سردية المحتل: فلسطين الممنوعة من حرية التعبير
يتبين كل طرف في العالم موضع قدمه كل صباح، أين يقف؟ في أي مساحة من الجميع يقترب؟ مع أي الملفات المطروحة في الساحة الدولية يشتبك؟ وأي الأدوات المتاحة بين يديه يستخدم وبأي حليف يستعين.
أسئلة كثيرة، تترجم لاحقًا إلى خططٍ عملية عنوانها جميعًا السردية، حيث إن الأخيرة هذه هي المؤطر دومًا لأي حراك، فطبقًا لسرديتك تتحسس خطواتك في هذا العالم، عاملًا بها ومحافظًا عليها، وتتجلى هذه السردية في أغلب الأحيان في “الإخبار” الذي يتم عن طريق وسائل الإعلام أو الناس في الشوارع أو اللافتات المعلقة والمناهج الدراسية وكتب التاريخ، حتى يتحول الأمر إلى ميزانٍ تزن عليه كل شيء، قراراتك السياسية، وتوجهاتك الاقتصادية والاجتماعية، لتسأل نفسك دومًا: هل يتوافق هذا التصرف مع سرديتي؟
وفي هذا العالم المليء بالاشتباكات، يحاول الجميع تشكيل سرديته لتكون بوصلته في الحكم على الأشياء، ودافعًا لتبرير تصرفاته، وتُخصص الملايين يوميًا لبناء وترويج هذه السرديات من كبرى الأمم قوةً وعتادًا إلى أضعفها سلاحًا ودعمًا، حيث إنها معركة قد لا تكون متكافئة في كثيرٍ من الأحيان لكنها تبقى معركة ممكنة الربح دومًا في حال استٌخدمت الأدوات الصحيحة لذلك، وعلى رأس كل هذه الأدوات؛ الإعلام بكل أشكاله وصنوفه، بالإضافة إلى النوادي الثقافية وتجمعات الأكاديميين وأيضًا أصحاب الرأي والتأثير.
تعيش منطقتنا في هذا الصراع منذ عقود، لكن على مستوياتٍ مختلفة، تتطور بتغير الأدوات، ودخول عناصر جديدة في اللعبة السياسية والإعلامية، فمحاولات الاحتلال الإسرائيلي خلق سردية تدعم وتبرر سياساته ضد الفلسطينيين من جهة وقمعهم من التعبير عن أنفسهم في ظل ما يجري من جهة أخرى لتظل الصورة دائمًا التي يسمع بها العالم عن إسرائيل؛ هي جمال شواطئ تل أبيب وحيفا.
هذا الترويج والقمع المتوازيان، تستخدم فيهما إسرائيل الإعلام ليس بعناصره فقط، بل بتقييداته وخطوطه التحريرية.
كيف تخلق مظلومية ثم تنتصر عليها؟
بهذه الطريقة بنت إسرائيل مظلوميتها في فلسطين، على خلفية مظلومية اليهود الكبرى مستخدمة إرث المحرقة في الترويج لواقع لا تعيشه، فتجد في خضم ما كانت تشهده الولايات المتحدة الأمريكية، أواسط يناير الماضي، أثناء محاولة ديمقراطيي الكونجرس محاكمة ترامب للمرة الثانية، قُبيل تولي جو بايدن الرئاسة، تجد رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي تقف تحت سقف الكونغرس، وأثناء مطالبتها بعزل ترامب تقتبس أبياتا لشاعر إسرائيلي[1] وصفته بالعظيم. في دلالةٍ واضحة على التأثير الذي يمكن أن تحدثه الدعاية على عقول أهم الساسة الأمريكان.
