يرتبط وجود القانون بالحضارة والاجتماع البشري، فالإنسان لا ينفك عن الحياة في مجتمع يكون عضوًا فيه، وكل مجتمع تكون له قواعده التي تضبط علاقات أفراده فيما بينهم، وكلما تطورت المجتمعات ازداد تعقيد القواعد التي تنظم العلاقات بين أفراده، وكلما ارتفع مستوى المدنية والحضارة أصبحت النظم القانونية أكثر تماسكًا ووضوحًا وهيبة، حيث تصبح القواعد القانونية مشروعة بحكم مصدر التشريع المتوافق عليه وملزمة بقوة سلطان الدولة، وهو ما يُمَكن القانون من أداء دوره في المجتمع، باعتباره ضمانة للحصول على الحقوق وأداء الالتزامات.
لقد بدأ الإنسان بتدوين القوانين في أزمنة موغلة في القدم، فهناك قانون “تحوت” الذي أصدره الملك مينا الفرعوني (4200 ق.م)([1])، كما عثر الباحثون على ثلاث رُقم (ألواح) طينية مكتوبة في العصر الآشوري القديم (2000-1350 ق.م) مدون عليها بعض القواعد القانونية([2])، وهناك قانون حمورابي، والألواح الاثنا عشر، وغير ذلك من الجهود القانونية التي ارتبطت بتطور المجتمعات المتناثرة إلى دولة موحدة، وارتبطت بتغير مصدر الحق من القوة إلى القانون، وانتقال سلطة التنفيذ لتصبح في يد الدولة حصرًا، بعد أن كانت في يد الأقوى والأكثر نفوذًا في المجتمعات المتخلفة حضاريًا.
إذن تتمحور فكرة القانون حول وجود قواعد “ما” تنظم العلاقات داخل المجتمع، وتتسم بالإلزام، وفكرة التقنين تعتبر تدوينًا لأحكام القانون، وحسمًا للخلاف حول وجوده، وتضييقًا لدوائر الرأي والاجتهاد في تطبيق أحكامه، وهو بهذه الصورة أحد مظاهر ارتقاء الأنظمة القانونية تشريعًا وتطبيقًا، وأحد معالم التطور الحضاري للمجتمع.
كان لا بد من هذه المقدمة للوصول إلى فكرة مهمة مفادها: أن تقنين أحكام الشريعة الإسلامية لا يقتصر على مجرد صياغة الأحكام الفقهية في قالب قانوني مكون من مواد وفقرات ذات أرقام مرجعية وصياغة محكمة لا تحتمل التأويل، بل فيه معنى آخر وهو: إلزام عموم الناس برأي فقهي معين، وجبر الخاضعين لحكم القانون على الانصياع لأحكامه، دون توفر إمكانية الاختيار بين المذاهب والاجتهادات.
والتقنين بهذا المعنى يتجاوز حدود الاجتهاد العلمي في الفقه، ليتوغل في مساحة سياسية تتعلق بسلطة الحكم واختياراتها القانونية وفق رؤيتها للمجتمع والدولة.
اجتهادات متعددة وقانون موحد:
ارتبط تطبيق أحكام الشريعة ابتداء بالسلطة النبوية التي أسبغها الله على نبيه الكريم ﷺ، قال تعالى:﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65] ثم اجتهادات الخلفاء وولاة الأمر والقضاة، وهي ما أقره النبي ﷺ باعتباره أمرًا مشروعًا.
ففي حديث معاذ عندما أرسله النبي ﷺ إلى اليمن وأقره على اعتبار اجتهاده في حال لم يجد في الكتاب أو السنة ما يقضي به، قال معاذ “أجتهد رأيي ولا آلو”([3])، وهذه الاجتهادات موجودة منذ عصر النبوة، سواء أكانت اجتهادات جماعية أم فردية، وسواء أكان مصدرها سلطة سياسية أو قضائية، ففي كل الأحوال كانت هذه طبيعة المرحلة الأولى من التشريع الإسلامي، حيث كان للقضاة الحرية في الاستنباط المباشر من القرآن والسنة المطهرة، دون وجود إلزام برأي معين في الأعم الأغلب.
بدأت فكرة التقنين تراود أذهان الحكام مع استقرار الدولة، والرغبة في توحيد مؤسساتها، ولقد عبر عن هذه الفكرة ابن المقفع (142هـ) في رسالته إلى أبي جعفر المنصور (158هـ)، والتي جاء فيها: “… ومما ينظر أمير المؤمنين فيه اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمرًا عظيمًا في الدماء والفروج والأموال، فيستحل الدم والفرج بالحيرة، وهما يحرمان بالكوفة، ويكون مثل ذلك الاختلاف في جوف الكوفة، فيستحل في ناحية منها ما يحرم في ناحية أخرى، فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة، فترفع إليه في كتاب ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس، ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك وقضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله، ويعزم له عليه، وينهى عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك كتابًا جامعًا عزمًا، لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكمًا واحدًا صوابًا ورجونا أن يكون في اجتماع السير اجتماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه، ثم يكون ذلك من إمام إلى آخر، آخر الدهر إن شاء الله” ([4]).
