بدأت دعائم نظام الرئيس الأسبق مبارك في التشقق منذ عام 2004 عندما قرر مبارك توريث السلطة إلى نجله جمال،ـ وعندما لاقت خطواته معارضة قوية من داخل نظام الحكم –النخبة العسكرية تحديدًا- ومن عديد من القوى السياسية التي انفصلت عن كياناتها الحزبية، والتي كان منها حزب الوسط، وحزب الكرامة المنشق عن الحزب العربي الناصري، وحزب الغد المنشق عن حزب الوفد، وتنظيم الاشتراكيين الثوريين، واللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة في فلسطين وغيرها من القوى التي اتحدت على هدف منع توريث النظام السياسي لجمال مبارك، والتي تماهت خلافاتها الأيديولوجية عبر التعاون في منصات عدة، كان أبرزها (مؤتمر القاهرة لمناهضة الإمبريالية والصهيونية) الذي تكرر لسنوات منذ غزو الولايات المتحدة الأمريكية للعراق في عام 2003، ومثل واحدة من أبرز منصات التقارب والتعاون بين القوى المعارضة من مختلف تياراتها، وكذا حركة “كفاية” التي ضمت رموزًا من مختلف تيارات السياسة والفكر، أبرزها المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري.
لكن التقارب الحركي والتنظيمي بين قوى المعارضة لم يكن الحافز الأساسي لتحريك التظاهرات، بل كان الزخم الشعبي والشبابي الذي سبق وصاحب الشرارة الأولى لها، وتتناول الفقرات التالية أبرز الأبعاد الثقافية والاجتماعية لبعضٍ من الحركات اليافعة المؤثرة في تظاهرات 25 يناير 2011، والتي مثلت ما نسميه في علم السياسة بـ “الجيل السياسي” الذي شكلته مجموعة من القيم السياسية والتوجهات نحو مصير مشترك كان بالأساس منع توريث الحكم لنجل مبارك والقضاء على الظلم والفقر وقمع الحريات.
كانت الشرارة الأولى هي واقعة انتحار “بوعزيزي”، التي اكتسبت زخمها بين الشباب المصري من اتساع ظاهرة الانتحار بسبب القهر السياسي والفقر، فتشير إحدى سرديات “الثورة” إلى حقائق تداولتها صفحة “كلنا خالد سعيد” قبيل التظاهرات بأشهر قليلة.
منها أنه بين عامي 2006 و2011، بلغ عدد حالات الانتحار 12 ألف حالة بينما وصل عدد من حاولوا الانتحار إلى 100 ألف شخص في عام 2009 فقط، بنحو خمسة أضعاف الرقم في عام 2005، فيما بلغ معدل حالات الانتحار اليومية بسبب الفقر والبطالة 14 حالة، وأن أكثر من ثلثي الحالات كانت شبابًا ذكورا أقل من 25 عامًا.
بعبارة أخرى، كان افتقاد الأمل في أي حياة كريمة هو الدافع خلف كسر حاجز الخوف، الأمر الذي اتضح من مشاركة أكثر من نصف مليون شاب في الدعوة لتظاهرات 24 يناير 2011 سواء عبر صفحة (كلنا خالد سعيد) أو صفحة (أنا اسمي خالد سعيد) التي أنشأتها حركة 6 أبريل.
من هذا المنطلق، لم يكن عجيبًا أن تكتسب التظاهرات أعظم قواها البشرية من شباب الأحياء الفقيرة المحيطة بمركز القاهرة –مثل حي بولاق وشبرا الخيمة ومنشية ناصر وعين شمس- وكذا من حضور قضايا التعذيب والفقر والحريات في المخيال السياسي للقوى اليافعة في تلك الفترة.
وإذا أردنا رسم الأبعاد الثقافية والاجتماعية للحركات الشبابية آنذاك، يتضح التالي:
-
تكونت الحركات الشبابية الدافعة لتظاهرات يناير 2011 من فئات عمرية متباينة اختلفت الأسباب الدافعة لتكوينها بين الداعين لإسقاط النظام السياسي القائم مثل حركة 6 إبريل وصفحة كلنا خالد سعيد، والباحثين عن تحقيق التفاهم والتعايش والاحترام بين المسلمين والمسيحيين ومختلف التيارات الأيديولوجية في مصر مثل حركة سلفيو كوستا، المتأثرين بأجواء المرح والعنفوان مثل حركة ألتراس أهلاوي وألتراس الزمالك “وايت نايتس”، والساعين للتغيير الجذري بحسب ما سعت له الحركة الوطنية للتغيير “كفاية”.