الأمر لا يتوقف هنا عند مجرد التأثير في عقول النخبة، بل أصبحت تهمة معاداة السامية الفضفاضة سلاحًا مسلطًا على رقبة أي منتقد لإسرائيل في دول العالم الحر، بل يمكن ببساطة أن تنسحب هذه التهمة على كل من انتقد إسرائيل في وقت سابق، فتصبح أداة حكم تستخدم بأثرٍ رجعي على أحداث فات أوانها، ففي يوليو عام 2019 تعرض الصحفي المصري، محمد الشامي للفصل من شبكة CNN بعد أن استطاع مغردون يمينيون الوصول إلى تغريدات كتبها قبل ثمانية أعوام، ينتقد فيها إسرائيل[2]، قبل ذلك بأشهر في نوفمبر 2018، فصلت القناة نفسها المعلق السياسي مارك ليمونت هيل[3]، بعد خطاب ألقاه في الأمم المتحدة، تحدث فيه عن الصعوبات التي يواجهها الفلسطينيون داعيا إلى التحرك لحمايتهم، لكن “فلسطين حرة” التي قالها في نهاية خطابه كانت كفيلة بإنهاء خدماته مع الشبكة الأمريكية.
وفي فبراير الماضي، قامت صحيفة الجارديان بالاستغناء عن خدمات الصحفي وكاتب العمود الأمريكي، ناثان روبنسون، بسبب تغريدة ساخرة له، قال فيها: “هل تعرفون أن الكونغرس الأمريكي غير مخول فعليا بالمصادقة على أي إنفاق جديد ما لم يتم تخصيص جزء منه لبيع الأسلحة إلى إسرائيل؟ هذا هو القانون”، وبالتأكيد مجرد السخرية من تصرف سياسي، تقوم به إدارة تجاه أخرى -إن كان متعلقًا بإسرائيل- فإنه معاداة للسامية، وهي التهمة التي جناها روبنسون من انتقاده هذا، ورغم إيضاحه أنها مجرد “نكتة”، إلا أن حسه الكوميدي لم يشفع له ولم يجنبه العقاب[4].
يسعى الطوق الذي تفرضه إسرائيل على وسائل الإعلام الكبرى إلى حماية سرديتها التي تطلقها في كل الوسائط، حيث أن كل منتقد لهذه السردية هو معادٍ بالضرورة للسامية، وبناءً عليه فلا صوت ناقد في أي نافذة إعلامية كبرى أو مؤسسة ذائعة الصيت. وحينما لا تجد مكانًا في الإعلام التقليدي، عليك أن تهرول للبديل، لكن؛ هل ستتركك إسرائيل تحظى بحرية التعبير تضامنًا مع فلسطين؟
قصف المحتوى الفلسطيني
رغم اتسام مواقع التواصل الاجتماعي لبعض الوقت بكونها فضاءً حرًا يستطيع فيها أصحاب الآراء المختلفة التعبير عن انحيازاتهم دون التعرض لمقص الرقيب، إلا أنه ومع تطور آليات عمل هذه المواقع وتعاونها الوثيق مع إسرائيل، أصبحت بمرور الزمن أقل رحابةً بالآراء المخالفة للسردية الإسرائيلية للأحداث، بل ومتخذةً موقفًا يصل إلى العداء في أغلب الأحيان.
ويتصدر فيسبوك قائمة المعادين للتدوين المناهض لإسرائيل، تليه منصات أخرى مثل تويتر ويوتيوب وحتى لينكد إن، المنصة المعنية بالعلاقات المهنية والاحترافية فقط، فمنذ 2016 ويلاحق فيسبوك الصفحات والنشطاء الفلسطينيين، بحجة مخالفتهم معايير مجتمعه، التي من بينها بالتأكيد عدم التحريض على العنف بكافة أشكاله، وأخذت مساحة مراقبة الذكاء الاصطناعي للمستخدمين في ازدياد، حتى أصبح الأمر لا يحتاج أن يقوم أحدهم بالإبلاغ عن منشور لك، بل يُحيلك سلاح الخوارزميات إلى مقصلة العقاب فور نشر صورة أو كلمة أو فيديو تخالف هذه المعايير.
يوضح ذلك، إعلان وزارة القضاء الإسرائيلية استجابة إدارة موقع فيسبوك لما يقرب من 85% من طلبات إسرائيل لإزالة وحظر وتقديم بيانات خاصة بالمحتوى الفلسطيني على فيسبوك عام 2017. لكن اليوم لم تعد إسرائيل بحاجة لتقديم طلبات لحظر شخص أو محتوى بعينه، بل أصبحت الخوارزميات تقوم بذلك الدور بالنيابة عن القضاء الإسرائيلي[5].
