في عام 1997م كتبت المناضلة اليسارية المصرية أروى صالح عن تجربة اليساريين الثوريين في الستينيات والسبعينيات، وذكرت أن هذا الجيل قد بدأ حلمه وتشكل وعيه مع قضايا محاربة الاستعمار والنضال الحقوقي والكفاح الجماهيري، إلا أنه انتهى بفشل كبير لليسار وصعود للإسلاميين في المقابل منذ الثمانينيات فصاعدًا.
وقالت أروى إن اليساريين لم يستطيعوا تجاوز خيبة أملهم، “ولم نشارك في نضال ذي أثر وله مغزى عام يقوده، استولت علينا الحيرة، وصرنا بقايا زمن لم نكد نتعرف عليه، لا ندري ماذا نفعل بعد أن ذهبت من تحت أقدامنا الأرض المتحركة للطلاب”.
ثم ترسم لنا أروى الحالة النفسية للشباب حينذاك، وكيف أنهم عاشوا مغتربين عن مجتمعهم، فاضطروا إما إلى التماهي معه أو الانسحاب إلى الحياة الخاصة، فتقول: “حين خرجنا للحياة أخيرًا، كان الحطام بالجملة، مثل مومياوات أخرجت للشمس فجأة فتهاوت ترابًا، وكان صعبًا على الكثيرين أن يبلغوا صلحًا مع أنفسهم بعد كل ما حدث، فالواقع الذي خرجوا إليه لم يكن أكثر رحمة، حتى لجأ البعض إلى أيسر الطرق لاستعادة توازنه، الارتداد”.
وتضيف صالح مسترسلة عن ندم بعض الشباب في تضييع حياتهم في النضال الجماعي: “اكتشف البعض أن العداء للاستعمار كان أصل كل الكوارث، وأعلنوا بشجاعة انتهاء عصر الأحلام الكبرى وتدشين عهد الواقعية، حيث لا أحلام ولا هدف ولا موضوع للحياة سوى التملك، مصدر الأمن والأمان وجائزة السباق بين أفراد شعب لم يعد يجمعهم سوى صراع جهنمي من أجل البقاء”.
ثم تنقل لنا أروى إلحاح الحاجة المادية وكيف أنها أرغمت الشباب على التخلي عن نضالهم الجماعي والانشغال بحياتهم الخاصة قائلة: “في وسط الانهيار العظيم لحلمنا، أخذ الجميع يبحث عن أرض مضمونة يسند إليها قدميه اللتين اتضح أنهما كانتا معلقتين في الهواء، وفي واقع انعدمت فيه كل أرضية مشتركة بين أفراد المجتمع بأسره، كان الهم الوحيد الحقيقي هو أن يؤمّن كل فرد نفسه ماديًا”.
إذا أخذنا كلمات صالح وأردنا تطبيقها على حال الشباب العربي اليوم، ترى كم ستكون نسبة التطابق بين التجربتين؟!
تعاظم الفردانية
ترك الربيع العربي الشبابَ في حالة تيه وجودي، فقد اشتعلت شرارة الانتفاضات، وعرّف الشباب أنفسهم من خلال حالة الثورة ومناخ النضال، ثم خابت آمال التغيير، وانسدت آفاق العمل العام، ولم يستطع جيل الشباب الصمود أمام التحولات العنيفة التي تحدث في المنطقة.
دخل الشباب في موجات إحباط متتالية ودوائر لا تنتهى من الإخفاقات، وبعد التضحيات التي صار يُنظر إليها على أنها بلا جدوى، قرر الشباب العزوف عن الشأن العام كليةً، فتخلوا عن رغبتهم في تغيير مجريات الأحداث الكبرى في المنطقة والعالم، مؤمنين بأنهم فقدوا قدرتهم على التأثير في العالم، وبات من الشائع أن نسمع عبارات مثل: (مفيش أمل)، (الوضع أكبر منا)، (مهما فعلنا لن يتغير شيء)، وفي ظل هذا المناخ البائس، ما هي خيارات الشباب المتبقية في الحياة؟
لم يتبق لهم في الحقيقة سوى حياتهم الخاصة، هذه الدائرة الضيقة من الخيارات التي نضفي عليها إحساسنا بالسيطرة، ونستشعر من خلالها القدرة على التحكم والتوجيه، وعلى هذه الأرضية النفسية، لجأ الشباب إلى بناء ذواتهم والاهتمام بشؤونهم الخاصة فحسب، دون امتلاك أية آفاق مستقبلية تخص الشأن السياسي أو الاقتصادي، فالحياة العامة بائسة، ومرهقة، ولا طائل من النضال فيها.
