في أوقات المعارك يختار كلٌّ موقعه؛ الميمنة أو الميسرة، المقدمة أو المؤخرة. وقد لا تكون هناك رفاهية الاختيار فيبقى كلٌّ في مكانه المقدر له؛ حتى ينال شرف المعركة، ونبل المواجهة، لكن يبقى كثيرون ليسوا من قوام الجيش، ولا هم في قوات الاحتياط، يمنعهم المكان والظروف من الحضور، وتحول بينهم وبين المشاركة آلاف الأسباب، فيبحثون حولهم عن أي شيء، ولو أن يكسروا حاجزًا ببلطة، أو أن يبنوا متراسًا بذرات الغبار.
البعض يمسك ورقة وقلما، البعض يكتب وينشر ويحرر ويصاب بحمى التدوين، البعض يترجم مستخدمًا كل معرفته باللغات الأخرى، أو حتى مترجمًا عبر جوجل؛ البعض يسجل الفيديوهات، البعض يسجل الحقائق ويدقق المزاعم ويفضح التزييف، الكل يحارب لا من أجل اقتناعه بصناعة فارق حقيقي – وإن كان هذا يحدث بالفعل – بقدر ما يحارب عجزه وقهره، الجميع يريد أن يقول أي شيء ولو كان أذانًا في مالطة، أو طرقًا لجدار الخزان على طريقة “رجال في الشمس”.
الجميع كان ليفعل أي شيء، حتى ولو صراخًا، عدا أن يصمت، أن يترك إخوته يبادون من دون نطق كلمة واحدة، ليس فقط خللًا في تكوينه مسلمًا، بل في تكوينه النفسي والقومي والهوياتي والوطني، وقبل ذلك الإنساني، وتحديدا في تعريفه لمفهوم الإنسان وما يترتب عليه من التزامات تجاه الإنسان الآخر، بعيدا حتى عن دين ذلك الإنسان ولغته وعرقه وموقعه الجغرافي وتاريخه المشترك. كل سبب من ذلك، بشكل منفصل، كفيل أن يصنع من فعلك موقفا، ومن شخصك رجلا تتوافر فيه علامات المروءة والشهامة.
صلاح: صمت طويل وحديث مائع
سكت محمد صلاح، إنسان يستطيع أن يوصل كلماته لملياري إنسان على وجه الأرض تقريبا، بتعقل لا مبالغة، ربما لا يستطيع الرئيس الأمريكي نفسه ذلك إن أراد إخبار العالم برسالة، لكن هذا، يرتدي الصغار قمصانه المقلدة رديئة الجودة في إفريقيا، وقمصانه الأصلية باهظة الثمن في أوروبا.
وبين هذا وذاك، بين المقلد والأصلي والرفاهيّ الاستعراضيّ، الوطن العربي الذي يفخر به ويتبناه، يشعر بطريقة أو بأخرى أنه مشروعه الخاص، الشخص الذي يشبه العامة، يشبههم شكليا وفي لسانه نحو 100 مليون على الأقل، وسط نصف مليار يقطنون الأوطان المتجاورة، بين مليارين ينتشرون في الجسد الكبير، ضمن ثمانية مليارات، جل من يشاهد التلفاز فيهم، أو يقرأ الصحف، أو يملك هاتفا وشبكة إنترنت ولو ضعيفة، أو يحب كرة القدم ولو ملعوبة في كهف أو حوش أو ملعب مجهز فإنهم جميعًا يعرفون صلاح، وسيسمعون بطريقة أو بأخرى ما سيقوله، بل أقول إن الذين قد يصلهم كلامه قد يكونون فعليا أكثر من الذين يعرفون عن فلسطين.
من أجل ذلك كله، كان على صلاح أن يتحدث، أن يقول شيئًا، كلمة واحدة تطمئن الناس أنه في صفهم، بينما تعرّف الآخرين في أي صف يجب أن يقفوا، أن يتكلم فقط، ليس بحجم الكلام، ولا دبلوماسيته، ولكن بعفويته، أن يشبههم كلامه كما شعروا بأنه يشبههم في كل التفاصيل السابقة التي عاشوها معه، شكله، فرحته، حزنه، لغته، دينه، احتفالاته.
