في ماليزيا حيث تطور الخطاب السياسي الماليزي على وقع هذه المنافسة المستمرة.
ولفهم تجربة الإسلام السياسي الماليزي فلا بد من الإشارة إلى أن الدولة الماليزية وحزبها الحاكم طيلة ستة عقود (أمنو) لم يكونا بنى علمانية صرفة. فالدولة الماليزية ونظامها السياسي تأثرا بشكل مباشر بالأيديولوجيا الإسلامية الإصلاحية التي صاغت الهوية القومية الملايوية في أربعينيات القرن العشرين.[2]
وكون حزب أمنو حزبا قوميا وكون القومية الملايوية قومية دينية بالضرورة (حيث يعرف الدستور الماليزي الشخص الملايوي بأنه شخص مسلم يتحدث اللغة الملايوية ويمارس العادات والتقاليد الملايوية) فإن مسار أمنو السياسي اقترن مبكرا بأجندة إسلامية تمثلت بالدفاع عن حقوق المسلمين والحفاظ على ثقافتهم.
وساهمت مشاركة الإسلاميين المبكرة في النظام السياسي الماليزي وحالة التنافس المستمرة بين الإسلاميين والقوميين في رفع سقف الخطاب الإسلامي الماليزي وأسلمة الدولة بشكل مستمر.
ورغم انتشار الفرضية القائلة بأن مشاركة الإسلاميين في النظام الديمقراطي قد تدفعهم للبراغماتية والمساومة وتعديل سلوكهم السياسي بل وتعديل الأيديولوجيا التي يعتنقونها أحيانا إلا أن تجربة ماليزيا توحي بأن ما حصل هو العكس حيث ساهمت مشاركة الإسلاميين في العملية السياسية نحو دفع الدولة وحزبها الأهم لتسريع عملية الأسلمة ومحاولة التغلب على مطالب الإسلاميين عبر المزيد من الأسلمة.[3]
ماذا نعرف عن الإسلام السياسي الماليزي؟
توسعت أطر الحركة الإسلامية الماليزية منذ مطلع الثمانينيات لتشمل بالإضافة للأحزاب والجماعات الإسلامية الكثير من المؤسسات الدينية الرسمية والشعبية التي تساهم بشكل دائم ومباشر في عملية أسلمة الدولة والمجتمع بعيدا عن الصراع السياسي الدائر بين مختلف القوى والأحزاب.
ويمكن القول بأن أهم مكونات الإسلام السياسي الماليزي المعاصر هي ثلاث مجموعات تملك -بأشكال مختلفة- تأثيرا مباشرا في صياغة الخطاب السياسي الماليزي وتوجيه الصراع الحزبي المواكب له. وهذه المجموعات هي:
- الأحزاب السياسية الإسلامية: وتضم بشكل أساسي الحزب الإسلامي الماليزي (باس) PAS وحزب الأمانة الوطني (أمانة) Amanah.
- الجماعات الإسلامية الحركية غير الحزبية: وأبرزها حركة الشباب الإسلامي (ابيم)، جماعة إكرام، حركة الاتحاد الإسلامي (اسما).
- الأحزاب القومية الملايوية (التي تضم خليطا من قوى وتيارات إسلامية وقومية متنوعة): وأبرزها حزب أمنو والأحزاب القومية المنشقة عنه مثل حزب الوحدة Bersatu وحزب المقاتل Pejuang.
مشاركة الإسلاميين في الحكم
المرحلة الأولى : باس في الحكومة (1974م – 1978م)
جاءت المشاركة الأولى للإسلاميين الماليزيين في الحكومة الفيدرالية إثر تحولات استثنائية أعقبت الأزمة العرقية الدموية التي وقعت بين الأقلية الصينية والغالبية الملايوية بعد انتخابات مايو 1969م.