تخلى الشباب إذن عن مفاهيم الثورة والنضال والتغيير والأمة، وظهر على السطح قاموس مفاهيمي جديد من نوعية النجاح والكارير والشغف الذاتي والمستقبل الشخصي، وانطلق الشباب يبحثون عن انتصارات تعوضهم نفسيًا عن ويلات الهزائم التي ذاقوها خلال ثورات الربيع العربي، ومن هنا تفاقمت ظاهرة الفردانية، ليتغير وجه الشباب العربي جذريًا، وتولد ظاهرة لم يكن لها مثيل في تاريخنا الإسلامي من قبل، فما هي الفردانية، وما الفرق بينها وبين الجماعية؟
فقدان الانتماء
منذ 2016م فصاعدًا بدأت ظاهرة الفردانية تزحف نحو مزيد من قطاعات الشباب العربي ليعتنقوها كمنهجية لتفكيرهم، ووسيلة لتنظيم حياتهم وسلوكياتهم، وتضائلت بشدة نسب الأفراد الجماعيين، الذين يفنون حياتهم من أجل خدمة هدف جماعي ولا ينظرون لأنفسهم إلا باعتبارهم جزءًا من الجماعة، ويعرّفون ذواتهم بناءً على موقعهم في هذه الجماعة أو تلك[1].
انعكس هذا واقعيًا في تضاعف نسب الشباب الذين يعتبرون أنفسهم مستقلين عن أي انتماء جماعي (عائلة – رابطة مشجعين [ألتراس] – حركة اجتماعية – تنظيم أيديولوجي – فريق تطوعي – حزب سياسي – الخ)، فهم فردانيون، يعيشون بصفتهم (فرد) فحسب، ولا ينخرطون أو ينتمون إلى أي جماعة، حيث لم يعد بمقدور الشباب العربي أن يشعر بالانتماء، لا لقضية ولا لثورة ولا لتنظيم ولا لمجتمع، وطفق شبح الاغتراب يحوم في ظلمات الانسلاخ عن المجتمع، والإخفاق في التكيف مع الأوضاع السائدة، وقد حدد عالم الاجتماع الأمريكي ملفين سيمان خمسة مفاهيم للاغتراب وهي: العجز، وفقدان المعايير، وغياب المعنى، واللاانتماء، والاغتراب عن الذات[2]، وهي كلها مفاهيم تعزز الشعور بالانفصال عن الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، مما يؤدي بالإنسان لا إلى فقدان انتمائه فحسب، وإنما إلى فقدان قابليته للانتماء لأي جماعة أصلًا، ومن ثم يصبح البديل المتاح هو البحث عن المعنى بداخل نفوسنا لا في العالم الخارجي، ومن هنا تأتي نزعة الفردانية والتمحور حول الذات.
فالفردانية، وفقًا لتعريف الباحث الهولندي خيرت هوفستيدي، هي: “الشعور بالاستقلالية عن الجماعات والمجموعات والتنظيمات والعائلات، وأي روابط جماعية أخرى”[3].
تجارب مماثلة
إذا عدنا إلى تجارب التغيير في العقود الأخيرة للعالم العربي، سنجد أن ما يحدث لنا حاليًا ليس استثنائيًا في تاريخ البشر، وإنما هو حلقة متكررة لحلقات سابقة، لاسيما في عالمنا العربي البائس.
فمثلًا إذا أخذنا مذبحة حماة عام 1982م، والتي استباح فيها النظام السوري مدينة حماة، وعاث في شوارع المدينة تقتيلًا، واقتحم البيوت، وبقر بطون الأمهات، وقتل في هذه المجزرة ما يفوق 30,000 مدني سوري في أقل من شهر واحد فقط، سنجد أن ما حدث لجيل الشباب حينذاك كان مشابهًا، فماذا كان رد فعل الشباب إذن إزاء هذا الحدث؟
يكشف لنا المُنظّر عمر عبد الحكيم إحدى جوانب التيه الذي أصاب الشباب، وكيف أن جيلًا كاملًا تخلى عن أحلامه الجماعية وانشغل بحياته الخاصة، بعدما قتل النظام كل ما تبقى من أمل في نفوس الشباب.
يقول عبد الحكيم: “بعدما قدم الشباب من جهاد وفداء في الداخل، وما تحملوا من عناء في الدعوة إلى الله طيلة سنوات، وبعدما رابط الكثيرون في الأردن والعراق بانتظار ساعة العودة لنصرة دين الله، وبعدما قدم المئات تاركين أعمالهم ودراستهم للمشاركة في شرف الجهاد، انصرف الكل بين عائدٍ لسابق حياته سعيًا على نفسه وعياله، وبين باحث عن مستقبله، بعد تلك الفترة التي أصبح يعتبرها أنها كانت ضياعًا للوقت، كان الإحباط هو العامل المشترك واليأس القاتل شبه مسيطر على الجميع، وفرط عقد الشباب، وساح معظمهم في أقطار الأرض الأربعة يلتمسون حياة واستقرارًا جديدًا في عمل أو دراسة”.