لكن وبعدما ارتقى نحو أربعة آلاف شهيد، ووقعت مجازر لمئات الأطفال، تكلم صلاح، الذي جعل الناس ينتقلون من لومه على الصمت إلى لومه على الكلام، وماذا قال؟ لم يجاوز عتبة الحياد بالسكوت إلا إلى عتبة الحياد بالحديث؛ فصار حنق الناس عليه أكبر.
عشرة أيام ونحن ننتظر كلمة تنصفنا ثم تخرج لتطلب من العالم الغذاء لمحاصرين يقصفون دون أن تقول كلمة واحدة من أجلهم؟ ليسوا حيوانات تأكل وتشرب، وإنما بشر يريدون من كل صاحب ضمير أن يتبنى قضيتهم ويخبر بها الآخرين، ثم يأتي محمد ليساوي دماءهم بدماء قاتليهم، متوسلًا على حسابهم احترامَ الناس له وكفاية شرهم.
لم يتحدث محمد من منطلق نفسه وسجيته وفطرته، وإنما ظل عشرة أيام يتحداها محاولًا تنميق الكلمات وترتيب الصفوف ورص الحروف حتى يخرج من كلمته بلا خسائر؛ لكن لأن الحسبة خادعة، ولأن نفسه التي يسلمها لمدير أعماله استدرجته، فإن محمدًا لم يكسب إلا استمراره في تحقيق أرقامه دون استبعاد أو موقف، واستحسان الإعلام الغربي المبطّن الذي كاد قلبه يتوقف حين رآه تكلم قبل أن يسمعه، ليطمئن بعدها أنها كلمات بلا مخالب وجعجعة بلا أنياب، وحديث جبان أكلت القطط -التي ينادي بحقوقها بوجه متأثر أكثر- لسانه الذي أصاب أهل غزة بالاشمئزاز والقرف، والمتضامنين معهم بالسخط والغضب، والمحبين له بالكره المفاجئ، فخسر محمد صلاح، وربح رامي عباس!
مؤثرو الإمارات والخوف على لقمة العيش!
ليست الحالة تلك خاصة بصلاح وحده حتى لا نُشَخصِن الأمور -مع أنه لا عيب في ذلك- ولكنها شاملة لكثيرين كأنهم يأنفون من الحديث عن فلسطين، كأنه تريند يترفعون عن المشاركة به، وهم الذين لا واردة ولا شاردة تحدث إلا وكانوا أول المشاركين، ولكن هذه المرة لأنها القضية المبتذلة التي يمكن لآخرين التفوق بذكر اسمها دون حجز “لَقطة” خاصة لهم، فإن المكان غير مناسب، والظروف ليست ملائمة لذكر غزة والتضامن معها.
هذه الفئة التي يسوء صمتها بقدر صوتها إذا خرج، طائفة كبيرة منهم تتبناهم الإمارات، تعطيهم الإقامة الذهبية – وليس كل ما يلمع ذهبا – ليس لسواد عيونهم، وإنما من أجل يوم كهذا، تحتاج فيه الدولة المطبّعة إلى جيش من المؤثرين كان باستطاعتهم ملء العالم بالرواية الفلسطينية وسردية الحقيقة، ليصمتوا.