-
بالرغم من تباين فترات تبلورها وكثافة استعمالها لوسائط التواصل الاجتماعي، كانت الحركات اليافعة قد تماست مع النشاط السياسي والعمل العام بوجه أو بآخر قبل تظاهرات 25 يناير.
حركات مثل كفاية و6 إبريل وسلفيو كوستا بالإضافة لصفحة “كلنا خالد سعيد” وحزب التيار المصري وغيرهم من الحركات كانت قد نشأت وامتدت من رحم التيارات الأيديولوجية والسياسية القائمة في مصر طوال حقبة الرئيس الأسبق مبارك.
بينما مجموعات جماهير الكرة كألتراس أهلاوي والزمالك لم تدرج العمل العام والتماس بالجماهير قبل 25 يناير بالرغم من اصطدامها بالأجهزة الأمنية وتسلسلها التنظيمي ودور قياداتها في ربط مشجعي الكرة بنظام واضح من الحركة والاتصال.
-
مارست الحركات الشبابية درجات مختلفة من سياسات الوجود الصدامية التي تراوحت بين هدفي “التعبير” بمعنى الصرف عن مشاعر الغضب و/أو “الاشتباك المباشر” مع الأجهزة الأمنية، وكثيرًا ما سقط الحاجز الذهني بين نوعي الصدام.
كما استخدمت الصور التعبيرية لخدمة كليهما سواء عبر التواجد في المجال البصري والسمعي للحياة اليومية لعامة الجماهير باستعمال الرسوم الجدارية والأغنيات /المواويل الشعبية أو عبر التعارك مع أفراد الأجهزة الأمنية والجيش في المجال العام.
وقد أفضى هذا لتعامل الأنظمة الأمنية في مصر بمستويات متباينة من التعايش والمواجهة مع الحركات الشبابية الثائرة، بدءًا من الاقتصار على التحريات والتحقيقات الأمنية في حالة حركة مريبة/غير معيارية تمثل الجانب الثوري بين الأوساط المحافظة مثل “سلفيو كوستا”، والاعتقال/الاختطاف/الحبس تجاه أعضاء حركات ذات طابع سياسي تفاوضي مثل “كفاية” وحزب التيار المصري، والمحاكمات العسكرية و/أو التصفية الجسدية – بشكل غير مباشر – بحق أفراد تصنفهم ضمن حركتي الاشتراكيين الثوريين و6 إبريل، انتهاءًا إلى المذابح الجماعية مع من تصنفهم “عدوًا” مثلما حدث بحق حركة “ألتراس أهلاوي” في مباراة الأهلي ضد المصري البورسعيدي فبراير 2012.
-
باستثناء “ألتراس أهلاوي”، كان التكوين الاجتماعي/الاقتصادي لقوام تلك الحركات من فئة الشباب من الطبقة الوسطى والدنيا المقيمين في الضواحي الفقيرة من مدينة القاهرة بينما غلب على قياداتها –ببحث أوضاعهم المهنية وتجارب السكن والسفر- انتمائهم للطبقة الوسطى.
-
تراوحت أدوات الصدام مع الأنظمة الأمنية بين استعمال الأغاني والرسوم الجدارية والوسائط التعبيرية كالكتيبات والكاريكاتور والأناشيد الساخرة وأغاني الهيب هوب وتسجيلات الفيديو ومحاكاة الرموز السياسية والشعر الساخر/العامي وصولاً إلى النكات والأغنيات التي استعملت تعابير “خارجة” بحق رموز السلطة الحاكمة (مبارك ووزراء الداخلية ثم المجلس العسكري).
-
ساد في أوساط شبكات الشباب بين 2011 و2013 وجود المغنيين والمدونين والفنانين ونشطاء وسائل التواصل الاجتماعي وكثير من الهواة إلى جانب المؤلفين والكتاب والمفكرين الساخرين، حيث امتزج في مشهد التظاهر الفن والسياسة والأيديولوجيا مع زخم من الغضب والمرح والسخرية معًا، وكان الجديد في سردية التظاهر استعمال سلوك وتعابير الشارع المصري بدلا عن هتافات مكررة تضيف عبء الأيديولوجيا إلى أثقال الواقع.
