في أبريل عام 2019، أجبر الحراك الشعبي الذي اندلع بشكل متزامن في كل من الجزائر والسودان الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة والسوداني عمر البشير على التنحي بعد أن قررت المؤسسة العسكرية في كلا الدولتين الانحياز لمطالب المتظاهرين.
بعدها، في أكتوبر من نفس العام، أدى حراكٌ شعبي مشابه إلى استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، والعراقي عادل عبد المهدي. وفي الحالات الأربع، كانت مطالب الجماهير أشمل من تغيير رأس السلطة التنفيذية في بلدانها إلى المطالبة بتغيير بنية النظام السياسي نفسها، رغم احتفائها بما حققته في ذلك الحين.
بعد مرور عامين على هذه الأحداث، يحاول هذا المقال أن يجيب على سؤالين أساسيين: أولهما إذا ما كان اعتبار انتفاضات 2019 هي امتداد لثورات الربيع العربي توصيفا ملائما، وما أوجه الشبه والخلاف بين الموجتين، وثانيهما ما الذي أنجزته هذه الانتفاضات حتى الآن، وما أسباب تعثر مسارات التغيير في هذه الحالات حتى الآن؟
ثورات 2019، هل كانت ربيعا متأخرا؟
على الرغم من اختلاف السياقات، إلا أن الحراك الجماهيري الذي اندلع في أربع جمهوريات عربية في عام 2019 كان نموذجا للثورات المتسلسلة، وهو المصطلح الذي يستخدم حين تحفّز الأحداث التي تندلع في إحدى الدول تغييرات مناظرة لها في دول أخرى تتشابه مع الأولى في خصائصها، وغالبا ما تتجاور معها في ذات الإقليم الجيوسياسي.(1)
خلال الموجة الأولى للثورات العربية ما بين عامي 2011-2013، اندلعت بعض الفعاليات الاحتجاجية المحدودة في السودان والجزائر والعراق ولبنان، فقد سُحقت عدة موجات للتظاهر في السودان في الربع الأول من عام 2011، وأخرى منتصف 2012، ثم انتفاضة سبتمبر 2013،(2) وفي العراق أيضا تكررت التظاهرات والاعتصامات منذ فبراير 2011 حتى فُضت الاعتصامات بالقوة في ديسمبر 2013.(3)
أما في الجزائر، فقد دفعت التظاهرات التي اندلعت ما بين يناير وأبريل 2011 الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إلى إلغاء حالة الطوارئ والإعلان عن تعديل الدستور.(4) لكن مع ذلك، في أي من هذه الحالات، لم تكن الأوضاع السياسية ملائمة بعد لتحول هذه الاحتجاجات إلى ثورات مكتملة كما حدث في العام 2019.
صحيح أن الموجة الثانية من الثورات تشابهت ظاهريا مع الموجة الأولى في دوافعها من الحوكمة غير الرشيدة، والاستبداد السياسي، وتردي الأوضاع الاقتصادية واستشراء الفساد، كما تشابهت معها في آلية الحراك والحشد، وفي الهتافات والمطالبات،(5) إلا أن حدوثها بعد عدة سنوات من الموجة الأولى تغيرت خلالها الأوضاع الإقليمية بشكل جذري أوجد عددا من الاختلافات.
فمن جهة، كانت الجماهير الثائرة أكثر إدراكا لتعقيدات عملية التغيير بعد ما رأته من مآلات الموجة الأولى، ولذلك كانت أكثر حرصا على وحدة الحراك وتجاوزه للاستقطابات الأيديولوجية والطائفية، كما في الحالة الجزائرية واللبنانية مثلا،(6)كما كانت حريصة على ألا تنساق سريعا إلى مسار انتخابي قد يفتت الصف الثوري خلال المرحلة الانتقالية كما نصت الوثيقة الدستورية السودانية،(7) وكذلك، كانت أكثر تمسكا بالمسار السلمي في مواجهة عنف السلطة، وكان سقف مطالبتها بالتغيير أكثر واقعية.(8)
ومن جهة أخرى، كانت النظم والقوى الإقليمية أكثر استعدادا وقدرة على التعامل مع هذه الموجة من الربيع العربي وعلى احتوائها، ففي حالة السودان والجزائر، تمكنت المؤسسة العسكرية من أخذ زمام المبادرة مبكرا والسيطرة – بدرجات متفاوتة – على مسار التحول السياسي.
