في السابع من أكتوبر 2023؛ فاجأت المقاومة الفلسطينية العالم ببدء معركة “طوفان الأقصى” التي جاءت ردًا على الانتهاكات الصهيونية المتصاعدة مؤخرًا في حق المسجد الأقصى، والتي اعتُبرت المعركة الأقوى التي يخوضها العدو الصهيوني منذ حرب أكتوبر 1973 وفقًا لما تكبَّده من خسائر.
في هذا المقال نتناول تبعات تلك العملية على المستوى الإفريقي؛ حيث نسعى من خلاله إلى الإجابة على مجموعة من التساؤلات، أهمها: كيف يُمكن رسم خريطة المواقف الإفريقية من طوفان الأقصى؟ ولماذا برز موقف جنوب إفريقيا بصورة كبيرة؟ وما هي العوامل التي تزيد من احتمالات تأثيره في الأزمة القائمة؟ وما هي التداعيات المُحتملة لمعركة “طوفان الأقصى” على إفريقيا؟
أولًا: خريطة المواقف الإفريقية من طوفان الأقصى
تباينت ردود الأفعال الإفريقية ما بين مؤيد لحق الشعب الفلسطيني في حربه العادلة لنيل حريته، وآخر داعم للحكومة الصهيونية، وثالث متردد كنتيجة لمصالح مع دولة الكيان أو أوضاع داخلية مُعقدة.
كان على رأس المواقف الداعمة للشعب الفلسطيني؛ الاتحاد الإفريقي: الذي اعتبر رئيس مفوضيته موسى فكي محمد أن رفض مطلب الفلسطينيين بإقامة دولة مستقلة ذات سيادة، هو السبب الرئيسي للأزمة، داعيا المجتمع الدولي إلى تحمّل المسؤولية لضمان أمن شعوب المنطقة، الأمر الذي يعكس دعمًا تقليديًا للقضية الفلسطينية.
بالإضافة إلى مجموعة من الدول التي أعلنت دعمها لحق الشعب الفلسطيني في أرضه، وحملت الكيان الصهيوني المسئولية الكاملة عما يحدث وكان على رأسها الجزائر، وتونس، وموريتانيا، وجنوب إفريقيا.
أما عن المواقف الداعمة للكيان الصهيوني؛ فكان على رأسها: كينيا: التي يُعد رئيسها ويليام روتو، حليف رئيسي للغرب. وهناك أيضا توجو، والسنغال، وغانا، ورواندا، والكاميرون، والكونغو الديمقراطية، إلا أن لهجة خطاب معظم الحكومات في تلك الدول لم تجد استحسان قطاعات واسعة من الجماهير، التي أعربت عن دعمها لفلسطين، ومن ثمَّ كان من الطبيعي أن تدعم بعدها وقف إطلاق النار.
بالنسبة للمواقف المترددة نتيجة تشابك المصالح والأوضاع الداخلية: فقد جاءت بيانات دول تلك المجموعة رافضة للعنف من الطرفين، وداعية لحل الدولتين، وكان ذلك لأسباب تختلف من دولة لأخرى.
المغرب: الذي يمتلك علاقات وثيقة مع تل أبيب، قام بتطبيع العلاقات الدبلوماسية مع الدولة الصهيونية في عام 2020 كجزء من اتفاقيات “أبراهام” مقابل اعتراف الكيان الصهيوني بسيادة المغرب على الصحراء، والتي تُعد محور السياسة الخارجية المغربية.
نيجيريا: التي تحاول الموازنة بين توجهات نظام الرئيس بولا أحمد تينوبو، وطبيعة المواقف الشعبية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية تاريخيًّا، لاسيما في الولايات الشمالية ذات الغالبية المسلمة، أو تلك الواقعة في الوسط حيث تقطن الأقلية الشيعية النيجيرية، علمًا أن الأخيرة هي الأكبر عددًا على مستوى إفريقيا، وعلى نفس الطريق سارت أيضًا تنزانيا، وأوغندا، وغينيا بيساو.
ثانيًا: جنوب إفريقيا الموقف الأكثر قوة في القارة
كان لجنوب إفريقيا تحديدًا موقفًا بارزًا ليس فقط لكون شعب جنوب إفريقيا عاش تجربة الفصل العنصري المماثلة لتجربة الشعب الفلسطيني، وإنما للظرف الإقليمي والدولي الذي تشهده القارة والعالم ككل. واستكمالًا لانتهاج جنوب إفريقيا أدوارًا إقليمية وسياسات خارجية مميزة الطابع، حيث أطلقت خلال تلك الأزمة مبادرة لإحلال السلام ووقف الحرب.