ومع تصاعد الحملات التضامنية مع حي الشيخ جراح في القدس، على مواقع التواصل الاجتماعي عاد فيسبوك ليمارس دور الرقيب في قمع هذه الحملات، اكتملت الصورة ببدء إسرائيل حملتها العسكرية على قطاع غزة والتي خلفت عشرات الشهداء من الأطفال والنساء، ومع اشتداد الحملة استمرت خوارزميات مارك زوكربيرغ في التصدي لمنشورات التضامن، بل وسعت لتقليل الوصول للمنشورات التي تناقش القضية، من خلال الكلمات الدالة، كفلسطين والقدس والمقاومة التي أصبحت الآن ترسل فورًا تنبيهات إلى تلك الخوارزميات.
ويبدو أن الذكاء الاصطناعي لم يقم بالدور الكافي الذي تتمناه إسرائيل، إذ عقد بيني غانتس وزير القضاء الإسرائيلي -بالتزامن مع الحملة العسكرية على غزة- اجتماعات مع المديرين التنفيذيين في “فيسبوك” و “تيك توك” أوصاهم فيها بضرورة اتخاذ إجراءات سريعة لمحاربة المحتوى الفلسطيني. وكأن ما تفعله إدارة هذه المنصات ليس بكاف للتعمية على الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال.
لكن هذه المرة كانت ردة الفعل مختلفة، إذ بدأ المستخدمون ليس فقط في التحايل على الذكاء الآلي، بل شنوا حملة عقاب لفيسبوك على متاجر التطبيقات وأطلقوا حملات لمقاطعته، بالإضافة لتدشين منصات تعطي نصوصا[6] تتجاوز معرفة[7] الخوارزميات وبذلك لا يعرضك التدوين عن فلسطين للحظر أو تعطيل الحساب، وهي خطوات نراها للمرة الأولى في المعركة بين الاحتلال والمدافعين عن حقوق الفلسطينيين.
وفي كل المحاولات الحثيثة هذه لإيصال الواقع المأساوي الذي يعيشه الفلسطينيون، تجد على الجهة الأخرى يسمح فيسبوك لعشرات الصفحات المروجة للمحتوى الدعائي الإسرائيلي بالقيام بأدوارها دون قيود، بل ويسمح لها بالترويج لمعلومات مضللة، أثبتت جهات مستقلة عدم صحتها.
وحتى يستمر طرفا معادلة السردية في المُضي قُدمًا (الحظر والتسويق) فإن إسرائيل ومع تطور أدوات تقديم المحتوى عبر الإنترنت وعَت أهمية “المؤثرين” فلجأت لتبنى بعض منهم، بهدف المساعدة في ترويج رواية الاحتلال والدفاع عنها، وأبرز مثال على ذلك هو المدون ذو الأصول الفلسطينية، ياسين نصير حيث ترعى مؤسسات وأشخاص داعمة لإسرائيل مشروع “أكاديمية ناس ديلي” المعنية بتخريج ثمانون صانع محتوى عربي مدربون على إنتاج المحتوى، لكن بهدف تجميل صورة الاحتلال، ويتولّى التدريب في الأكاديمية موظف سابق في جيش الاحتلال يدعى يوناتان بيليك[8].
شاشاتٌ صغيرة، وأخرى كبيرة
ربما أصبح مألوفًا بالنسبة لك سماع كلمة “إسرائيل” في أفلام ومسلسلات هوليود بشكل متكرر، وتجد الاسم مقحمًا في مشهد لا علاقة للشرق الأوسط برمته بسياقه، لكن تجد الممثل يشير إلا أن صديقه أحب فتاة إسرائيلية وسافر معها إلى تل أبيب أو يهودي متدين من بروكلين في نيويورك ذهب لدراسة التوراة في القدس، أو عميل استخباراتي يشارك مع رؤسائه معلومات وردته من زميل يعمل في الموساد.