أما في حالتي لبنان والعراق، فقط كانت النخبة الحاكمة أكثر صلفا في مواجهة مطالب الشارع الثائر، وأكثر قدرة على التلاعب بالورقة الطائفية لتفريق المتظاهرين، بل وكذلك كانت القوى الإقليمية أكثر استعدادا للتدخل ودعم حلفائها، فقد كان الدور الإيراني في الساحة العراقية واللبنانية، ودور الملكيات العربية، وتحديدا المملكة العربية السعودية والإمارات، في الساحة السودانية مؤثرا في السيطرة على مسار الأحداث وتوجيهها.(9)
انحسار الربيع مرة أخرى
بعد مرور نحو عامين على اندلاع الموجة الثانية من الثورات العربية، لا يبدو أن حظ هذه الموجة أفضل من سابقتها، فعلى الرغم من الحماس الذي أثارته في بداياتها إلا أن آثارها قد احتُويت إما بشكل جزئي أو كلي، ولم تسفر – حتى الآن – عن تحول حقيقي في بنية النظم الحاكمة كما كانت تطمح الجماهير.
ففي السودان، يبدو أن ما تحقق حتى الآن هو التخلص من النخبة الحاكمة المنتمية للحركة الإسلامية، دون أن يحدث تغيرٌ ملحوظ في مدى سلطوية النظام أو كفاءته.
صحيح أن السلطة الانتقالية تتمثل فيها الأطراف المدنية والعسكرية بشكل شبه متساوٍ، وأنها أخذت خطوات جادة من أجل المصالحة الوطنية مع عدد من الفصائل المسلحة، ومن أجل عودة السودان إلى المجتمع الدولي، إلا أن الجانب العسكري مازال مهيمنا على المشهد السياسي، بدعم من أطراف إقليمية (تحديدا السعودية والإمارات)، بينما يعتري القوى المدنية الضعف والانقسام، كما أن الأوضاع الاقتصادية والخدمات مازالت متردية بما يسبب توترا مستمرا واحتجاجات شعبية تندلع من آنٍ لآخر.(10)
في الجزائر، تمكن الحراك من إسقاط العهدة الخامسة، ومن فتح قضايا فساد ضد أقطاب نظام بوتفليقة، مثل شقيق الرئيس سعيد بوتفليقة، ورئيس الحكومة أحمد أويحي، ورئيس المخابرات الجزائرية المقال محمد مدين المعروف باسم الجنرال توفيق.
لكن، على جانب آخر، كان دور المؤسسة العسكرية حاسما في السيطرة على مسار الأحداث، فقد فرضت أجندتها بالدفع باتجاه انتخابات رئاسية سريعة، وبتمرير الدستور، ورفض أي مطالبة بحكومة انتقالية، أو المساس بطبيعة النظام السياسي القائم، وقد أدى تضارب الأجندات هذا إلى موجة اعتقالات طالت العشرات من قيادات الحراك ، وإلى التضييق على التظاهرات الشعبية استفادة من الإجراءات الاحترازية لمواجهة جائحة كورونا.(11)
انتفاضتا أكتوبر في كل من العراق ولبنان لم تكن بذات القدرة على التأثير، فبعد الإطاحة برئيسي الوزراء اللبناني والعراقي، دخل الحراك الشعبي في حالة من فقدان البوصلة، فعلى الرغم من استمرار الفعاليات لعدة أشهر إلا أن تماسك النخبة الحاكمة على تناقضاتها، وتعمق الاستقطابات الطائفية، وتعقد المشهد الإقليمي في مقابل غياب قيادات وازنة معبرة عن الحراك، وانقسام المتظاهرين حول سؤال ما العمل، كل ذلك حال دون أن يحدث تغير في طبيعة النظام السياسي، ثم جاءت أزمة الجائحة وتبعاتها على تقييد التجمعات، وآثارها الاقتصادية الوخيمة لتفقد الحراك الكثير من زخمه.(12)
خاتمة
بعد مرور عامين، يبدو أن الموجة الثانية للثورات العربية قد دخلت طور الانحسار، فما أنجزته حتى الآن يتراوح بين إحلال – بدرجات متفاوتة – للنخبة السياسية دون تغير حقيقي في بنية النظام، مع إصلاحات محدودة – وأحيانا شكلية – كما في الحالة السودانية والجزائرية، أو مراوحة المكان كما في الحالتين العراقية واللبنانية، وعلى الرغم من استمرار حالة عدم الاستقرار، وتواصل الفعاليات الاحتجاجية إلا أن تطورها إلى حالة ثورية مكتملة مرة أخرى من غير المحتمل.
