مع مطلع القرن التاسع عشر وصعود السلطان محمود الثاني إلى عرش السلطنة العثمانية، دخلت الدولة العثمانية مرحلة جديدة من تاريخها، بدا فيها شكل الدولة مختلفا جذريًا عما كان قائمًا في السابق، وقد بدأت هذه التحولات والتغيرات تتجلى وتظهر بعد إعلان ما يُعرف في التاريخ باسم «فرمان التنظيمات» الذي بدأت به مرحلة تاريخية حملت اسم «عهد التنظيمات» من عام 1839 حتى عام 1876.
وقد مثَّل هذا العهد مرحلة من مراحل الإصلاحات التي هدفت الإدارة العثمانية بواسطتها لحل مشاكلها القائمة، وتقوية الدولة وبث الحياة فيها، في عالم يزداد تحكم الأوربيين فيه، فكان الإلهام القادم من أوروبا في القرن التاسع عشر هو البوصلة التي توجه مصلحي الدولة، وذلك على عكس محاولات الإصلاح السابقة التي هدفت إلى الرجوع إلى العصر الذهبي في عهد السلطان سليمان القانوني[1].
إلا أن الأفكار الإصلاحية القادمة من أوروبا حملت معها أفكارًا سياسية واجتماعية ساهمت بشكل بَيَّن في تفكيك الدولة العثمانية، وتحولت عملية إصلاح الدولة من أمر يفترض به أن ينهض بها إلى عملية تغريب للدولة، وإلحاقها فكريًا واقتصاديًا بأوروبا مما أدى في النهاية إلى تفكيكها وزوالها، وكرد فعل على عملية التحديث الأوروبي/التغريب التي تتم للدولة، أسس مجموعة من الشباب والموظفين عام 1867 أول مجموعة ضغط سرية ذات نزعة إسلامية حملت اسم جمعية العثمانيون الشباب/العثمانيون الجدد، وعُقد أول اجتماع لأعضائها في غابة بلغراد بالقسم الأوروبي من إسطنبول.
كان من مؤسسي الجمعية ساغر أحمد باي زاده بك، ومناپر زاده نوري بك، وكايا زاده رشاد بك[2]، وكانوا يعملون في مكتب للترجمة، كما انضم إليهم فيما بعد الأمير مصطفى فاضل باشا (1830-1875) شقيق الخديوي إسماعيل حاكم مصر، والأديب الشاب نامق كمال (1840-1888) الذي شغل منصب رئيس تحرير جريدة «تصوير أفكار» حينها، والمدرس والمفكر والصحفي علي سُعاوي (1839-1878) الذي كان يكتب في جريدة «مخبر»، ورجل الدولة الأديب ضياء باشا (1829-1888)، وسنعرف أن الشخصيات الثلاثة اﻷخيرة هم شخصيات محورية ساهمت بشكل رئيس في وضع الأفكار الإصلاحية العامة التي نادت بها الجمعية، سواء كان ذلك على المستوى السياسي الذي نركز عليه في هذه المقالة، أو على مستويات ثقافية أخرى، ومن الملاحظ أيضا أن مؤسسي الجمعية والمنضمين إليها كانوا ممن تلقوا تعليمهم في المدارس الحديثة، وعمل أغلبهم في الوظائف الحكومية العثمانية ويعرفون أكثر من لغة أوروبية[3].
وقبل الشروع في الحديث عن الأفكار العامة لكُتَّاب ومفكري الجمعية، لابد من إزالة الالتباس الشائع بين العثمانيون الشباب وجمعية الاتحاد والترقي، وتركيا الفتاة، فهم فرق منفصلة يمثلون أفكارا مختلفة وليسوا كيانًا واحدًا، فقد سبق العثمانيون الشباب جمعية الاتحاد والترقي زمنيًا بأكثر من عقدين، ونادوا بمؤسسات إصلاحية سبقت ما نادى به الاتحاديون، إلا أنه غالبًا ما يتم تجاهل توجهاتهم الإسلامية من المثقفين العلمانيين الأتراك حيث يركزون -عند التأريخ لهم- على بعض المفاهيم التي أطلقها نامق كمال مثل «العثمنة» و«الوطن» و«الحرية»[4]شبيه لما حدث مع علي سعاوي عندما وصفه أحد المؤرخين الأتراك بأنه أول من نادى بفكرة الجامعة التركية العالمية، وذلك استنادًا إلى وضعه كتابًا عن تاريخ الأتراك في وسط آسيا[5]، إلا أنه بإطلاع موسع على كتابات وأفكار الرجل نجده على طرف نقيض من هذه الفكرة، بل يمكن اعتباره من أبرز دعاة الفكرة الإسلامية من العثمانيين في القرن التاسع عشر.
