لم يكن الصراع على القسطنطينية بين المسلمين والمسيحيين صراعًا عسكريًا فحسب، إنما امتد ليكون أعمق من هذا بكثير، كان صراعًا ثقافيًا ودينيًا أكثر من كونه عسكريًا، حيث اعتمد في الأساس قبل كل شيء على الحرب النفسية، بالنبوءات تارة، والبشارات تارة أخرى.
لا يعنينا بالضرورة صدق تلك النبوءات والأحاديث؛ لكن كل ما يعنينا حقيقة هو: كيف أثرت تلك النبوءات على هذا الصراع؟ وكيف ساعدت على سقوط المدينة من الجانب البيزنطي وعلى فتحها من الجانب الإسلامي؟ وإلى أي مدى تم تناول الفتح تناولًا عقديًا أيدولوجيًا على الجانبين؟
أهمية القسطنطينية وآيا صوفيا
أُسست القسطنطينية على يد الإمبراطور الروماني قسطنطين -ومنه استمدت اسمها- ومنذ ذلك الحين أصبحت عاصمة الإمبراطورية الرومانية، كما أن هذه المدينة صارت رمزًا لمحاولات الإمبراطور جستنيان لإعادة بناء الإمبراطورية الرومانية في الغرب والشرق تحت زعامة القسطنطينية.
تم تأسيس آيا صوفيا على يد جستنيان لتكون معقل المسيحية الشرقية وملاذها الآمن، ثم عاصمة لبيزنطة أو الإمبراطورية الرومانية الشرقية قبل أن تصبح عاصمة الإمبراطورية اللاتينية، وهي الدولة الصليبية الإقطاعية التي أقامها قادة الحملة الصليبية الرابعة على الأراضي التي انتزعوها من الإمبراطورية البيزنطية بقيادة البندقية.
وعلى مدار معظم تاريخها، كانت القسطنطينية من دون منازع المدينة الأكبر والأكثر ثراءً في أوروبا كلها، أو كما كتب أحد البيزنطيين “المدينة التي يشتهيها العالم”، وربما لذلك سعت القوى الأوروبية جميعها إلى السيطرة على القسطنطينية ومنطقتها الخلفية لأسباب عسكرية وسياسية بالطبع، لكن قبل ذلك لأسباب اقتصادية ودينية وثقافية وروحية باعتبارها قلب العالم المسيحي وقبلته. [1]
وفي العام 1453 م دخل السلطان محمد الفاتح مدينة القسطنطينية ليبدأ بذلك الحكم العثماني بها، والذي دام حتى العام 1924 م حين غادر آخر السلاطين العثمانيين عبد المجيد منفيًا.
فلا شك أن آيا صوفيا تمثل الرمز الأهم لعاصمة الإمبراطورية المسيحية في شبه الجزيرة التاريخية، حيث لم تشكل الكنيسة الكبرى آيا صوفيا رمز قسطنطينوبوليس مركز المسيحية الشرقية الأهم مكانًا مقدسًا للعالم المسيحي فحسب، بل اعُتبرت على هذا النحو أيضًا بالنسبة إلى الدول الإسلامية التي ستحقق توسعًا كبيرًا فيما بعد، ومما لا شك فيه أن هذا التقليد سيؤول ميراثًا للأتراك العثمانيين أيضًا. [2]
البعد الأسطوري لسقوط القسطنطينية
خلق النجاح الإسلامي في الشرق حالة من القنوط لدى البيزنطيين وأنصارهم من أهل البلاد المفتوحة، وتجسدت هذه الحالة في ظهور نوع من الأدب ارتبط في الأذهان بالأمل في الخلاص من هذا السيد الآتي، وهو أدب الأبوكاليبس الذي نشأ للتعبير عن حلم بات من الصعب تحقيقه على أرض الواقع، مما دفع بكتابه إلى نسج سيناريوهات تعبر عن رؤاهم المستقبلية لمصير العالم ونهاية الزمان، يجسدون فيها ويعبرون من خلالها عن حالة العجز التي أصابت القوة السياسية الحالية، وأملهم في حتمية خلاصهم بأداة ربانية مقدرة، وكان من ذلك نبوءة القديس أندرو سالوس St. Andrew Salos، التي تحدثت عن قيام الإمبراطور بإصلاح أحوال مدينة القسطنطينية قبل أن يتوجه نحو الشرق لإذلال المسلمين واحتلال أراضيهم من جديد، لدرجة أن مصر سوف تعود لدفع الجزية إلى الرومان مرة أخرى. [3]