تمتلك جنوب إفريقيا تاريخًا طويلا من دعم القضية الفلسطينية؛ وبالرغم من وجود جالية يهودية نشطة في جنوب إفريقيا، بدأ وجودها منذ القرن السادس عشر مع اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، تُقدر بنحو ربع مليون نسمة حاليًا، والتي لعبت دورًا كبيرًا في عمليات التهجير نحو دولة الكيان في منتصف القرن العشرين، ولها حاليًا استثمارات ضخمة في بريتوريا، لا سيما في مجالات التعدين وتجارة الأسلحة وتصدير الألماس.
غير أن مواقف جنوب إفريقيا لطالما كانت داعمة للقضية الفلسطينية منذ سقوط دولة الفصل العنصري تسعينيات القرن الماضي، وتتابعت تلك المواقف في السنوات الأخير على عدة مستويات؛ منها: الدبلوماسي؛ حيث قامت جنوب إفريقيا عامي 2010 و2018 بسحب سفيرها واستدعاء السفير الصهيوني ردًا على الانتهاكات الصهيونية، وأعلنت وزارة العلاقات الدولية عام 2013 توقف الدولة عن إرسال أي وزراء لدولة الكيان لحين تحسن الأوضاع مع الفلسطينيين،
كما استضافت عام 2015 وفدًا من حركة حماس في مؤتمر مع الحكومة تبعته عدة مذكرات تفاهم، وقامت عام 2019 بإلغاء سفارتها في دولة الكيان والاكتفاء بمكتب اتصال. هذا بالإضافة إلى استضافة مقر الحزب الحاكم الجنوب إفريقي عام 2022 مؤتمرًا لإحياء ذكرى النكبة الفلسطينية، وتنظيم حملة لدعم القضية الفلسطينية بالأمم المتحدة، وقامت جنوب إفريقيا سبتمبر الماضي بإعفاء الجوازات الفلسطينية من تأشيرات الدخول لجنوب إفريقيا وذلك تسهيلا لحركة الفلسطينيين.
هناك أيضا الدعم الاقتصادي والثقافي؛ فمثلًا أعلن مجلس الاتحادات التجارية الإفريقية عام 2006 مقاطعته للبضائع الصهيونية، واستثنى لاحقًا البضائع القادمة من مناطق الضفة المحتلة باعتبارها بضائع للفلسطينيين، كما ظهر فيما بعد نوع جديد من المقاطعة وهي المقاطعة الأكاديمية إذ ألغت جامعة جوهانسبرج أي تعاون لها مع جامعة بن غوريون الصهيونية على خلفية الاعتداءات على الفلسطينيين، ومنعت نقابة العمال الجنوب إفريقية سفينة صهيونية من دخول ميناء ديربان عام 2021 ردًا على مسيرة الأعلام الصهيونية في القدس المحتلة.
جاءت تحركات جنوب إفريقيا إثر معركة “طوفان الأقصى” متوافقة مع هذا السياق؛ حيث بدا الموقف الجنوب إفريقي هو الأكثر قوة في دعم الفلسطينيين، وقد برز ذلك على عدة مستويات: على المستوى الداخلي؛ جاهر الرئيس سيريل رامافوزا بموقفه ضد الكيان الصهيوني، عندما خرج مرتديًا الكوفية الفلسطينية بعد قصف المستشفى المعمداني، مستنكرًا مطالبتها بترحيل ما يزيد على مليون فلسطيني من غزة، مشيرًا إلى أن “إسرائيل دولة فصل عنصري محتلة”.
ناصره في ذلك حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي ارتدى أعضاؤه ملابس سوداء وأوشحة فلسطينية، لإظهار الدعم للنضال الفلسطيني، كما أصدرت الأحزاب السياسية في جنوب إفريقيا بيانات سياسية دانت الغارات الصهيونية الوحشية ضد المدنيين العزل، وذلك فضلًا عن بيانات صادرة عن المجتمع المدني الجنوب إفريقي، مثل تحالف التضامن مع فلسطين، ومنظمة إفريقيا من أجل فلسطين.
وفي سياقٍ موازٍ مارست وزيرة خارجية جنوب إفريقيا ناليدي باندور على المستوى الدبلوماسي أعلى مواقف الرفض الإفريقي للسياسات الصهيونية، إذ دعت الحركات النقابية في بلادها إلى مقاطعة المنتجات الصهيونية، لافتةً إلى كون الشعب الفلسطيني يحتاج إلى كل أنواع الدعم.