هنا ينقل ابن المقفع مشكلة اختلاف القضاة في الأحكام، سواء في الأقطار المختلفة أو داخل المدينة الواحدة، ويتحدث عن الأثر السلبي لذلك على الأموال والأعراض، ويقترح الحل في “تدوين كتاب” يعتبر مرجعية قانونية للقضاة في كل البلاد.
ويعتبر موطأ الإمام مالك بن أنس (179هـ) أول “تقنين” لأحكام الشريعة الإسلامية، والمقصود هنا التقنين من زاوية الإلزام وليس بمعنى التدوين في صورة فقرات قانونية، حيث إنه وضع استجابة لرغبة رأس السلطة السياسية آنذاك في توحيد أحكام القضاء، وقد وردت العديد من الروايات في تحديد الخليفة الذي طلب من الإمام مالك أن يقوم بتدوين الموطأ، فمن ذلك ما روي بأن المهدي قال لمالك: “ضع كتابًا أحمل الأمة عليه، فقال مالك: يا أمير المؤمنين أما هذا الصقع -وأشار إلى المغرب- فقد كفيتكه، وأما الشام ففيهم الرجل الذي علمته -يعني الأوزاعي- وأما أهل العراق فهم أهل العراق”. ([5])
كذلك ورد أن مالكًا قال: “شاورني هارون الرشيد في ثلاثة: أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه، وفي أن ينقض منبر رسول الله ﷺرويجعله من جوهر وذهب وفضة، وفي أن يقدم نافع بن نعيم إمامًا يصلي بالناس في مسجد رسول الله ﷺ، فقلت: يا أمير المؤمنين أما تعليق الموطأ في الكعبة فإن أصحاب رسول الله اختلفوا في الفروع، فافترقوا في البلدان، وكل عند نفسه مصيب، وأما نقض المنبر فلا أرى أن تحرم الناس أثر رسول الله ﷺ، وأما تقديمك نافعًا يصلي بالناس، فإن نافعًا إمام في القراءة لا يؤمن أن تبدر منه في المحراب بادرة فتحفظ عنه، فقال: وفقك الله يا أبا عبدالله” ([6]).
وفي رواية: “يا أمير المؤمنين قد رسخ في قلوب أهل كل بلد ما اعتقدوه وعملوا به، وردّ العامة عن مثل هذا عسير”. ([7])
وهنا يظهر الخلاف بين رجل الدولة الذي يريد توحيد القضاء والأحكام الشرعية في عموم مناطق ولايته، وبين الإمام مالك بنظرته الفاحصة التي جعلته يأبى ذلك التقنين، ربما رغبة في احتفاظ الأمة بحريتها في الاجتهاد والعمل وفق هذا الاجتهاد، وربما انطوى هذا الأمر على رفض سلبي للسلطة السياسية آنذاك، وقد بلغت من سفك دم المسلمين مبلغًا كبيرًا، ولعل مما يؤكد ذلك آراؤه السياسية الأخرى مثل مسألة “عدم اعتبار طلاق المكره”، وإسقاطاتها السياسية على اعتبار قياس البيعة على الطلاق وعدم اعتبار الإكراه في كليهما، وهو ما سبب له الوقوع في محنة سياسية كبيرة مع العباسيين. ([8])
تأتي المحطة التالية لتقنين الشريعة الإسلامية في المدونة الأشهر وهي “مجلة الأحكام العدلية”، التي وضعتها لجنة من علماء الدولة العثمانية، وبدأ العمل فيها بتكليف من السلطان عبد المجيد، وتكونت من 1851 مادة، وصدرت آخر أعدادها عام 1882م، ولم تكن هذه هي المحاولة الأولى للتقنين في الدولة العثمانية، فقد سبقها جمع كل الأقطار العثمانية على الإفتاء بالمذهب الحنفي، واعتماده مذهبًا للدولة، وهو ما ارتبط بتوسع الدولة العثمانية في عهد السلطان سليم الأول (1520م)، ومن بعد ذلك مدونة “قانون نامة” التي أصدرها السلطان سليمان القانوني (1566م)، وهي مدونة أقرب إلى الدساتير منها إلى القوانين، حيث أنشأ بمقتضاه منصب شيخ الإسلام، ونظم التراتيب القضائية لتصبح جزءً من مكونات الدولة، وتحت تحكم كامل من السلطة السياسية فيها.
لكن كل المحاولات السابقة على مجلة الأحكام العدلية، كانت تتعلق بالسيطرة على القضاء والإفتاء عبر التحكم في اختيار القاضي والمفتي وعزلهما، وامتلاك السلطة السياسية لأدوات السيطرة عبر الاستمالة أو الضغط، بينما تغيرت وجهة الدولة تمامًا في السيطرة على الشق القانوني من تنظيم المجتمع، فأصدرت “المجلة” التي اعتبرت تقنينًا معتمدًا للأحكام في الدولة العثمانية.