التناول العقدي لسقوط القسطنطينية عند المسيحيين
منذ اللحظة الأولى التي أنشئت فيها المدينة الضخمة، نُسجت حولها الأساطير كعادة الأحداث الكبرى في القرون الوسطى، وكان من الطبيعي أن تحظى مسألة سقوط القسطنطينية عاصمة المسيحية الأرثوذكسية في قبضة العثمانيين باهتمام بالغ من المؤرخين المسيحيين المعاصرين، وركز العديد منهم على تلك الرؤى السابقة، فضلًا عن الالتفات إلى بعض الشواهد الغريبة والمعجزات التي واكبت سقوط المدينة، ولأنهم اعتبروا أن زوال العاصمة البيزنطية هو حدث استثنائي فقد تصوروا ضرورة وجود أحداث استثنائية مواكبة لهذا الحدث الجلل، منها ما رواه الروسي نسطور إسكندر – Nestor Iskendar الذي عاصر أحداث سقوط المدينة، وقد اطلعت على بعض روايات شهود العيان الآخرين الذين تحدثوا عن حدوث علامات إعجازية أثناء حصار القسطنطينية أشارت لقرب سقوطها في أيدي العثمانيين.
من ذلك ذكره ما حدث من علامة أصابت السكان بالرعب يوم 21 مايو 1453 م، دون أن يوضح طبيعتها أو دلالات حدوثها ويبدو أنه قصد ما أشار إلى حدوثه الطبيب البندقي نيقولو باربارو في السابعة مساءً من ليلة 22 مايو، حيث كان القمر بدرًا قبل أن يتحول فجأة ليصبح هلالًا بالرغم من صفاء الجو وعدم وجود أية غيوم بالسماء، واستمرت هذه الظاهرة لأربع ساعات قبل أن يأخذ حجم القمر في العودة إلى طبيعته ليعود بدرًا كاملًا مع حلول منتصف الليل. [4]
وبالنظر إلى تاريخ النبوءات في المدينة العريقة فقد نُسبت نبوءة قديمة إلى الإمبراطور قسطنطين العظيم مؤسس المدينة، مفادها؛ أن مدينته لن تسقط في أيدي أعدائها أبدًا إلا عندما يتحول القمر إلى بدر معتم. [5]
يستكمل نسطور إسكندر كلماته عن حدوث تلك العلامة المرعبة يوم الإثنين 21 مايو بإشارته إلى أنه في عشية يوم الجمعة التالي الذي وافق 25 من مايو 1453م، ظهر ضوء ساطع في سماء القسطنطينية، وعندما تجمّع السكان حول كنيسة آيا صوفيا شاهدوا لهبًا يتصاعد محيطًا بالصخرة الداخلية للكنيسة ومتجمعًا في لسان واحد قبل أن ينطلق نحو السماء بسرعة فائقة، وانعكس ذلك على السكان الذين شعروا بالرعب والفزع، وفسروا ذلك بأن الروح القدس قد غادر المدينة وصعد نحو أبواب السماء المفتوحة، ما يعني أن رحمة الرب قد تخلت عن القسطنطينية حتى قيل: “لقد رغب الرب في تسليم مدينتنا إلى العدو”. [6]
يشير نسطور إسكندر إلى نبوءة أخرى نُسبت لميثوديوس من باتارا Methodios of Patara في القرن الرابع الميلادي، والتي ثبت لاحقًا أنه تمت كتابتها بواسطة أحد الرهبان السريان هو ميثوديوس المزيف Pseudo-Methodios، الذي هاجر إلى الإمبراطورية البيزنطية بعيد الفتح الإسلامي لبلاد الشام في القرن السابع الميلادي.