كل هذه المشاهد ليست مصادفة، إنها بغرض التطبيع مع فكرة أن إسرائيل دولة مسالمة، لكنها قوية، تتعاون مع الـCIA وتتبادل معها المعلومات، ويدرس طلابها في الجامعات الأمريكية،، بل إن ذكر إسرائيل في سياق أي صراع في الشرق الأوسط، يكون من خلال لعبها دور الوسيط القوي في حل مشكلات هذا الإقليم المنكوب.
وتلك قصة وعت لها إسرائيل مبكرًا، ففي عام 2016 أُعلِن عن تأسيس نتفليكس مكتب رئيسي لها في تل أبيب، ضمن خطتها للتوسع خارج الولايات المتحدة، قبل ذلك وبعده، شاهدنا إنتاجات نتفليكس الأصلية عن إسرائيل، لا تعبر بأي حال سوى عن الرواية الإسرائيلية، وتجد المنصة تنشر سلاسل وثائقيات للغرض ذاته، وتنتج مسلسلات بعدة أجزاء تحكي الدور الذي تلعبه عصابات المستعربين في حماية أمن إسرائيل، رغم أن هذه المجموعات ترتكب جرائم بالجملة بحق الفلسطينيين[9].
وفي سياق الصورة الذهنية تلك الذي تلعبها إسرائيل، لا يمكن تجاهل برنامج “هسبرا”، برنامج الدبلوماسية العامة، وهي أنشطة دعاية تلقى قبولًا لدى المجتمعات العامة في الغرب، وتهدف لدعم من يقفون إلى جانب دولة الاحتلال والحد مما تصفه بـ”العداء” لها، ونشر منطق التطبيع مع الاحتلال في الغرب، ويدير البرنامج وغيره، وزارات الخارجية والإعلام والسياحة الإسرائيلية بالإضافة إلى رئاسة الوزراء، ولقياس خطر هذا البرنامج، فإن أحد أنشطته هو برنامج الزمالات الذي يتعاون مع أكثر من 250 جامعة في أنحاء العالم.
ورغم كل هذه المحاولات التي لا يجب أن نغفل عنها أبدًا، لا يمكن إهمال الأدوار التي يقوم بها المبدعون المهتمون بدعم القضية الفلسطينية، إذ لا تنتهي محاولاتهم لكسر جدار الصمت الذي تفرضه الآلة الإعلامية الضخمة التابعة لإسرائيل، لكن وفي خلفية كل ذلك تبقى المقاطعة والتعريف بالجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين هما السبيل الأبرز في معركة الفكرة والتأثير هذه، وقد رأينا تأثير نشر الانتهاكات على تفاعل مشاهير كُثر حول العالم للمرة الأولى، بفعل وصول هذه الوسوم إليهم، وهو ما يدعونا لعدم استصغار أي فعلٍ يدعم نضال الشعب الفلسطيني.
المصادر
- [1] ‘I can’t keep silent’: Pelosi quotes Israeli poet to urge Trump removal, The Times of Israel, 13 January 2021.
- [2] CNN تفصل موظفاً مصرياً بسبب تغريدة عمرها 8 سنوات، جريدة العربي الجديد، 26 يوليو 2019
- [3] Marc Lamont Hill at UN calls for “Free Palestine from the River to the Sea” to chorus of applause, UN Watch Nov 29, 2018.
- [4] How the Media Cracks Down on Critics of Israel, Nathan J. Robinson, 10 February 2021.
- [5] Facebook: land of censorship, home of the fake, carlos latuff, 13 Oct, 2018.
- [6] https://www.tajawz.com/
- [7] dotless.app
- [8] “ناس ديلي”.. دُمية جديدة لتلميع “إسرائيل”، متراس، ٢٦ سبتمبر ٢٠٢٠
- [9] المستعربون ، فرق الموت، إعدامات خارج نطاق القضاء – هيئة شؤون الأسرى والمحررين The Commission of Detainees Affairs، ٢٥ أكتوبر ٢٠١٥.