لقد تركزت محاور الإصلاح السياسي التي نادى بها العثمانيون الشباب على فكرتين، الأولى: وضع دستور للدولة (القانون الأساسي)، والثانية: قيام حياة نيابية تمثيلية، وذلك اعتمادًا على إحياء الفقه كأساس للفكر الاجتماعي والقانوني والسياسي وعدم إعطاء النظريات الاجتماعية الغربية قيمة كبيرة[6]، وقد قصدوا إلى وضع دستور أو تأسيس حياة دستورية تقوم على مبدأي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشورى الإسلامية، كمبادئ بديلة عن التنوير المطلق الذي اعتمد عليه عالي باشا (1815-1871) وفؤاد باشا(1814-1869)[7]، وكانوا يرون كذلك أن الدولة يجب أن تستورد من أوروبا فقط التقدم العلمي والصناعي، وأن الدستور يجب أن يُبنى على الفقه وليس على محاكاة دساتير أوروبا[8].
اعتمد العثمانيون الشباب في إيصال أفكارهم على أدوات وتقنيات جديدة للتواصل مثل: الجرائد والمسرحيات والمجلات، فكانوا باستخدامها ينتقدون رجال الدولة بسبب حداثيتهم الكاملة من جهة، وطبقة علماء الدين بسبب عجزهم وسلبيتهم من جهة أخرى.
وقد ظهرت جريدتهم الرسمية «حريت» ﻷول مرة عام 1868، وانطلاقًا من صفحاتها وجه العثمانيون الشباب انتقاداتهم إلى علمنة قوانين الدولة، وتنحية الشريعة جانبًا بشكل جلي في عهد التنظيمات، وهو أمر لن يدمر المؤسسة الدينية فقط كما ذكروا، بل سيفتح الطريق للتدخل الأوروبي في شؤون الدولة أيضًا[9].
وتحت الانتقادات القوية التي كانت توجه للحكومة فر كل من نامق كمال، وعلي سعاوي، وضياء باشا، خارج الدولة بدعوة من مصطفى فاضل باشا، الذي سيعمل على تمويلهم ماليًا، واتجهوا إلى باريس عام 1867[10].
لو نظرنا نظرة قريبة إلى أهم مفكريهم مثل نامق كمال وعلي سعاوي، نجد أن نامق كمال قد آمن بإمكانية جلب الاختراعات الأوروبية فقط دون التأثيرات الثقافية، وأنه يمكن استخراج قوانين من الفقه بديلًا عن القوانين الأوروبية ﻷن الفقه في رأيه أعظم رموز الحضارة الإسلامية، كما قال بأن فكرة الدستور الطبيعي الموجودة في الغرب لها جذور في الشريعة الإسلامية إلا أن الأوروبيين اعتمدوا فيها على الجانب الفلسفي لأنهم لا يملكون شريعة مُنظِمة[11].
اعتقد كمال أيضًا بصلاحية أفكار الفقهاء السياسية لزمانه، ودافع عن الفقه من حيث كونه «القانون الإسلامي»، وقد ساعده الفقه على إيجاد بديل إسلامي للمفاهيم التي وجدها في النظريات الاجتماعية للمفكرين الغربيين، فمثلًا استطاع إيجاد مقابل لفكرة التمثيل النيابي بفكرة الشورى الإسلامية ومقابل للقانون الطبيعي بالشريعة الإسلامية ومقابل للعقد الاجتماعي بالبيعة[12].
أما علي سُعاوي فقد اعتمد مثل نامق كمال على الفقه للدفاع عن الحريات أمام دور الدولة الذي أخذ يتمدد في زمانه، وقام بانتقاد طبقة البيروقراطية ممثلة في مدحت باشا، وعالي باشا، الذي أفرد له كتابًا بعنوان «دفتر أعمال عالي باشا» وانتقده فيه بشدة.
كما وجه نقده أيضًا للعلماء الذين وصفهم بأنهم موتى، قد فقدوا قيمتهم وأهميتهم الكبيرة، إلا أنه قد أرجع هذا الأمر بشكل رئيسي إلى تهميش الدولة لدورهم، وقد قدم سعاوي تصورًا هرميًا لشكل المجتمع وإدارته يرتكز على الشريعة ويكون فيه الشعب تحت ولاية الأمراء (الحكام)، ويكون فيه الحكام تحت ولاية العلماء، وتكون فيه الشريعة حاكمة على العلماء[13].
