الثورة فعل اجتماعي متعدد الجوانب، ومتعدد الدوافع والأسباب، فهى بتعبير هانك جونستون: “بركان تحركه القوى البنيوية العميقة مما يهز الأركان الراسخة للبناء الاجتماعي القائم، وهي أخطر ما يمكن أن يواجه الدولة من حيث القابلية للتمدد والاتساع، حيث تسعى الثورة بالضرورة لأن تحل محل الدولة، وهذا ما يميزها عن أنماط الحركات الاجتماعية الأخرى”. لذا فإن التعامل مع دراسة الثورات وتفسيرها مغامرة صعبة، وتتطلب قدرا من النظر الشامل لأبعاد وجوانب مختلفة ثقافية واجتماعية واقتصادية وتاريخية. في هذه المقالة سأتناول استعراضا سريعا للمداخل النظرية لدراسة الثورات، ومن ثم الانتقال لدراسة حالة ثورة يناير في البحث عن جذورها الثقافية والاجتماعية الممتدة، وكذا موضعتها في سياقها التاريخي من مسيرة مصر الحديثة لاستكشاف أكثر وضوحا لما تمثله الثورة ودلالتها التاريخية.
شرارة الثورة: سؤال الدولة والحراك
خلال العقود الماضية تأسس أكاديميا ما يسمى حقل “الدراسات الثورية” وهو حقل عابر لتخصصات العلوم السياسية والاجتماع السياسي والتاريخ، والأكاديميون العاملون بهذا الحقل يختلفون اختلافا واسعا في النماذج التفسيرية لظاهرة الثورة وفهم دوافعها وجذورها. لمدة طويلة ظل ما يعرف باتجاه “الوظيفية البنيوية” مسيطرا على النماذج التفسيرية للثورات، ومن أبرز منظريه تالكوت بارسونز. يذهب هذا الاتجاه إلى أن النظام الاجتماعي-السياسي يتكون من عناصر اجتماعية مختلفة تمثل الدولة جهة الربط وتحقيق التكامل بين تلك المكونات، ويمثل الإجماع الثقافي الشرط الموضوعي لتحقيق ذلك التكامل. ينشأ الانفجار الثوري نتيجة الخلل في أحد عنصرى الإجماع والتكامل مع فقدان الدولة دورها الوظيفي في ضبط الحراك الاجتماعي وتحقيق استقرار المجتمع.
لاحقا مع تطور الجدل الأكاديمي حول ظاهرة الثورات، وكذلك تطور الظاهرة نفسها من خلال موجات ثورية متعددة ضربت جنبات العالم شرقا وغربا، تبلور اتجاهان رئيسيان في دراسة جذور الثورة ودوافعها، الاتجاه الأول هو ما صار يعرف بالتمركز حول الحراك Mobilization Centeredness، ومن أبرز منظريه تشارلز تيللي. يتميز هذا الاتجاه بالتمحور حول فعالية الحراك السياسي والثوري المتراكم في إطلاق الانفجار الثوري مع أنه لا يغفل النظر لسلوك الدولة في التعامل مع عناصر الحراك، باعتبار هذا السلوك قد يمثل فرصة للحراك أو العكس، لكنه يميل للتمركز حول دراسة مراحل تطور الحراك نفسه -بدءا من الحالة الثورية ثم الحركة الثورية ثم الانفجار الثوري- باعتباره نقطة الفعالية الرئيسية. بينما يذهب الاتجاه الآخر الذي يمكن وصفه بالتمركز حول الدولة State Centeredness إلى اعتبار الظروف البنيوية التي تشكلها تصرفات الدولة وسلوكها ليست مجرد أحد عوامل الثورة بل العامل الفاعل الرئيس، ما يعني أن الثوريين في الحقيقة لا يصنعون الثورة بل يلتقطونها حين تسقط من يد الدولة، وحين تحدث ثغرات في جدار سيطرة النخبة الحاكمة على مجريات الأمور، فالغضب الشعبي نفسه والحالة الثورية يمكن أن تظل حاضرة لعقود دون أن تنفجر إذا لم تنشأ هذه الثغرة من جهة الدولة أولا. من باحثي هذا الاتجاه تيدا سكوكبول، حيث تميل في دراستها عن الثورة إلى الاهتمام بدراسة العوامل البنيوية على المستوى الكبير (macro) التي تحدث داخل الدولة والمجتمع بشكل متدرج وعلى مدى زمني طويل، ما يعني -مرة أخرى- أن البشر الثائرين لا يمثلون العامل الفاعل في انفجار الثورة بقدر ما توجد عوامل بنيوية كامنة فيما وراء المشهد حدثت خلال سنوات قبل أن ترتج الأرض بزلزال الثورة. هذه الثنائية التي يمثلها كل من سكوكبول وتيلي يمكن اختصارها في الانقسام حول ما إذا كان حدوث الانفجار الثوري يتمحور حول السلوك الذاتي للفاعلين الثوريين، أم حول شروط وظروف موضوعية في المشهد والسياق التاريخي.
واتباعا لطريقة الدكتور عبد الوهاب المسيري في بناء النماذج التفسيرية المركبة، فقد نعتقد أن كلّا من النموذجين السابقين يمثل حالة مغالاة في جانب وانتقاص من الجانب الآخر، ومن الأجدى اتخاذ طريق وسط في فهم وتحليل دوافع الثورة المصرية وجذورها، وأنا أميل بشكل شخصي لاعتبار العوامل البنيوية المتعلقة بسلوك الدولة هي الشرط الأهم في تشكل الثورة واندلاعها، بينما العوامل الذاتية المتمثلة في بنية الحراك وتطوره في سنوات ما قبل الثورة وما بعدها هي الشروط الأهم لنجاح مسيرة الثورة وضمان عدم الالتفاف عليها عندما تحدث. وبناء عليه؛ فإن اندلاع الثورة قد يحمل قدرا من الحتمية التاريخية التي يتحدث عنها التحليل الماركسي للثورات لكن نجاحها ليس حتميا.
