أطلقت فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة على معركتها التي دامت أحد عشر يومًا، مع الاحتلال الإسرائيلي، اسم “معركة سيف القدس”، في وصف واقعيّ لمجريات الأحداث، وفي تكريس لإرادة هذه الفصائل من الاشتباك المسلّح في هذه اللحظة الزمنيّة تحديدًا مع الاحتلال.
أخذت الأحداث تتدحرج في القدس منذ نيسان/أبريل، حينما أجبرت الجماهير المقدسية شرطة الاحتلال على تفكيك إجراءاتها الأمنية الرامية إلى منع تجمّع المقدسيين في ساحة باب العمود، العنوان الأبرز على المدينة المقدّسة، ثمّ استمرت الأحداث وصولاً إلي المشهد الملحمي داخل المسجد الأقصى، حينما تمكّن المعتصمون في المسجد، والمرابطون والمعتكفون فيه، من منع اقتحام استيطاني للمسجد، كان يُعدّ له على مدار شهور سابقة، وفي الأثناء عادت قضية حيّ الشيخ جرّاح للتفاعل، وهي قضيّة موغلة في الجرح الفلسطيني، وذاكرته الوطنيّة، فقد كانت شرطة الاحتلال تستعدّ لتهجير سكان الحيّ الأصليين لصالح جمعيات استيطانية، على مرأى العالم ومسمعه هذه المرّة، في وصل مع جرح العام 1948، ولكن على نحو أكثر إهانة للفلسطينيين، واستفرادًا بهم، بعد موجة تطبيع عربيّة لم تكن متصوّرة يومًا في المخيال العربي.
كان تدخّل المقاومة المسلّحة من غزّة هذه المرّة لافتًا، وعلى نحو يذكّر بهبّة العام 2014، حينما انتقلت من القدّس والضفّة الغربية إلى غزّة، بيد أن مجريات الانتقال، والعنوان المكرّس من المقاومة هذه المرّة أكثر دلالة.
كان لحرب العام 2014 انعكاس كبير، على ساحة الضفّة الغربية، في ثورة السكاكين التي انبعثت في العام 2015 من ساحات المسجد الأقصى، واستمرت بنمط جديد في أشكال متعددة لسنتين للأمام، لتتصاعد في القدس، هبّات أخرى، عنوانها المسجد الأقصى، كهبّة باب الأسباط في العام 2017، التي أجبرت الاحتلال على تفكيك إجراءاته الأمنية على الباب، ثم هبّة مصلّى باب الرحمة في العام 2019، حينما تمكّن المقدسيون من إعادة افتتاحه رغمًا عن الاحتلال الذي أغلقه في العام 2003، في تلك الأثناء كانت المقاومة تراقب، حتّى قرّرت الذهاب المعلن هذه المرّة، في ربط صريح ومباشر مع أحداث القدس في مواجهة مباشرة. فماذا كانت تريد المقاومة من ذلك؟
ثمّة مجموعة من الأسئلة مطروحة بإزاء إرادة المقاومة من هذا التدخل المسلّح، منها ارتدادات تدخّل المقاومة من فلسطين إلى العالم مرورًا بالمنطقة العربيّة، وإدراك الجماهير لمعاني تدخّل المقاومة هذه المرّة، والنتائج المترتبة على هذا التدخل.
السيف بين لحظتين
لإدراك قيمة التدخل المسلّح من غزّة، واستيعاب ارتداداته، والوقوف على نتائجه، لا بدّ من الإحاطة بالظرف الفلسطيني الخانق قبل هذا التدخّل.
يمكن وصف الحالة التي كانت تلفّ القضيّة الفلسطينية، قبل ثانية واحدة فقط من تدخل المقاومة، بالانسداد التاريخي، فلا نافذة مشرعة نحو الأفق أمام أبصار الفلسطينيين، بعدما وصل بهم مشروع التسوية، وتأسيس سلطة في ظلّ الاحتلال إلى شلّ خياراتهم النضالية، وتوسيع فراغ من الهدوء يتمدّد فيه الاحتلال استيطانيًّا في الداخل، وسياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا في المحيط العربي، فضلاً عن تعزيز صورته ومكانته الدولية.