ويستكمل عبدالحكيم: “كانت الآمال بفرج الله ونصره ماثلة في رؤوس الكثيرين، ولكن ما من أحد كان على مستوى التفكير في مخرج، فالخطب جلل، قليلون أولئك الذين فكروا في حل بديل، وضاعت أفكار من فكّر في زحمة الأحداث، وانصرف كلٌ لشأنه، وهكذا كان الدمار في قاعدة الشباب كاملًا تقريبًا”[4].
تجربة مشابهة في مصر أواخر التسعينيات، حيث شهدت تلك الفترة ما يمكن وصفه بسلسلة من الأحداث الدامية والعلاقة العنيفة بين نظام مبارك والجماعة الإسلامية، ومع تزايد عدد المظاهرات والأتباع وضحايا العنف والديكتاتورية، لم تستطع الجماعة الصمود أمام ضربات الأمن المتوالية، فأعلنت الجماعة مبادرتها لوقف العنف عام 1997م، وتراجعت عن أحلامها بالتغيير المجتمعي الجذري[5].
يحلل الباحث الراحل حسام تمّام وضع الشباب الذين -كما حصل لزملائهم السوريين في حماة- وجدوا أنفسهم وقد استهلكهم الانتماء للجماعة الإسلامية طيلة سنوات مديدة، ويرى تمّام أن أعضاء الجماعة قد اعتنقوا أفكارًا فردانية منذ بداية الألفينيات، وتمحور أعضاؤها حول ذواتهم للبحث عن الاستقلالية والخصوصية في عالم جديد مضطرب.
كما يحكي تمّام: “كانت توبة معظم الجهاديين التائبين مقدمة لانسحابهم من الحياة العامة، والبدء في رحلة البحث عن حياتهم الخاصة التي توقفت ساعتها عند البعض كما كانت قبل نحو عشرين عامًا، لقد خرجوا الى واقع جديد من دون تأهيل كاف ولا إمكانات لازمة، ومن ثم انهمكوا سريعًا في طاحونة البحث عن حياة كريمة في بلد لم يعد كالذي كان وقت بدء اعتقالهم، حيث الغلاء والبطالة وندرة فرص العمل، وحيث التنافسية التي تفرض تأهيلًا لا يمتلكونه”[6].
الفردانية كتفريغ للمقاومة: فلسطين نموذجًا
قيل قديمًا أن الإرجاء هو دين الملوك، لأنه يخنع للظلم ولا يدفعه، ويمكننا اليوم القول بأن الفردانية هي مذهب الطغاة، فهي تخضع لسلطة النظام ولا تحاول مقاومته، ولذا تدفع الأنظمة الديكتاتورية الشباب دفعًا نحو الفردانية، أي أنها ظاهرة ناشئة تحت تهديد الحديد والنار، وليست نابعة من قرار ذاتي مستقل عن العوامل الخارجية، ومنبثق من إرادة الشاب الحرة بكامل اختياره الواعي، وإنما هي اتجاه عام حاصل تحت ضغط الاستبداد، ووطأة الظروف المعيشية الصعبة التي تفرضها حالة الظلم الاجتماعي، والفساد والحصار الاقتصادي، التي تحكم بها الأنظمة الحاكمة قبضتها على الشعوب.
وهذا الأمر ليس اعتباطيًا وإنما مفهوم من قبل الطغاة، والأنظمة الديكتاتورية، فتركيز حياة المواطن في لقمة العيش، واستنزافه في اللهث وراء حاجياته الأساسية، يفرّغ حركات المقاومة من مضمونها، وينحّي القيم الجماعية مثل العدل والمساواة والحرية جانبًا، مقابل إعلاء قيم النجاح والاستقرار وتأمين المستقبل.
ويمكننا هنا النظر إلى ما وصى به الباحث الصهيوني بنجامين أكوستا، بأهمية استباق الأعمال الاستشهادية التي تحدث في الدولة الصهيونية، وعدم التنازل مطلقًا أمام المنظمات التي ترعى هذه الأعمال، مع السعي لتجفيف البحر الذي تعيش فيه هذه المنظمات، عبر تشجيع النوازع الفردانية عند الشعب الفلسطيني، وفقًا للباحث.
