من دون صفارات الإنذار لا جدوى كبيرة للملاجئ، ذلك أنهم إن لم يعرفوا متى يذهبون إليها ومتى يخرجون منها، فما قيمة كونها ملجأ، فالإنسان بحاجة لمن ينبهه ومن يذكره ومن يُعلمه بالحقائق، ومن ينقل له المعارف، وهي صيرورة تتكرر في كل زمان، وتلعب وسائل الإعلام اليوم دورًا مهمًا في نقل المعارف والأنباء إلى الناس، وقد كانت حتى زمن قريب محتكرة من قبل فئات محدودة، إلى أن جاء عصر منصات التواصل الاجتماعي، وشيوع صحافة المواطن التي مكنت شريحة واسعة من الناس من استخدام هذه الأدوات في التعبير عن آرائها، ونشر المستجدات، والحشد لمختلف القضايا، وهو ما كان له بالغ الأثر في العديد من البلدان، ومن المهم لكل من يقوم بدور مؤثر عبر هذه المنصات أن يدرك أهمية ما يفعل، ليكون ذلك حافزًا له من أجل الاستمرار.
لا شك أن فلسطين كانت من أكثر البلدان التي تأثرت بشيوع صحافة المواطن، خصوصًا في ظل انحياز كثير من المؤسسات الإعلامية لصالح الاحتلال، الأمر الذي كان له بالغ الأثر السلبي خلال العقود الماضية على القضية الفلسطينية، وساهم في انتشار العديد من الأنباء والدعايات المزيفة والمضللة عن فلسطين وشعبها، فكان تراجع حضور القضية لدى الشعوب، وفي مختلف المحافل.
ما الجديد في معركة سيف القدس؟
كان وما زال الرأي العام عاملا مهما ومؤثرا في تحديد ورسم الكثير من التوجهات السياسية حول العالم، وكان له ذلك الأثر في المعركة الأخيرة، فقد كان الاحتلال عاجزًا على نحو كبير في ميدان الإعلام بكافة أشكاله، ولم ينتصر على صعيد الرواية بل على العكس مني بخسارة في الكثير من الأوساط التي كانت منحازة له وبشكل صارخ، وبتنا على سبيل المثال لا الحصر نلحظ ارتفاعًا لأصوات أمريكية مؤثرة تطالبه بوقف اعتداءاته، والتراجع عن إجراءاته، وكان لحالة الإسناد الإعلامي الكبيرة، وحجم الضخ الإعلامي الهائل لصالح الحق الفلسطيني على منصات التواصل الاجتماعي، أثر بالغ على تحريك الميادين والشوارع، ودفع الحكومات للتحرك خوفًا من تطور الأمور وخروجها عن السيطرة، ليس فقط في فلسطين بل في مناطق أخرى في العالم اشتعلت فيها المظاهرات أيضًا.
كانت براعة الصحفيين والإعلاميين والنشطاء الفلسطينيين، ومن ساندهم في نقل الأحداث، مصدر إلهام للكثيرين، ومحركة لأعداد كبيرة من الجماهير والمشاهير على منصات التواصل، الأمر الذي كان له الأثر الكبير في تحريك الرأي العام تجاه القضية، وعلى إثر ذلك كانت العديد من الفعاليات والتحركات على الأرض، والتي كان الكثير منها يتم الدعوة له عبر منصات التواصل.
ومن أبرز المستجدات في هذه المرة، دخول فئات وشرائح جديدة من المشاهير وأصحاب حسابات وصفحات معروفة في مجالات غير سياسية، كتلك المهتمة بالحديث عن الألعاب والفن والرياضة والترفيه، إلى ميدان التوعية بما يجري في فلسطين، وهو ما كان له تأثير واضح أيضا ساعد في جعل القضية محط أنظار المجتمعات العربية والإسلامية والعالمية على نطاق أوسع من فترات سابقة، لقد كانت حلقة متصلة ومتكاملة من الجهود من داخل فلسطين وخارجها، غير أن العنصر الرئيسي والذي أضفى حيوية وقوة كبيرة للأحداث، هو وجود الفلسطيني مدافعا عن حقه ومطالبا بأرضه في صورة جمعت بين المأساة والبطولة، ناهيك عن أن الحق الفلسطيني في ذاته قوي، ولا يحتاج الكثير لإثبات مصداقيته لدى عموم الناس.