-
ومن ثم لم يكن مستغربًا أن يخفي كثير من منتجي الأدوات التعبيرية مصدرها عبر كثير من برامج تمويه الصوت والصور لضمان أن تصل الأفكار إلى ملايين من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي دون المخاطرة بحياة المشاركين فيها.
وذلك إلى أن تحقق المطلب الأول للثورة –تنحي الرئيس مبارك- فبدأت حركات مثل “ألتراس أهلاوي” إعلان ملكيتها للشعارات والأغاني والتسجيلات الصادرة تحت رمز ACAB الذي يعني “جميع رجال الشرطة أوباش” وكذلك 6 إبريل ملكيتها لجرافيتي الوجه الملثم، إلى آخره.
-
استهدفت الأدوات التعبيرية نقض مشروعية السلطة السياسية، واجتذاب أعين المارة، وإنهاء حالة الصمت عبر كثير من مشاهد المعارضة بالفرح كارتداء الأزياء الزاهية وتوزيع الزهور الحمراء على أفراد الشرطة في ميدان التحرير يوم 25 يناير والتظاهر اللحظي قصير المدى لدقائق وثوان معدودة بدلاً عن مشهد التظاهر التقليدي الذي كان يطول زمنًا عبر نهار اليوم وتحمله حركات المعارضة بكثير من بكائيات الظلم أو شعارات الحماسة والجهاد.
كذلك، سرعان ما كان يتم استبدال الصور والرموز التعبيرية التي اعتادها جمهور المارة وأنظمة الأمن، فسرعان ما اختفي الصمت والوقوف أمام النيل/البحر، ليحل محله قناع “فانديتا”، ثم “الشال”، ثم ملصقات الوجه، ثم الجداريات، وغيرها من الصور.
-
كان من متلازمات ما سبق هو استهداف المجهولية والابتعاد عن التنظيمات/الشبكات الفعلية على الأرض والتركيز على “الآن وهنا” وعشوائية التعبير عن الغضب لتفادي قدرة النظام على تتبع الأفراد والأوجه والرموز.
بعبارة أخرى، كان التظاهر لخمس دقائق من قبل أفراد قلائل متفرقين في مناطق متباينة كافيًا لضمان عشوائية التعبير ولفت أنظار المارة وحشد الغضب للحظات قبل الاختفاء، وهي إحدى الوسائل التي عبر عنها ديلوز وجواتاري بالمقاومة “تحت الأرض”.
إزاء هذا، ومنذ يوليو 2013، كان استيلاء السلطة العسكرية و/أو الأمنية على المخيال الثوري، وإعمال المجازر العلنية بحق المعارضين، والعصف بالشباب وايداعهم السجون، وغلق قنوات التعبير في المجال العام والمجتمع المدني كافة، وفرض ثقافة “المواطن الشريف”، واستحداث تكنولوجيا التعقب والرقابة الإلكترونية، بعضًا من أبرز الإجراءات التي تستدعى نمطًا آخر من المعارضة والحراك، لا يكرر الدروس التي استفادتها المنطقة وأنظمة القمع من حراك الربيع العربي.
المصادر
- شكلت رسالة الماجستير المجراه في يونيو 2012 عن الجيل السياسي الناشئ عبر ثورة 25 يناير 2011 قوام الأفكار في هذه المقالة. للاطلاع على النص الأصلي انظر
Elbanna, Sanaa. ‘Divided they win? A case study of the New Political Generation in Egypt since 25th January 2011. Submitted in partial fulfillment of a MA degree in Comparative politics. American University in Cairo. URL - Wael Ghoneim, The Revolution 2.0: The Power of the People is Greater Than People in Power, A Memoir. (NY, Houghton Mifflin Harcourt Publishing, 2012), 61-66
- Christian Scholl, “Bakunin’s Poor Cousins: Engaging Art for Tactical Interventions” in Cultural Activism: Practices, Dilemmas and Possibilities, edited by Begum Firat and Kuryel Aylin (NY, Rodopi, 2011), P. 343.