أما على المستوى الإقليمي، فإن جنوب إفريقيا تحاول أن تمارس حاليًا دورًا إفريقيا قائدًا في القارة، لمحاسبة دولة الكيان على انتهاكاتها ضد الإنسانية في غزة، وتجاهلها قواعد القانون الدولي في الأعمال الحربية، وذلك بدعوتها لـ33 دولة إفريقية عضوة في المحكمة الجنائية الدولية لرفع دعاوى مشتركة ضد دولة الكيان في شأن ما يُمكن وصفه بممارسة إبادة جماعية في غزة وانتهاكات ضد الإنسانية، حيث قدم هذه الدعوة للدول الإفريقية مركز العدالة بجوهانسبورغ، كما تقود جنوب إفريقيا أيضًا حالة تفاعل دبلوماسي مع دول شمال إفريقيا في شأن غزة.
وفي ظل التحولات القائمة للنظام الدولي، وللوقوف على احتمالات نجاح جنوب إفريقيا في تحركاتها؛ يجب وضع الموقف الجنوب إفريقي في سياق اتجاه جوهانسبرج نحو بلورة موقف مستفيد من تحولات النظام الدولي الراهنة، بحيث تقود إلى نظام مُتعدد الأقطاب بعيدًا عن الهيمنة الأميركية، وكذلك محاولة بناء وزن إقليمي مؤثر في القارة، وربما هذا ما يفسر الانضمام المبكر إلى تحالف “بريكس”.
انطلاقًا من ذلك؛ هناك مجموعة من العوامل التي ترشح الدور الجنوب إفريقي للنجاح في تحقيق تعاون عربي- إفريقي مؤثر في مجريات أزمة غزة خلال المرحلة المُقبلة، أولها؛ تحسُّب واشنطن لتكتل إفريقي ضد توجهاتها في القارة، تستفيد منه الصين، ويُمثِّل قيمة مضافة لنفوذ بكين المؤثر في القارة، والذي يُشكِّل تهديدًا لمصالح أميركية حرجة، لاسيما في مجال الطاقة بخليج غينيا، إذ من شأن مثل هذا التكتل أن يقوض استراتيجيات أميركية في دول جنوب صحراء إفريقيا جرى الإعلان عنها في أغسطس 2022، لاسيما في ظل حالة الغضب الإفريقي، خاصةً وسط الشباب، من السياسات الغربية في القارة عمومًا.
وثانيها؛ إن توجهات جنوب إفريقيا لجر الكيان الصهيوني لمحكمة الجنايات الدولية قد يصادف هوى إفريقي، لاسيما في دول الساحل التي جرت فيها انقلابات عسكرية خلال السنوات الثلاث الماضية، وتحتاج نخبها السياسية إلى تثبيت أركان حكمها عبر منصة أخلاقية وسياسية، خاصةً وأن سكان هذه الدول بها نسب كبيرة من المسلمين المتأثرين بما يجري من اعتداءات صهيونية على المسجد الأقصى.
ثالثًا: تداعيات الطوفان على القارة السمراء
في هذا الإطار تبرز مجموعة من الملاحظات: أولها؛ وقَّعت جميع الدول الإفريقية البالغ عددها 55 دولة، على البيان الصادر عن مفوضية الاتحاد الإفريقي والذي دعا لتطبيق حل الدولتين وعدَّه أساسًا للمشكلة، لكن بالنظر إلى مواقف عدد من البلدان الإفريقية بشكل منفصل، يتضح أن بعضها انحاز إلى طرف من طرفي الصراع، ما يدل على محاولات لمواءمة لغة الخطاب بشأن هذه التطورات حفاظًا على المصالح الخاصة أو للتمسك بسياسات محددة إزاء منطقة الشرق الأوسط.
ثانيها؛ فقد الاتحاد الإفريقي قدرته على ممارسة نفوذ أو امتلاك أوراق ضغط على حكومة الكيان، إثر الأزمة الدبلوماسية الحادة التي نجمت عن طرد البعثة الصهيونية من القمة الإفريقية التي عُقدت في فبراير 2023، وكان بالإمكان ممارسة هذا الضغط من خلال التلويح بشطب عضويتها كمراقب إذا لم تكف عن استهداف المدنيين في قطاع غزة لو لم تحدث تلك الأزمة.