ورغم انحياز القائمين على منصات التواصل والإعلام الغربي، إلا أن الصوت الفلسطيني اخترق المدى ووصل إلى شرائح واسعة في المجتمعات الغربية، وكان واضحا مدى تأثرها بالرواية الفلسطينية، ومن ذلك أننا رأينا مظاهرات كبيرة وتفاعلًا أمريكيًا غير مسبوق مع القضية الفلسطينية، وكذلك الحال في بريطانيا ودول غربية أخرى، شهدت حراكًا كبيرًا لصالح القضية الفلسطينية، ورأينا أشكالًا متنوعة من الحراك بما في ذلك اعتراض عمال موانئ في دول غربية على نقل حمولات كانت متجهة إلى الاحتلال.
شهدنا أيضًا تغيرًا واضحًا في خطاب العديد من الشخصيات الغربية بما فيها شخصيات أمريكية من الحزب الحاكم، وعلى صعيد مؤسسات الإعلام الدولية، وكان واضحا أن انحيازها للاحتلال تأثر ولو نسبيًا، لكن لا يمكن القول بأنها انتقلت إلى صف الفلسطينيين، فبعضها على ما يبدو كان يساير المزاج العام لفئة كبيرة من الناس والمجتمعات، سواء تلك التي ظهرت عبر منصات التواصل تنادي بحقوق الشعب الفلسطيني، أو تلك التي نزلت إلى الشارع.
لم يكن تأثير منصات التواصل الاجتماعي فقط دوليًا أو عربيًا، بل كان له بالغ الأثر أيضًا على الرأي العام المحلي، وساهم في تشكيل حالة وعي فلسطينية رافضة على نحو واسع لانتهاكات الاحتلال وممارساته العدوانية، وجرائمه بحق الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الاحتلال يحاول إحالة ما يجري على الأرض من حراك وفعاليات فلسطينية إلى منصات التواصل، لا إلى جرائمه وعدوانه في محاولة لقلب الرواية وإظهاره بمظهر المدافع عن نفسه، والفلسطيني بمظهر المعتدي، وهو تزييف للحقيقة، كما هو ديدن الاحتلال منذ أن وصل أرضنا، واستخدم الأكاذيب ضد شعبنا ومازال، كل المشاهد والأنباء التي يجري نقلها لمنصات التواصل الاجتماعي من القدس وغزة والضفة والداخل المحتل، هي صورة الاحتلال الحقيقية، فإن كان المحتلون يرون أن صورتهم وحقيقتهم تثير الرأي العام ضدهم، فالمشكلة فيهم وليست فيمن ينقلها ليراها الناس.
من المهم دائما أن نركز على أصل الأحداث وتسلسلها، سواء كانت بفعل مباشر من الاحتلال، أو نتيجة تراكمات ظلمه، ومن المهم الإشارة إلى أم المشكلات؛ وهي استمرار الاحتلال، فما يقوم به الفلسطيني سواء على الأرض أو عبر الإعلام ليس سوى شكل من أشكال الدفاع عن النفس، الاحتلال مجرم سواء كان يقصف أو كان في فترة هدوء، مادام يسرق الأرض وينتهك الحقوق، والفلسطيني بريء وهو يدافع عن نفسه وأرضه وحقه.
تضامن شعبي يخرس المطبعين
لم يكن تأثير الثورة الرقمية المساندة لفلسطين على الاحتلال وحده، فيبدو أن دول التطبيع العربي قد شعرت بحرج شديد، إذ وجدت نفسها مكشوفة أمام شعوبها وفي نوع من العزلة والخوف من القادم، أما الأنظمة السابقة في التطبيع فقد تركت مساحة نسبية لشعوبها من أجل التعبير عن آرائهم وغضبهم، ورأينا دعوات عبر منصات التواصل الاجتماعي من أجل التوجه إلى الحدود في الأردن والعراق، ويتضح من مراقبة الأدوات الإعلامية لبعض دول التطبيع لجوئها لشيطنة المقاومة الفلسطينية، ومهاجمة الحق الفلسطيني، والتشويش لصالح الاحتلال، في محاولة لضرب حالة التفاعل الكبيرة مع “القضية الفلسطينية”.