فبعد إعلان حالة الطوارئ وتعليق الحياة البرلمانية قرابة العامين نجح رئيس الوزراء الماليزي ورئيس حزب أمنو عبد الرزاق حسين في إعادة تشكيل المشهد السياسي عبر توسيع تحالفاته السياسية وتأسيس “الجبهة الوطنية” التي ضمت بالإضافة لأحزاب الحكم التقليدية أحزاب معارضة بارزة مثل حزب باس الإسلامي الذي شارك في الحكم الفيدرالي عام 1974م لأول مرة منذ نشأته قبل عقدين من الزمان.[4]
ورغم أن باس سبق وحكم ولاية كيلانتان من قبل إلا أن هذه التجربة كانت الأولى للحزب على المستوى المركزي حيث تولى رئيس الحزب محمد عصري مودا وزارة الأراضي والمناجم بالإضافة لحقيبة الشؤون الخاصة.
وفتحت هذه المشاركة الباب لانخراط كثير من أنصار الحزب في مؤسسات الدولة مما أتاح لهم الفرصة بالمساهمة في عملية أسلمة الدولة في مرحلة لاحقة.[5] ولكن الأثر الأكبر لهذه التجربة كان داخليا حيث تراجعت شعبية الحزب تحت قيادة عصري مودا الذي لم ترق سياساته القومية لكثير من أبناء الحزب خصوصا تياره الشبابي الذي أطاح بعصري من قيادة الحزب في فترة لاحقة.[6] ودفع تراجع شعبية الحزب والخلافات التي نشبت داخله لانسحاب باس من حكومة رئيس الوزراء حينها حسين عون عام 1978م.
المرحلة الثانية : عصر مهاتير وأسلمة الدولة (1981م-2003م)
رغم انسحاب الحزب الإسلامي (باس) من الحكومة ثم تصاعد خطابه المعارض لحكومة الدكتور مهاتير محمد بقيادة رئيس الحزب الجديد الشيخ يوسف راوا إلا أن تجربة الإسلام السياسي الماليزي في الحكم لم تنته عندئذ حيث شهد عقد الثمانينيات تحولين بارزين دفعا بالأجندة الإسلامية إلى الصدارة.
كان أول هذه التحولات هو استلام زعيم أمنو الجديد الدكتور مهاتير محمد زمام الحكم عام 1981م وإطلاقه لمجموعة من المشاريع الكبرى الساعية لتحقيق النهضة الاقتصادية. وسعى الدكتور مهاتير لتعزيز شرعية مشروع النهضة الاقتصادية والتحديث في ماليزيا عبر إطلاق برنامج واسع لأسلمة الدولة ونظام الحكم ينبني على مرتكزات عملية تتبنى القيم الإسلامية في العمل والحياة وتسعى لبناء الحضارة الإسلامية من جديد.[7]
شملت عملية الأسلمة حينها إنشاء مؤسسات إسلامية رسمية جديدة وضم جيل جديد من الدعاة والعلماء لصفوف الجهاز البيروقراطي للدولة وإنشاء البنوك والمشاريع الإسلامية وتشجيع الحراك الفكري الإسلامي وغيرها من المبادرات.
وكان التحول الثاني الداعم لأجندة مهاتير الإسلامية متمثلا في استيعابه للزعيم الشبابي الإسلامي أنور إبراهيم ومجموعة من قيادات حركة الشباب الإسلامي (أبيم) في صفوف حزب أمنو الحاكم منذ مطلع حكم الدكتور مهاتير. من اللافت للنظر أن هذا التوجه المهاتيري نحو الأسلمة واستيعاب الإسلاميين في الحكم جاء مخالفا للاتجاه العام في كثير من الدول الإسلامية آنذاك والتي سعت لمحاربتهم وإقصائهم عن مراكز صناعة القرار.
مثل عقدا الثمانينيات والتسعينيات أوج مرحلة صعود التيار الإسلامي الحركي (غير الحزبي) حيث صعد قيادات (أبيم) سلم الحكم من داخل حزب (أمنو) بينما استمر حزب (باس) في قيادة تيار المعارضة لحكم الدكتور مهاتير.
ورغم أن الدارسين لشخصية وتجربة مهاتير السياسية يترددون في ضمه إلى دائرة الإسلام السياسي إلا أن الكاتب يميل لاعتبار تجربته -فكرا وممارسة- تجربة إسلامية فريدة تمثل نموذجا متقدما من نماذج الإسلام السياسي قادها الرجل باقتدار قبل عقود من وصول معظم تيارات الإسلام السياسي للحكم.