خاصة الجزء الذي تعلق منها بصحوة المسيحية من جديد، وقيام الإمبراطور البيزنطي بهزيمة المسلمين ومطاردتهم حتى الجزيرة العربية، ويقع هذا في القسم الرابع من النبوءة التي تحتوي على 14 فصلًا مقسمة على أربعة أقسام. [7]
يمكن تناول تلك النبوءة من ناحيتين لما كان لها من مصداقية كبرى عند السكان المسيحيين، بدليل أنها استمرت حتى بعيد السقوط، إذ يوجد وثيقة عبارة عن خطاب أرسله أحد رجال الكنيسة في 26 يوليو سنة 1453م؛ مناشدًا صديقه في مدينة عينوس إنز – Ainos Enez أن يرسل له نسخة من الكتاب الذي يحكي النبوءة [8].
أما التاحية الأولى: فقد قررت حتمية سقوط المدينة وكانت مخرجًا نفسيًا مريحًا للهزيمة القاسية التي تعرضت لها المدينة الصلبة على أيدي الترك العثمانيين.
أما من الناحية الأخرى؛ فقد كان الأمل القائم في نفوس المغلوبين من الانتصار مرة أخرى ليكتمل العامل النفسي في أمل الانتصار بعد الهزيمة.
كل النبوءات المسيحية كانت تخدم في النهاية عاملًا هامًا، وهو أن مصير المدينة لم يكن في يد من يحكمها إنما مصيرها في يد الرب أي السلطة العليا، هو من أنشأها لتكون ملاذًا لدينه ورجاله وبيده يسقطها أيضا عقابا لهم بسبب خطايا وآثام المسيحيين وهو ما أكدت عليه رواية نسطور إسكندر.
وبهذا يشير أيضاً ليونارد الخيوسي، بأن سقوط القسطنطينية كان بسبب عدم إخلاص سكان المدينة الأرثوذكس في مسألة الاتحاد الكنسي مع كنيسة روما الكاثوليكية [9]، وبيده أن يرجعها مرة أخرى إذلالًا للمعادين لدينه.
التناول العقدي لفتح القسطنطينية عند المسلمين
شكلت القسطنطينية دون غيرها دورًا هامًا في حياة المسلمين منذ العهد الأول حتى يوم فتحها على يد السلطان العثماني محمد الفاتح، حيث كانت محركا رئيسيًا للجهاد ضد الكفار والمشركين على فترات مختلفة ومتفرقة، كما نسجت حولها العديد من الأحاديث التي ارتبطت بالنبي ﷺ مع اختلاف رواياتها واختلاف صحتها أيضًا.
إلا أن أشهر الأحاديث التي تناولت ذلك الأمر، ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده عن النبي الكريم: “لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ونعم الجيش ذلك الجيش”.
بالإضافة إلى الحديث الذي رواه البخاري أن النبي قال: “أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له”.
وكانت تلك الأحاديث النبوية المحرك الأساسي الذي انطلقت منه الجيوش الإسلامية منذ عهد الدولة الأموية التي أرسلت حملتين في الأعوام 48هـ/668م، 45-60هـ/ 674-78م، لمهاجمة القسطنطينية.
وفي سنة 9 هـ / 717م، أرسل الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك أخاه مسلمة على رأس حملة بحرية كبرى لفتح القسطنطينية، واتخذت الحملة طريقها تجاه المدينة بعد أن اقتحمت مدن سارديس وبرجامة ثم أبيدوس، لتقف أمام القسطنطينية حيث حاصر المسلمون المدينة لمدة عام كامل.