انتهى ذلك إلى جملة من العناوين التصفوية: (صفقة ترمب، والاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لـ “إسرائيل”، وشرعنة الولايات المتحدة للمستوطنات في الضفّة الغربية، ومشاريع بنيامين نتنياهو لضمّ مساحات واسعة من الضفّة الغربية، وموجة تطبيع عربيّ بلغت حدّ التحالف مع الاحتلال والتخندق في صفّه وتبني السرديّة الصهيونية بالكامل، وإطلاق حملات دعائية تهدف إلى شيطنة الفلسطينيين..).
بدا في الأثناء عجز فلسطيني كامل، فالسلطة الفلسطينية، وبالرغم من ذلك كلّه، ظلّت متمسكة بخطّها السياسي، بما في ذلك التنسيق الأمني، نقيض أيّ فعل مقاوم، وامتنعت عن إجراء انتخابات تشريعية، كان قد توجّه إليها الجميع في محاولة للولوج منها إلى إنهاء الانقسام وشقّ مسارات جديدة، وذلك في حين لم يزل قطاع غزّة خاضعًا للحصار، وتبدو خيارات المقاومة فيه كذلك محدودة.
وسط هذا الانسداد الخانق، ومراوحة المكان، وتعقيد الموقف، وندرة الخيارات، جاءت هبّة المقدسيين لتعطي الفرصة للحركة الوطنية لاستثمارها، وتطويرها، لأجل استنهاض الفلسطينيين، وشق ثغرة في وسط الانسداد، وقد كانت المقاومة المسلّحة في غزّة وحدها المؤهلة، استعدادًا وقدرة، على التقاط الفرصة وتطويرها ومدّها إلى الأمام، بالرغم من الأثمان الهائلة المتوقعة؛ في الأرواح البشرية والبنية التحتية، في منطقة جغرافية ضيقة ومحاصرة منذ خمسة عشر عامًا. فماذا أنجزت المقاومة من ذلك؟
يمكن تقسيم نتائج هذه المواجهة إلى مستويين، الأوّل راهن، والثاني مفصلي ذي أبعاد استراتيجية.
نحو مشروع وطني جامع
في الراهن، فكّت المقاومة قيودها، وأعادت موضعة نفسها بوصفها طليعة في سياق مشروع تحرّري وطني جامع، فبعدما ظلّ الاحتلال يسعى لتكبيل طابعها المُشاغِل الاستنزافي له، بحصرها في قطاع غزّة، وتحويلها إلى سلاح يُوظّف سياسيًّا في إطار محاولات رفع الحصار عن غزّة أو تحسين شروط الحياة فيها، فإنّها كسرت هذه المعادلة، باستعادتها مكانتها ووظيفتها مقاومة وطنية عامة في أصالة الوجود وراهنية الدور وأهداف الممارسة، تتجاوز قطاع غزّة، وتربط بين القدس وغزّة، وتضع القدس والمسجد الأقصى في حماية المقاومة.
وفي الراهن كذلك، استنهضت المقاومة ساحة الضفّة الغربية، التي أثبتت تطلعها للنهوض بدور مقاوم يناسب ساحتها، وهو أمر ينطوي على تحدّ بالغ لوجود سلطة فلسطينية فيها لا تتعاطف مع فكرة مواجهة الاحتلال، بيد أنّه وبالرغم من العقبات الميدانية الخاصّة بساحة الضفّة، ومن سياسات الهندسة الاجتماعية التي تهدف إلى تحييد جماهير هذه الساحة عن القيام بدورهم النضالي، فإنّ الضفّة الغربية التحمت مع غزّة في مشهد كفاحي غير مسبوق منذ الانقسام الفلسطيني، وأفضى إلى ثلاثين شهيدًا من الضفّة الغربية.
يمكن قول الشيء نفسه عن ساحة الأراضي المحتلة عام 1948، فقد تعاظم التحاق جماهيرها بالهبّة، وهو مشهد غير مسبوق منذ تشرين الأول/أكتوبر عام 2000، مثبتين وحدة الأرض والشعب والنضال، متجاوزين سياسات الأسرلة والدمج، وكاشفين عن عنصرية السياسات الإسرائيلية في الداخل، وفي حالة مفصلية من التأكيد على الهوية الوطنية، والاتصال بالذاكرة النضالية للفلسطينيين، وغير بعيد عن ذلك هبّة اللاجئين الفلسطينيين، في الأردن ولبنان، وزحفهم إلى حدود فلسطين ومعهم مواطنو البلدين.