وفي ذلك يقول أكوستا: “مع شيوع الاعتقاد القائل بعداوة الدولة الصهيونية في فلسطين، فإن الجهاد الفلسطيني سيستمر في الوجود طالما لم يكن للفلسطينيين فرصة للاندماج في مجتمع حداثي يقوم على الفردانية، وينزع ارتباط الفلسطيني بأي أيديولوجية استشهادية”[7].
ومع توالي الضربات وجد الشعب الفلسطيني نفسه وقد عانى ويلات الحروب والحصار والقصف والاعتقال وتكبد ثمنًا غاليًا –وحده ومازال- لدفاعه عن عقيدته وأرضه، لكن ثمة أجيال بدأت تتململ من طول فترة الحرب، وبدأ أفرادها في الالتفات إلى حياتهم الخاصة دون الانشغال بأي قضية جماعية.
وهذا الحال ليس وليد اليوم في 2021م، فقد نسجت رواية (رجال في الشمس) للروائي الفلسطيني اللاجئ غسان كنفاني، خيوط هذه الظاهرة الفردانية عام 1963م، حيث صور كنفاني فيها نماذج لشباب وأسر فلسطينية تكبدت مشقة المقاومة حتى هزيمة 1948م، ثم لم تعد تتحمل مشاق الحياة وصعوبة المعيشة، فصارت كل أسرة تبحث عما يؤمن معيشتها فحسب.
وفي الرواية وصف كنفاني حال الشباب الفلسطيني الذي يحاول الهروب من فلسطين لجني الأموال بأي شكل ولو في المنفى، ولو على حساب التهريب الغير شرعي عبر الحدود، إنها حكاية ثلاثة فلسطينيين من أجيال مختلفة، يلتقون حول ضرورة إيجاد حل فردي لمشكلة الإنسان الفلسطيني، بعيدًا عن سرديات المقاومة والجهاد والمعركة والانتماءات التنظيمية الواسعة، فقد تخلى الجميع عن الأرض ليبحثوا عن خلاصهم الخاص[8].
ويشرح آدم هنية، الأستاذ بجامعة لندن، طبيعة هذا التحول من الجماعية إلى الفردانية عند الشباب الفلسطيني فيقول: “كانت الظروف الاقتصادية الصعبة وأنماط الاستهلاك الفردانية الجديدة تنعكس على المشهد الجغرافي لبلدات الضفة الغربية، فقد ظهرت إعلانات الشقق السكنية الجديدة وقروض السيارات، وهي الإعلانات التي حلت محل الجرافيتي السياسي المقاوم الذي احتل المشهد على مدار العقد السابق على تلك المرحلة”.
ويختم لنا هنية هذا المقال مؤكدًا على شيوع نمط الانسحاب والخضوع للسلطة كلما تفاقمت ظاهرة الفردانية، فيقول: “تأثرت قدرة الناس على النضال الاجتماعي وعلاقاتهم بالمجتمع، فقد تم تلقين الناس كيفية إرضاء احتياجاتهم الخاصة عن طريق السوق والاقتراض بدلًا من إرضاء الاحتياجات العامة عن طريق النضال الجماعي، وأدت هذه العلاقات المالية إلى فردنة طبيعة المجتمع الفلسطيني، وتحول أغلب السكان إلى الاهتمام أكثر بالاستقرار، وبالقدرة على سداد الديون بدلًا من النظر إلى احتمالات وإمكانات المقاومة الشعبية”[9].
المصادر
[1] C. Harry Hui, Measurement of Individualism-Collectivism, Journal of Research in Personality, 22(1), 17–36.
[2] Melvin Seeman, On the Meaning of Alienation, American Sociological Review, vol. 24, 1959.
[3] Hofstede, G.,Culture’s consequences: International dtrferences in work-related values. Beverly Hills, CA: Sage.
[4] عمر عبد الحكيم، الثورة الإسلامية الجهادية في سوريا، ص/ 301.
[5] للاستزادة حول طبيعة الصراع بين الجماعة والنظام حينذاك، انظر: سلوى العوا، الجماعة الإسلامية المسلحة في مصر: 1974م-2004م، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2006م).
[6] حسام تمام، الجهاديون التائبون، بيئة معاكسة وعودة غير محتملة، https://carnegie-mec.org/sada/21955
[7] Benjamin Acosta, The Palestenian Shahid and the Development of the Model 21st Century Islamic Terrorist, (California State University, 2008), P. 222.
[8] غسان كنفاني، رجال في الشمس، (بيروت: دار المثلث، 1980م).
[9] آدم هنية، جذور الغضب: حاضر الرأسمالية في الشرق الأوسط، (الجيزة: دار صفصافة، 2020م)، ص 220.
تعليقات علي هذا المقال