ويمكن تفسير محدودية نتائج هذه الموجة الثورية بعوامل عدة، بعضها مرتبط بطبيعة الحراك، الذي هو عفوي – وربما ارتجالي – دون أن يتطور إلى أشكال أكثر مأسسة، ودون أن ينتج قيادات ذات شرعية معترف بها، وبعضها مرتبط بالظرف الإقليمي غير المواتي، والذي تمزقه الصراعات الأهلية والاستقطابات الطائفية، والذي بات ساحة للحروب بالوكالة بين أطراف إقليمية ودولية، وبعضها مرتبط بالنظام الدولي ذاته، والذي يمر بفترة تحولات ولا يقين حادة، ويشهد انحسارا في القيم الديمقراطية الليبرالية.
لكن مما لا شك فيه فإن الآثار الممتدة لموجتي الثورات العربية لم تتكشف بعد، فطوال عقد كامل لم تهدأ ثائرة شعوب المنطقة مطالبين بحقوقهم السياسية والاجتماعية المهدرة، وطوال هذا العقد تغيرت قناعات ومسلمات، وتراكم لدى الشعوب العديد من الخبرات، وتعرضت النظم الاستبدادية إلى تآكل في شرعيتها وفاعليتها، وهو ما يؤكد أن عملية التحول التي تمر بها المنطقة لم تنته بعد ومازالت مفتوحة على كافة الاحتمالات.
المصادر
- Henry E. Hale, “Regime Change Cascades: What We Have Learned from the 1848 Revolutions to the 2011 Arab Uprisings”, Annual Review of Political Science 16 (2013): 331.
- Michael Young, “Bye Bye Bashir”, Diwan, 13 April 2019,
- فارس الخطاب، التظاهرات العراقية ومستقبل النظام السياسي، مركز الجزيرة للدراسات، 13 نوفمبر 2019،
- الرئيس الجزائري يعلن خططا لتعديل الدستور، BBC عربي، 15 إبريل 2011
- Marwan Muasher, “Is This the Arab Spring 2.0?”, Carnegie Endowment for International Peace, 30 October 2019,
- المرجع السابق.
- السودان.. أبرز بنود وثيقة “الإعلان الدستوري”، وكالة الأناضول، 3 أغسطس 2013،
- Muasher, “Is This the Arab Spring 2.0?”, Carnegie Endowment for International Peace.
- Muhittin Ataman, “Demand for change in Arab world continues”, Anadolu Agency, 27 December 2019
- Dimah Mahmoud and Jihad Mashamoun, “Sudan: The hijacking of the people’s revolution continues on”, The Africa Report, 23 January 2021,
- أحمد مرواني، “بعد عامين من الحراك الجزائري … ما الذي تحقق؟”، منتدى واشنطن، 31 مارس 2021
- Nabil Salih, “A year after the October uprising, Iraqis have more reasons to protest”, Open Democracy, 1 October 2020
Nabeel Khoury, “For Lebanon, the only way out is either revolution or reform”, Atlantic Council, 10 August 2020,