إلغاء الخلافة: شريعة ضائعة وقوانين جديدة
مع انهيار الدولة العثمانية، وإلغاء الخلافة رسميًا سنة 1924م، لم تعد للمجلة ذات المكانة العملية قيمة عظمى، حيث بقيت أحكامها مطبقة بصورة محدودة جغرافيًا (مازالت أحكام المجلة مطبقة في فلسطين دون غيرها)، وبقيت باعتبارها مرجعًا لبعض قوانين الأحوال الشخصية دون اعتماد نصوص أحكامها، حيث أصبح لكل دولة دستور وقوانين مختلفة، وتحولت جهود تقنين أحكام الشريعة من كونها تكليفات من الدولة إلى كونها تصورات ومقترحات من النخب العلمية والسياسية إلى الدولة!
تعددت بعد ذلك محاولات التقنين منها:
أعمال قدري باشا (1886م) حيث كتب ثلاث كتب أحدها في المعاملات أسماه مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان احتوى على 941 مادة، وآخر في الوقف أسماه قانون العدل والإنصاف في القضاء على مشاكل الأوقاف في 646 مادة، والأخير كان في الأحوال الشخصية أسماه الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية في 647 مادة.
وهناك محاولات مجمع البحوث الإسلامية ([9]) التي بدأ التمهيد لها في عام 1968م وانطلقت في عام 1970م، ونتج عنها أربع كتب يختص كل منها بتقنين مذهب من المذاهب الأربعة في الفترة بين (1972 – 1974).
وهناك أعمال مجلس الشعب المصري (1978 – 1982) وقد صدرت أعمال المجلس منظومة قانونية متكاملة عبر مشروعات لقوانين المعاملات المدنية، والإثبات والتقاضي والعقوبات والتجارة العامة والتجارة البحرية، وجدير بالذكر أن الدكتور صوفي أبو طالب رئيس مجلس الشعب آنذاك أشار إلى أن أعضاء اللجان الفنية والعاملين بأمانة المجلس لم يتقاضوا أجرًا على هذا الإنجاز الضخم.
كما أن هناك المؤتمر الثاني لوزراء العدل العرب في صنعاء 1981م، والذي أقر خطة الأمانة الفنية لمجلس وزراء العدل العرب للمنظمة، لتوحيد التشريعات العربية على أساس الشريعة الإسلامية، ومنها، القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية (وثيقة الكويت 1984م)، والتنظيم القضائي الموحد (نظام الدار البيضاء 1986م)، والقانون العربي الموحد للتسجيل العقاري 1994م، وقد أصدرت القانون المدني العربي الموحد، والقانون الجزائي العربي الموحد 1996م، والقانون النموذجي العربي الموحد لتنظيم السجون 2000م، والقانون العربي الموحد لرعاية القاصرين 2002م.
كل هذه الأعمال الجليلة بقيت في خانة “المحاولات”، حيث افتقدت للعنصر الرئيسي لعملية التقنين وهو اعتماد السلطة السياسية، لذا فإن المسار المؤثر الذي ينبغي أن يسلكه الراغبون في عودة الشريعة الإسلامية إلى التطبيق باعتبارها منظومة شاملة تغطي مظاهر الحياة جميعها، هو المسار السياسي دون غيره، فمحاولات التقنين التي بين أيدينا تكفي باعتبارها أساسًا قابلًا للتطبيق الفوري إذا توفر القرار السياسي لذلك.
وكما رأينا معًا في ثنايا هذا المقال الموجز، أنه عند توفر القرار السياسي بتقنين أحكام الشريعة الإسلامية تم ذلك سواء عن طريق اعتماد أحد المذاهب، أو إصدار مدونات دستورية أو قانونية، وعندما لا يكون هذا الأمر في مخطط السلطة السياسية فإن كل المدونات القانونية تبقى مجرد اجتهادات علمية ومقترحات نخبوية لا أكثر.
المصادر:
[1] تاريخ القوانين مدخل إلى دراسة القوانين القديمة، علي محمد جعفر (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1998) ص 29.
[2] تأريخ القانون، صاحب عبيد الفتلاوي (طنطا: مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1998) ص 67.
[3] من حديث معاذ بن جبل في مسند أحمد (22100) ونص الحديث:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن، فذكر: كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب صدري فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسوله).
[4] جمهرة رسائل العرب في عصور العربية، أحمد صفوت زكي (بيروت: المكتبة العلمية، 1937) 3/26.
[5] ترتيب المدارك، القاضي عياض (الرباط: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، 1983) 1/193.
[6] حلية الأولياء، أبو نعيم (بيروت: دار الكتب العلمية،1988) 6/232.
[7] سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1985) ط 3 8/78.
[8] لمزيد من التفصيل عن آراء الإمام مالك في السياسة انظر: مالك – حياته وعصره وآراؤه الفقهية، محمد أبو زهرة (القاهرة: دار الفكر العربي، د.ت.) ط 2 ص122 وما بعدها.
[9]() انظر تفصيلًا: الشريعة الربانية المعجزة والقوانين الوضعية العاجزة للدكتور عبد الستار فتح الله سعيد ص 52 وما بعدها
تعليقات علي هذا المقال