نجد أيضًا أن قسمًا كبيرا من كتابات سُعاوي قد ركزت على الدعاية التي أطلقها المستشرقون تحت اسم «المسألة الشرقية»، أي سؤال تقسيم الولايات العثمانية بين القوى الأوروبية، فتصدى لمجابهة هذا النوع من الدعاية وحذر مما يحيكه السياسيون الأوروبيون بخصوص هذا الأمر، بل تعدى حدود الدولة العثمانية ليكتب عن خانات وسط آسيا، مثل بخارى وطشقند وسمرقند التي تتعرض للسقوط واحدة تلو الأخرى في قبضة الخطر الروسي.
عاش نامق كمال وسعاوي وضياء باشا سنوات متنقلين بين بعض المدن الأوروبية، ومارسوا كتاباتهم ونقدهم لأوضاع الدولة من الخارج، ثم عادوا مرة أخرى إلى إسطنبول بعد صدور عفو عام شملهم، ورغم أنهم لم يستطيعوا وهم في أوروبا تكوين حزب سياسي بالمعنى المعروف، أو تشكيل تجمع اجتماعي، ولم يجتمعوا كلهم على أفكار واحدة، إلا أن نبتة أفكارهم الرئيسية من ضرورة وجود تمثيل سياسي (برلمان) ودستور للدولة[14]، أثمرت في إصدار أول دستور عثماني عام 1876، وافتتاح أول برلمان عثماني عام 1877، وأدت أقلامهم دورها في التأثير في الرأي العام، وتكوين قناعات حول أفكارهم الإصلاحية الرئيسية امتدت لخارج حدود الدولة لتؤثر في حركات دستورية أخرى، مثل الثورة الدستورية التي انفجرت بعد ثلاثة عقود في إيران.
المصادر
[1] S. Johnson, Aaron. “A Revolutionary Young Ottoman: Ali Suavi (1839-1878)” (Unpublished Doctoral’s Thesis). institute of Islamic Studies,McGill University, Montreal, June 2012: 17
[2] Kemal BEYDİLLİ, “YENİ OSMANLILAR CEMİYETİ”, DİA, İstanbul 2013, 43. cilt, s. 431
[3] الاتحاديون: دراسة تاريخية في جذورهم الاجتماعية وطروحاتهم الفكرية (أواخر القرن التاسع عشر-1908)، نادية ياسين عبد، دار ومكتبة عدنان و صفحات للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2014، ص 88-89
[4] Hanioğlu, M.Şükrü, A Brief History of the Late Ottoman Empire, Princeton University Press, New Jersey, 2008, p. 104
[5] A Revolutionary Young Ottoman: Ali Suavi (1839-1878), p. 4
[6] الاستقلال الفكري: المفكرون العثمانيون بين الفقه والعلوم الاجتماعية، رجب شنتورك، ترجمة كريم عبد المجيد، أركان للدراسات والأبحاث والنشر، 2020، ص 17
[7] عالي باشا وفؤاد باشا: يمكن اعتبارهما المهندسان الحقيقيان لعهد التنظيمات العثمانية وقد شغلا الإثنين منصب الصدارة العظمى في الدولة كما أشرفا ونفذا الإصلاحات الأوروبية التي كانت تتم في الدولة.
[8] A Brief History of the Late Ottoman Empire, p. 104
[9] A Revolutionary Young Ottoman: Ali Suavi (1839-1878), p. 30
[10] YENİ OSMANLILAR CEMİYETİ, DİA, İstanbul 2013, 43. cilt, s. 431
[11] A Revolutionary Young Ottoman: Ali Suavi (1839-1878), p. 30-31
[12] الاستقلال الفكري: المفكرون العثمانيون بين الفقه والعلوم الاجتماعية، رجب شنتورك، ترجمة كريم عبد المجيد، أركان للدراسات والأبحاث والنشر، 2020، ص 17
[13] الاستقلال الفكري: المفكرون العثمانيون بين الفقه والعلوم الاجتماعية، ص 18
[14] YENİ OSMANLILAR CEMİYETİ, DİA, İstanbul 2013, 43. cilt, s. 432
تعليقات علي هذا المقال