هذه المرة لن يروجوا للأبراج المصمتة ولا مدن الحجارة وناطحات السحاب الكئيبة، وإنما أثمن ما يطلبونه منهم، أو يأمرونهم به، في ظرف كذلك هو ألا يكونوا مع “الآخر” الفلسطيني، ها أنت ذا تعيش وتأكل وتشرب وتلتقط صورا وفيديوهات للزيف الذي تعيش فيه، فما يعنيك بفلسطين ولماذا تحتاج إلى أن تقول شيئًا ما دمت لست هناك؟
وبالفعل ابتلع هؤلاء ألسنتهم، وبقي مئات الملايين الذين يتابعونهم مجتمعين يشاهدون صور الحفلات الليلية والصباحات الباهتة والقصص المزيفة، كأنهم في عالم آخر، أو كأن الذين يتضامنون مع فلسطين ويرون تلك المشاهد وتبكيهم الأحداث وتأسرهم متابعتها هم الذين في عالم آخر، فلماذا لا تُؤثِرون راحتكم النفسية وتشاهدوننا كالمهرجين في صمت؟
ذلك الخوف القوي المتمكن من نفوسهم، والخوف على الكثير من الأولويات المشوهة التي لا ينبغي أن تُقدم على فلسطين أو أي قضية دينية أو إنسانية نبيلة، كل ذلك بات يقودهم إلى اختيار عدم الانحياز، بما يعطينا نبذة صغيرة عما تمثله قضية فلسطين في وعيهم، وما تشغله من موقع في رؤوسهم الحافلة بالإعجابات والمشاهدات، والخوف الأكبر لديهم الذي يمثل كابوسًا قاسيًا هو أن يتأثر التفاعل لديهم أو تهدد صفحاتهم، حينها ولو كان كل أطفال غزة مهددين بالذبح حتى، فلا شيء أثمن من صفحة هي كينونتك، لأنك من دونها لن تستطيع كسب قرش واحد بما يرضي الله!
ولكن، حتى لا تكون الصورة قاتمة تمامًا، فإن من مكاسب هذه المعركة تعرية هؤلاء وكساد بضاعتهم، نظرة الكثيرين تغيرت بلا رجعة، تلك التفاهات التي كانت تستهويهم بدافع الفضول، استحالت صفرًا أمام ما يرون برافع الفضول أيضًا رغم توجع قلوبهم، حين يشاهدون صورا وفيديوهات لما يحدث في غزة، كما لم يعد تقييمهم للمؤثرين بحجم التفاعل لديهم، أو عدد البلدان التي يرتادونها، أو ماركات الملابس التي يرتدونها، وإنما حسب موقفهم من كل ما يجري، وعليهِ سيعيدون “فلترتهم” على ذلك القياس الجديد قبل كل شيء، ما يعني أن هالتهم التي يحبونها باتت محدودة وفي خطر.
أهل غزة لا يضرهم من خذلهم
هل الوضع فقط بهذه المأساوية؟ بالتأكيد لا، على الجانب الآخر، بينما يؤثر صلاح ومجاذيبه الصمت الاختياري، أو الحياد المائع، فإن أمةً من الناس، وجيشًا من المخلصين، يقفون إلى جانب الحق دون مواراة، يؤمنون بأهمية سرديتهم، مستخدمين أدواتهم ولو لآخر مرة، كفارس يعرف أن تلك الضربة ستكسر سيفه، ولكن ربما بنسبة كبيرة تربحه المعركة، واضعين نصب عيونهم التحذير الذي يلاحقهم به الأديب صاحب الملهاة الفلسطينية إبراهيم نصر الله: “الحكايا التي لا نكتبها تصبح ملكًا لأعدائنا”.
نهايةً هذه معركة أول نتائجها التمحيص، الغربلة، اكتشاف الذين يشبهونك وتحبهم، ولو كنت من قبل تضعهم في خانة “الجيل البايظ” واكتشاف الذين لطالما كانوا يمثلون عليك بأنهم مثلك، لكنهم مع أول اختبار حقيقي رسبوا، وأكدوا أنك لن ترى مثلهم، صمتًا وجُبنًا ودناءة.
وقبل كل شيء فاحتياج الصامتين للكلام عن غزة حتى يشعروا بصدق أنهم ما زالوا على قيد الحياة ولم تمت دواخلهم بالكامل أكبر بكثير من احتياج غزة لهم حتى يعبروا عما كان يمنع ضجيج القصف وصوله من قبل.
تعليقات علي هذا المقال