وقد كان واضحا في هذه الجولة ارتفاع أصوات التأييد للمقاومة الفلسطينية من الجماهير خارج فلسطين، وليس فقط حالة تضامن اعتيادية ضد الظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، فمن أهم ما تركه هذا الحراك هو شعور القدرة على هزيمة الاحتلال، وتصاعد روح العزة لدى الشعوب، وهو ما زاد من تخوفات العديد من الأنظمة وفي مقدمتها أنظمة التطبيع.
وترجمة لتلك الروح كانت هناك العديد من الأصوات بما فيها أصوات نواب منتخبين في بعض الدول، وكتل نيابية، تنادي بترسيخ العلاقات مع المقاومة الفلسطينية، وتقديم الدعم لها.
كان لبيانات المقاومة وخطابها وطريقة حضورها عبر منصات التواصل ووسائل الإعلام المختلفة بالتزامن مع أدائها الميداني، دور أساسي ومهم في تحفيز الجماهير، وإلهاب مشاعرها لصالح الحق الفلسطيني، الأمر الذي لمسناه في التفاعل الكبير من الجماهير داخل فلسطين وخارجها، واحتفائها بالقادة والناطقين باسم المقاومة، أمثال أبو خالد الضيف، وأبو عبيدة، والذي عبروا عنه بمختلف الأشكال والأدوات، سواء عبر منصات التواصل الاجتماعي، أو باللافتات والرسومات والأغاني والأشعار، وما إلى ذلك من أشكال أخرى، كان محببًا لهم أن يجدوا من يقف ندًا للاحتلال والظلم في ظل حالة الخنوع التي تعيشها الكثير من الأنظمة، وفي ظل حالة التطبيع الرسمي، وكان واضحًا أن الناس متعطشون لمشاعر العزة، ويحبون “المؤمن القوي” المدافع عن أرضه وحقه، فهو يلهمهم ويمثلهم، لذلك يقفون إلى جانبه ويدعمونه، ولا يكتفون بالتعاطف معه كما يفعلون مع المظلوم عموما.
من المهم القول: إن المقاومة أو النضال الفلسطيني لم يكن منحصرًا في غزة وحدها، إذ انتفض الفلسطينيون في القدس، حيث انطلقت شرارة الأحداث من باب العامود وحي الشيخ جراح، وانتقلت إلى غزة ومنها إلى اللد وأم الفحم والناصرة وكل الداخل المحتل، ومن ثم إلى جل مدن وقرى الضفة في صورة نضال بهي، اشترك فيه الشعب الفلسطيني في كل فلسطين من نهرها إلى بحرها.
جيل كامل تعرف على فلسطين في الأيام الأخيرة، وتجاوز التأثير حد المعرفة بالأحداث إلى العودة إلى أصل القضية، ومن الأسباب لذلك أن المعركة كانت مرتبطة بعدة أحداث تعتبر امتداد للنكبة الفلسطينية، وتتناول القضية من عدة جوانب، وتبرز على نطاق واسع أصناف الانتهاكات التي يعيشها الفلسطينيون، قضية حي الشيخ جراح، وأحياء سلوان، تلخص المأساة الفلسطينية المتمثلة بشعب جرى تهجيره قسرا عن أرضه، وما جرى في المسجد الأقصى من انتهاكات إسرائيلية أعاد الحيوية إلى البعد الديني الإسلامي للقضية، والعدوان على غزة وانتفاضة مقاوميها أعادا حضور صورة كفاح ونضال الشعب الفلسطيني، كما تبددت الكثير من الخرافات التي تقال عنه زورًا وبهتانًا، وأظهرت وحشية الاحتلال وبشاعة إجرامه.
ليست المرة الأولى التي نشهد فيها تفوقا للرواية الفلسطينية على منصات التواصل الاجتماعي، فقد سبق هذه المرة مرات سابقة، منها على سبيل المثال، ما حدث أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة عام ٢٠١٤، حيث تفوقت يومها الرواية الفلسطينية بشكل واضح على دعاية الاحتلال، كان التفاعل كبيرًا مع الحق الفلسطيني، وتضررت صورة الاحتلال وظهرت فظائعه للعالم على نحو واسع، غير أن الاحتلال زاد من حضوره عبر المنصات بشكل ملحوظ بعد تلك الحرب، وأفرد لها ميزانيات خاصة وفرقًا ولجانا متخصصة.