كان الخليفة الأموي سليمان مصرًا على تلك الحملة ومتحمسًا لها وفقا لنبوءة انتشرت في ذاك الزمان، هي أن من سيفتح القسطنطينية اسمه على اسم نبي، وهو ما يتوافق مع سليمان بن عبد الملك الذي يتوافق اسمه مع اسم النبي سليمان بن داود، إلا أن الحملة فشلت في النهاية وخرجت بانتصار خفيف، وهو بناء مسجد داخل المدينة مقابل الانسحاب. [10]
لكن الغزو الحقيقي للقسطنطينية كان على يد الأتراك العثمانيين من منطلق عقدي أيضا، بناءً على تلك الأحاديث التي تحث على فتح القسطنطينية، أو تلك التي تحث بشكل عام على جهاد المشركين.
وفي تلك الرسالة التي سميت “فتح نامه” التي أرسلها السلطان محمد الفاتح تبيشرًا بالفتح لسلطان مصر المملوكي إينال، وشريف مكة، وشاه دولة الغنم الأسود جيهانما، يدل على هذا البعد العقدي الهام، حيث أورد فيه الأحاديث النبوية التي تحث على الجهاد، وعلى فتح القسطنطينية. [11]
إن الدراسة الكاملة للفتح العثماني للمدينة العتيقة لن تكتمل إلا بدراسة دور الأحاديث النبوية والأثرية، وتأثيرها الكبير في نفوس الناس وحثهم من خلالها على الجهاد ضد العدو المشرك، فبدون هذا الدافع النفسي المهم لن ترسم صورة الفتح الكاملة.
المصادر
[1] مانسيل، فيليب، القسطنطينية المدينة التي اشتهاها العالم “الجزء الأول”، المقدمة.
[2] إمجن، فريدون، الفتح 1453 فتح إسطنبول وعلامات الساعة، ترجمة عبد القادر عبد اللي، ص 26.
[3] رمضان، عبد العزيز، التناول الأبوكاليبسي للفتح الإسلامي بحث في كتاب: دراسات في التاريخ والحضارة الإسلامية مهداه للمؤرخ محمود إسماعيل ص 267
[4] الطحاوي، حاتم، النبوءات والرؤى والمراثي المتعلقة بفتح المسلمين للقسطنطينية 1453 / الفتح العثماني للقسطنطينية 1453 م ، شهادة الروسي نسطور – إسكندر “دراسة تاريخية مقارنة”.
[5] الطحاوي، حاتم، الفتح العثماني للقسطنطينية 1453 م ، شهادة الروسي نسطور – إسكندر “دراسة تاريخية مقارنة”.
[6] Hanak, W.K. and Philippides, M, The Tale of Constantinople / الطحاوي، حاتم، الفتح العثماني للقسطنطينية 1453 م ، شهادة الروسي نسطور – إسكندر “دراسة تاريخية مقارنة”.
[7] رمضان، عبد العزيز، التناول الأبوكاليبسي للفتح الإسلامي نبوءة ميثوديوس المجهول نموذجاً بحث في كتاب: دراسات في التاريخ والحضارة الإسلامية مهداه للمؤرخ محمود إسماعيل.
[8] Darrouzès.J «Lettres des 1453», in, Revue des Etudes Byzantines, Tom, XXI, 1963 p91
[9] حيث خاطب سكان المدينة قائلا: “إن ما حدث لكم كان بسبب أنكم فعلتم ذلك بشكل زائف وليس بروح صادقة ولهذا السبب فقد أنزل الرب جام غضبه عليكم وأنزل عقابه بكم بأن تسقطوا في أيدي أعدائكم، وتصاعد غضب الرب نتيجة لهذا الاتحاد الزائف بين الكنائس وأرسل محمدا أقوى سلاطين العثمانيين ليقيم معسكره أمام القسطنطينية”.
[10] الطبري، تاريخ الرسل والملوك ج 6 ص 530
[11] فتح نامه وردت تلك الرسالة كاملة في المجلد الأول من كتاب أحمد فريدون بك “مجموعة منشآت السلاطين”.
تعليقات علي هذا المقال