لقد مثلت مرحلة مهاتير الأولى تجربة فريدة نجح الإسلاميون وحلفائهم فيها بأسلمة النظام السياسي الماليزي رغم بقاء أبرز أحزاب الإسلام السياسي “باس” خارج الحكم.
المرحلة الثالثة: الإسلام الحضاري والانفتاح على الإسلاميين (2003-2018)
رغم استمرار (باس) في المعارضة منذ خروجه من السلطة عام 1978م وتغييب أنور إبراهيم عن الحكم منذ عام 1998م إلا أن تجربة الإسلام السياسي في حكم ماليزيا لم تتوقف. فقد تحول حزب (أمنو) خلال حكم الدكتور مهاتير من حزب قومي علماني إلى حزب قومي ذي صبغة إسلامية لا يختلف خطابه وأجندته كثيرا عن سائر أحزاب الإسلام السياسي العالمية.[8] وجاءت فترة حكم عبد الله بدوي (2003-2009م) لتفتح الطريق أمام تبني الدولة رسميا لمشروع إسلامي تمثل في رؤية “الإسلام الحضاري”. ويعني الإسلام الحضاري وفقا لصاحب الرؤية نفسه “الإسلام الذي يركز على جانب التمدن وبناء الحضارة”.[9]
ورغم وقوف تيارات الإسلام السياسي التقليدية (خصوصا باس) موقفا متوجسا من رؤية الإسلام الحضاري إلا أن تبني الحكومة لها طيلة فترة بدوي عزز من نفوذ وانتشار المؤسسات الدينية الرسمية والشعبية ورفع سقف الخطاب السياسي الإسلامي بشكل غير مسبوق.
وشهدت فترة بدوي عودة أنور إبراهيم للمشهد السياسي عبر حزب (عدالة الشعب) ومثل تحالف حزب العدالة مع حزب باس تحديا حقيقيا لحزب أمنو حيث تشكل لأول مرة بديل سياسي ملايوي قادر على اجتذاب شرائح واسعة من الرأي العام كما ظهر في الانتخابات البرلمانية عام 2008م التي فقد فيها التحالف الحاكم أغلبية الثلثين.[10]
هذا الضغط الحزبي الخارجي على (أمنو) مضافا له التحولات الداخلية (خصوصا أسلمة الحزب) ساهم بإعادة تأطير الصراع السياسي الماليزي ليصبح منافسة بين الإسلاميين القوميين من جهة وتيارات إسلامية متنوعة على الجهة المقابلة.
ولم تتوقف المنافسة خلال فترة حكم محمد نجيب عبد الرزاق (2009-2018م) بين الخطابين الإسلامي القومي (أمنو) من جهة والإسلامي البديل (أنور إبراهيم وباس) من جهة أخرى. بل تحولت المنافسة على الأسلمة إلى ما يشبه السباق بين النخب الحزبية التقليدية من جهة وتيارات إسلامية جديدة صاعدة (مثل حزب أمانة وحركتي إكرام وإسما) من جهة أخرى.
وشهدت هذه الفترة أيضا انفتاح أمنو على حركات إسلامية عالمية مما ساهم في تعزيز الصبغة الإسلامية الجديدة للحزب. لكن تفاقم قضايا الفساد وتراجع شعبية الحزب الحاكم دفعا نحو تفكك المشهد السياسي والإطاحة بالنظام في انتخابات 2018م مما فتح الباب على مصراعيه لدخول أحزاب الإسلام السياسي المختلفة إلى قلب نظام الحكم لتصبح مكونا أساسيا في الحكومات اللاحقة.
المرحلة الرابعة: الأحزاب الإسلامية في السلطة من جديد (٢٠١٨- الآن)
مثلت خسارة حزب (أمنو) وتحالف الجبهة الوطنية الانتخابات العامة عام 2018 وخروجهم من السلطة بعد ستة عقود من الحكم هزة غير مسبوقة للنظام السياسي الماليزي لا يزال يتأرجح على وقعها.