قيامة الفلسطينيين
في المفصلي والاستراتيجي، يمكن جمع هذه التحولات الفلسطينية مرّة واحدة، ووضعها أمام سياسات التصفية، لإثبات استحالة تصفية القضية الفلسطينية، والدفع بكتلة التحوّلات هذه موجةَ التطبيع التي باتت في الزاوية، تعاني تفكيك دعاياتها وخطاباتها، بعدما حشدت معركة سيف القدس الجماهير العربيّة مجددًا حول القضية الفلسطينية، في مشهدية مدهشة، بدت مستحيلة حتّى وقت قريب.
إنّ الروافع المعنوية، في هذه المعركة، تأخذ قيمة استراتيجية، بالمقارنة المعقودة سابقًا بين المشهد الفلسطيني والعربي والدولي، قبل المعركة وبعدها، بعدما أعادت المعركة موضعة القضية بوصفها محطّ الاهتمام العربي والدولي من جديد في ظرف مستحيل، مما يعني أنّ قيامة الفلسطينيين، وإمكان الضحية نقض المعادلات المفروضة ممكن دائمًا.
القيامة الفلسطينية، باتساعها، وشمولها، وعمقها، ودلالاتها الوطنية والثقافية والتاريخية، حتى لو لم تستمر بوصفها هبّة على المدى المنظور، فإنّها ذات دلالة على تحوّل هائل على مستوى الوعي والتمييز السياسي في الساحة الفلسطينية الداخلية، واكتناز للغضب ورغبة في شقّ مسارات مواجهة من خارج بيت السلطة، وهو ما سينعكس فعلاً نضاليًّا في المدى المتوسط.
الأهمّ، في الدلالات الاستراتيجية، هو الفعل العسكري المباشر، ابتداء من تعظيم المقاومة قدراتها، وتطويرها خططها، ومراكمتها خبراتها، في ظرف مستحيل، إذ يجري ذلك كلّه في شريط ساحلي ضيق مكشوف ومحاصر، ثم بالنتائج الحربية، حينما كشف ذلك الاستعداد عن قدرة مواجهة معادلة الردع، وتثبيت مكانة المقاومة بحيث تصير أيّ مواجهة معها مكلفة جدًّا للقوّة المدجّجة والمستندة إلى العالم كلّه في قوّتها، والمسماة “إسرائيل”، وقد أدركت الجماهير الفلسطينية ذلك بملاحظة فطرية بصيرة، وجدت مقاومةّ غزّة، مريدة وقادرة وجادّة وصادقة ومثابرة ودؤوبة، وفي الغاية من استثمار القدرات والممكنات والعقول، حتّى تمكنت من تحقيق هذا الإنجاز.
بات العدوّ الإسرائيلي مرتبكًا جدًّا إزاء حالة المقاومة هذه، ففترات الهدوء تستثمرها المقاومة في المراكمة والإعداد، وبما يتجاوز قدرات الاحتلال الاستخبارتية، وفي المواجهة لا يملك الاحتلال الانسحاب المشرّف له أمام جمهوره، ولا المضيّ المكلف في حرب برّية، أو في حرب إزالة لحالة المقاومة، وهو ما يشير حتمًا إلى تقدّم إستراتيجي للمقاومة، يقابله تراجع إستراتيجي للعدوّ.
في هذا السياق نفسه، ينكشف فقر العمق الاستراتيجي للعدوّ، إذ تمكنت المقاومة، من هذا الشريط الضيّق وبإمكاناتها المحدودة، من ضرب كلّ نقطة في كيان العدوّ، وفرض حظر طيران جويّ عليه، وإنزال جمهوره بالكامل إلى الملاجئ، وبينما تبدو المقاومة الآن، هي من يكوي وعي العدوّ، ويدافع لفرض معادلات الردع، فإنّها ترفع من وعي الفلسطينيين والعرب جميعًا بإمكانية هزيمة الكيان الصهيوني في وقت قياسي في معركة عربيّة واحدة، من جبهات متعددة، يُستغل فيها انعدام العمق الإستراتيجي للعدوّ.
لقدّ أعادت معركة سيف القدس القضية الفلسطينية إلى ثوابتها ومنطلقاتها الأولى في ستينيات القرن الماضي، كما أعادت الجماهير العربية للحديث عن إمكانية التحرير من جديد، وذلك بعد عقود من طمس الوعي بإمكان التحرير، وعقب هجمة تطبيعية غير مسبوقة في انتفاشتها ولا في مضامينها التحالفية مع العدوّ.