ومن الواضح أن الاحتلال تعاون مع جهات من دول مختلفة في ذلك، بالإضافة لاستخدامه انحياز منصات التواصل الاجتماعي له، وعلى ما يبدو أنه ساهم في صنع بعض الخوارزميات التي تحارب المحتوى الفلسطيني الرافض للاحتلال، من خلال تزويد منصات مثل فيسبوك بقاعدة بيانات فيها أسماء شخصيات فلسطينية ناضلت ضد الاحتلال، وفيها مصطلحات وصور وما شابه جرى من خلاله تقييد ومحاربة المحتوى الفلسطيني، بالإضافة لملاحقة أسماء وصفحات وحسابات بعينها، وتقييد وصولها، وبث الأكاذيب والدعايات المضللة، واستخدام أساليب مختلفة للتشويش على الوعي، وأيضًا استخدام شخصيات وأدوات مختلفة من أجل التمهيد للتطبيع أو قبوله شعبيًا، بما في ذلك بعض المشاهير، إلا أنه كان يُصدم في كل مرة بالرفض الشعبي، وكانت الضربة الحاسمة لكل هذه الجهود، هي ما جرى خلال الجولة الأخيرة، حيث تبين للاحتلال ومن معه أن ما بنوه خلال سنوات من سرديات ودعاية لصالح الاحتلال والتطبيع انهار في أيام.
جهد فردي في مواجهة عمل منظم
لم يكن قصف الأبراج التي ضمت مكاتب الصحف والمؤسسات الإعلامية إلا دليلًا على الإفلاس الإسرائيلي أمام تفوق الرواية الفلسطينية، كما أن لجوء وزير حرب الاحتلال غانتس إلى الجلوس مع إدارات مواقع التواصل الاجتماعي خلال العدوان، دليل آخر على العجز، ومحاولة نتنياهو فرض حظر على منصات التواصل خلال المعركة، يعزز الدلائل على حجم الخيبة التي مني بها الاحتلال في هذا الميدان.
يدل هذا السعار الإسرائيلي من منصات التواصل، وهذه المحاربة الشديدة للأصوات الفلسطينية فيها، على حجم ومدى تأثيرها، ولعل نتنياهو كان أكثر وضوحًا عندما قال بأن الرأي العام العربي أكبر عقبة أمام التطبيع.
من المهم القول أن الجزء الأكبر والأكثر تأثيرا وحضورًا للفلسطينيين ومن معهم على منصات التواصل الاجتماعي هو جهد أفراد لا مؤسسات، ولعل لهذا أثره المهم والحيوي في فترات اشتعال الأحداث والمعارك، غير أنه قد لا يكون كافيًا أو مناسبًا في فترات الهدوء التي ينصرف فيها الناس إلى أعمالهم، الأمر الذي يؤثر سلبا على حضور القضية على المنصات، في حين أن جهود الاحتلال هي بدرجة أساسية جهود مؤسسات تعمل طوال العام دون انقطاع، حيث يعمل الاحتلال على استخلاص العبر بعد كل معركة، إضافة إلى وضع الحلول والخطوات اللازمة لمواجهة تأثيراته، حيث يحاول معالجة صورته في الرأي العام بوضع برامج متعددة، ورصد ميزانيات ضخمة، بما يحقق له عدة أهداف على صعيد الدعاية، سواء كانت دفاعية مثل تقديم نفسه بسردية مخادعة كمظلوم لديه أحقية متوهمة، أو كانت هجومية يريد من خلالها أن يعيد ما تسمى هيبة كيانه الهش، وقوة الردع التي تآكلت.
تلقى الاحتلال ضربات موجعة في ميدان الإعلام والفضاء الرقمي خلال المعركة الأخيرة، إلا أنه ما يزال موجودًا ويتمتع بقوة وقدرة على العمل، لهذا وغيره ينبغي أن يستمر الحراك الإعلامي، والتفكير في مشاريع دائمة تحافظ على الوعي والحضور القوي للقضية، وتبني على الجهود الفردية وتستثمر فيها وفيما أنجزته، لتبقى مستمرة طوال العام تعمل على تأصيل القضية في النفوس، وترسيخها، وحماية وعي الأجيال، وأيضا للعمل على إحباط مشاريع الاحتلال التي تهدف لصهينة العقول والأفكار.
الحرب المنظمة التي يقوم بها الاحتلال ومن معه ضد المحتوى الفلسطيني والنشطاء الفلسطينيين، تحتاج إلى جهد منظم بأكثر من مسار من أجل التصدي لها بكفاءة عالية.
تعليقات علي هذا المقال