فالانشقاقات التي تعرض لها (أمنو) خلال حكم نجيب وتكاثر الأحزاب السياسية فتح الباب أمام صعود أحزاب إسلامية جديدة مثل حزب الأمانة. وحظي حزب أمانة الإسلامي على حصة رئيسية في حكومة الدكتور مهاتير الجديدة حيث تولى رئيسه وزارة الدفاع وتولى معظم برلمانييه (8 من أصل 9 برلمانيين) مقاعد وزارية مهمة. ولم تقتصر مشاركة الإسلاميين في حكومة الدكتور مهاتير على حزب أمانة حيث تولى عدد من البرلمانيين المنتمين لحركات إسلامية غير حزبية (اكرام وأبيم) عدة حقائب وزارية مهمة.
ولم يكتب لحكومة الدكتور مهاتير الاستمرار أكثر من 22 شهرا حيث وقعت انقسامات في التحالف الحاكم فتحت الباب لتشكيل حكومة جديدة (منذ مارس 2020م حتى الآن) بقيادة الزعيم القومي محيي الدين ياسين وبمشاركة حزبي باس الإسلامي وأمنو القومي (ذو التوجهات الإسلامية).
وقدم حزب (باس) نموذجا لمشاركة الإسلاميين في الحكم مغايرا للنموذج الذي قدمه حزب أمانة (المنشق عنه عام 2016م). فقد أظهر حزب باس نزعة قومية واضحة تجاهلت الأقليات غير الملايوية بينما سعى حزب أمانة لتقديم خطاب منفتح على القوميات والأقليات غير الملايوية وغير المسلمة.
كما تراجع حزب باس عن تركيزه التاريخي على مشاريع أيديولوجية مثل تطبيق الشريعة (خصوصا الحدود) وصرف جهده في تعزيز نفوذه داخل أروقة الحكم. أما حزب أمانة فقد ركز خطابه على مكافحة الفساد وتقديم نموذج إسلامي منفتح على الأقليات لكنه انشغل في أعباء الحكم قبل اكتمال بنائه التنظيمي وتوسيع انتشاره.
وخلاصة القول أن الإسلاميين في ماليزيا نجحوا بشكل كبير في صياغة الخطاب السياسي الماليزي وتأطيره وفقا لرؤاهم ومنطلقاتهم الفكرية كما نجحوا في بناء تجارب متنوعة في الحكم ليصبحوا جزءا أساسيا من المشهد السياسي الماليزي.
فعلى الرغم من استمرار التقلبات السياسية منذ 2018م، إلا أنه غدا واضحا أن أحزاب الإسلام السياسي الماليزي ستظل ركنا مهما في أي تشكيل حكومي قادم.
المصادر
[1] Joseph Chinyong Liow, Piety and Politics: Islamism in Contemporary Malaysia, (Oxford University Press: New York, 2009), 8-9.
[2] Joseph Chinyong Liow, Piety and Politics, 19-20.
[3] Ibid, 43-46.
[4] Farish A. Noor, The Malaysian Islamic Party PAS 1951-2013: Islamism in a Mottled Nation, (Strategic Information and Research Development Centre: Petaling Jaya, 2014), 85.
[5] عبد الهادي أوانغ، مقابلة للباحث مع الشيخ عبد الهادي أوانغ، المبعوث الخاص لرئيس الوزراء الماليزي للشرق الأوسط ورئيس الحزب الإسلامي الماليزي (باس)، كوالالمبور، 2017م.
[6] Joseph Chinyong Liow, Piety and Politics, 33-36.
[7] مهاتير محمد، مقابلة للباحث مع الدكتور مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا في الفترتين 1981م-2003م و 2018م-2020م، بوتراجايا، 2020م.
[8] John Funston, “UMNO – From Hidup Melayu to Ketuanan Melayu”. In The End of UMNO: Essays on Malaysia’s Dominant Party, edited by Bridget Welsh, 42-64, (Petaling Jaya: Strategic Information and Research Development Centre, 2016).
[9] عبد الله أحمد بدوي، “وثيقة الإسلام الحضاري”، في “الإسلام الحضاري: النموذج الماليزي”، (مركز المسبار للدراسات والبحوث، 2010)، 137-154.
[10] صهيب جاسم، “ماليزيا ما بعد عاصفة الانتخابات ورياح التغيير”، مركز الجزيرة للدراسات