ثالثها؛ أظهرت المواقف المتباينة للأنظمة الحاكمة في إفريقيا ضعفًا كبيرًا بل غيابًا للعمل الدبلوماسي العربي المشترك المضاد للتغلغل الصهيوني في القارة السمراء.
كما تتضح أيضًا مجموعة من التداعيات المُحتملة لمعركة “طوفان الأقصى” في إفريقيا: حيث جاءت فيما كان كيان الاحتلال يتمدّد ويتوغّل في القارة الإفريقية من خلال اتفاقيات التطبيع، حتى كاد أن يمر حضوره وتُمرَّر روايته ويُقبل به، ولو على مضض.
وقد هرول جنرالات السودان إلى التطبيع، وقبلهم المغرب، وكادت ليبيا أن تفعل، وما إن جاء الطوفان حتى خرجت الشعوب الإفريقية وأعلنت موقفها وانحيازها إلى الشعب الفلسطيني وقضيته، وأعادت التقديرات الصهيونية إلى مربع الصفر الكبير، مؤكدةً أن فلسطين قضية الشعوب الحرة.
وبعدما ذهب كيان الاحتلال بعيدًا في رهاناته على أن وهم التطبيع قد يروّض الشعوب الإفريقية أو يُبعدها عن القضية الفلسطينية، والذي بدأ من المغرب الذي وقَّع الاحتلال معه مجموعة اتفاقيات عسكرية ودفاعية واقتصادية، فإذا بالمدن المغربية تخرج عن بكرة أبيها معلنةً انحيازها ودفاعها ووقوفها نصرة للشعب الفلسطيني، منددةً بالمجازر التي يرتكبها كيان الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ومُطالبةً بإسقاط التطبيع بين المغرب وكيان الاحتلال.
كما تمدَّدت تداعيات معركة الطوفان إلى السودان الذي لم يشغله الصراع بين الجنرالات عن الاستدارة إلى القضية الفلسطينية، فخرجت التظاهرات في العاصمة الخرطوم منددةً بالمحرقة التي ينفذها الاحتلال في قطاع غزة، رافعين لافتات ترفض التطبيع.
تدافعت مواقف الشعوب الإفريقية ووقفاتها وتظاهراتها في كل الميادين منحازة إلى الشعب الفلسطيني ومناصرة له، ومُندِّدة بالمجازر التي يرتكبها كيان الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، من السنغال والصومال وجيبوتي وليبيا وتونس وموريتانيا والجزائر وغيرها من الدول الإفريقية، ما يعني عودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة حتى باتت حاضرة في وعي وأولويات الشعوب التي لم تشغلها قضاياها الداخلية عن فلسطين.
الخُلاصة
يتبين مما سبق أن مواقف الدول الإفريقية على المستوى الرسمي تباينت بين مؤيدٍ ومعارضٍ ومتردد تبعًا للتوجهات والمصالح المختلفة لحكام دول القارة؛ إلا أن الشعوب الإفريقية اتفقت على دعم القضية الفلسطينية ضاربةً بتوجهات حكامها وسياساتهم عرض الحائط.
الأمر الذي يُبرز أن التطبيع وإن ظل مستمرًا نظرًا لاستمرار الفرقة والتشرذم بين الدول العربية، لاسيما مع عدم وجود مشروع عربي سياسي واستراتيجي واقتصادي مُوحَّد، لكن ما أحدثه “طوفان الأقصى” من هزة عنيفة أثبت أن كل السرديات التي كان يُسوَّق بها التطبيع من الإشادة بقوة الكيان الصهيوني وإمكاناته العسكرية والاستخباراتية الضخمة هي سرديات فاشلة لا علاقة لها بالواقع.
وهكذا؛ يُمكن القول بأن هزيمة كيان الاحتلال في هذه المعركة لم تقتصر على الأبعاد العسكرية والأمنية في الجغرافيا الفلسطينية، بل تجاوزتها في معادلة يُمكن وصفها بأن كيان الاحتلال خسر إفريقيا الرسمية والشعبية في مقابل حضور القضية الفلسطينية، إلا أن كل هذا لا ينفي أن القارة ستواجه خلال الفترة القادمة جولة جديدة من التكالب عليها؛ سواء في محاولة الدول المتأثرة اقتصاديًا من تداعيات الحرب لتعويض خسائرها من خلال الدول الإفريقية، أو محاولة اجتذاب مواقف الدول الإفريقية التي اتضحت خلال الحرب نحو إحدى المحاور المتصارعة سواء على المستويات الإقليمية أو الدولية.
تعليقات علي هذا المقال