مصر الحديثة.. اجتماع سياسي مضطرب وثورة ممتدة
شهدت مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر -التاريخ الذي ينسب إليه تشكل مصر في صورتها الحديثة- خمس ثورات شعبية كبرى مثلت كل منها لحظة فارقة كانت إعلانا عن مرحلة تاريخية جديدة بصفات ومعالم جديدة ومختلفة، كما تخللت تلك الثورات ست انتفاضات أخرى متوسطة.
بدأت المسيرة الثورية لمصر الحديثة عقب الغزو الفرنسي في العام 1798 وأثمرت تحقق الجلاء الفرنسي عام 1801 ثم الثورة الشعبية الملقبة بثورة عرابي عام 1882 ضد تعاظم النفوذ الأجنبي الفرنسي والبريطاني في مصر، ثم ثورة العام 1919 التي اندلعت ضد سياسات الاحتلال البريطاني وضد السياسات الاستبدادية للسلطة الملكية وأثمرت إعلان دستور 1923 ومن ثمارها أيضا اتفاقية 1936 بعد موجات طويلة من التفاوض مع الاحتلال، ثم ثورة عام 1952 وهى لم تتمثل فقط في حركة الضباط الأحرار بل يمكن القول أنها بدأت مبكرا في عام 1950 عقب إلغاء اتفاقية 1936 مع الاحتلال البريطاني واندلاع المقاومة الشعبية وحريق المؤسسات الأجنبية في القاهرة وأحداث أخرى انتهت بالالتفاف حول انقلاب الضباط الأحرار مما حدا بالبعض لتسميتها بالثورة المجهضة، ثم كان الانفجار الثوري الكبير في عام 2011 والذي لا زالت آثاره حاضرة وممتدة.
كما قلنا فإن هذه الحقب تخللتها أيضا انتفاضات شعبية متوسطة مثل المقاومة الشعبية لأهالي رشيد ضد محاولات الغزو البريطاني عام 1807. والانتفاضة المسلحة لقبائل مطروح بالتعاون مع السنوسيين ضد الاحتلال البريطاني عام 1915. وانتفاضة الطلبة عام 1935 ضد تلاعب الإنجليز والقصر الملكي بالحياة الدستورية في البلاد وانتهت الانتفاضة باستعادة دستور 1923 مرة أخرى، ثم انتفاضة 1946 التي قادها الطلاب والعمال وامتدت لأغلب مدن مصر لوقف المفاوضات السرية مع الإنجليز والمطالبة بالجلاء وإلغاء اتفاقية 1936 وشهدت هذه الانتفاضة الواقعة المشهورة حين فتح البوليس كوبري عباس أثناء عبور مظاهرة طلابية متجهة لقصر عابدين بأوامر من الإنجليزي راسل باشا حكمدار القاهرة آنذاك، ثم انتفاضة الطلاب في 1968 للمطالبة بمحاكمة قيادات الثورة المسئولين عن النكسة، ثم انتفاضة الطلبة والعمال مرة أخرى في 1972 للمطالبة بإنهاء حالة اللاسلم واللاحرب مع الكيان الصهيوني وإطلاق حرب شعبية لتحرير الأرض المحتلة وهي الانتفاضة التي شهدت أول اعتصام في ميدان التحرير وللمفارقة فقد كانت في يناير أيضا، ثم في يناير 1977 مرة أخرى اندلعت “انتفاضة الخبز” من العاصمة وامتدت لعدة مدن احتجاجا على السياسات الاقتصادية للرئيس الراحل أنور السادات المتأثرة بتوجيهات صندوق النقد الدولي على إثر تقديم الحكومة مشروعا للموازنة يتضمن رفعا للدعم مع زيادة في الأسعار.
إذن ما الذي يمكن استقراؤه من هذه المسيرة الثورية الممتدة؟
أهم ما نستنتجه هو أن هذه المحطات لا تمثل مجرد أحداث تاريخية تمت وانتهت لتبدأ أحداث أخرى، بل خط زمني متصل يعبر عن حالة أزمة يتعرض لها الاجتماع السياسي المصري منذ تلك الأثناء، وتعبر هذه المسيرة الثورية عن وجهين: الممانعة ضد الاستعمار المباشر وضد النفوذ الأجنبي من جانب، ومن جانب آخر مقاومة الاستبداد السياسي المحلي والسعى لتأسيس نظم حكم دستورية تتصالح فيها الأمة مع الدولة وتجد فيها تعبيرا عن هويتها وشخصيتها.
لذا؛ فإن البحث في الجذور الاجتماعية والثقافية لثورة يناير 2011 -وهو ما تتضمنه السطور التالية- وثيق الصلة بهذه الأزمة البنيوية الممتدة، كما أن موجة يناير نفسها وثيقة الصلة بهذه الثورة الممتدة.
ثورة يناير.. إبحار للخلف بحثا عن الجذور
يتميز حراك يناير 2011 عن غيره مما سبق ذكره بأنه يعد الأضخم كما وكيفا والأكثر اتساعا وتجذرا، كما يتميز بكونه جاء متزامنا مع موجة ثورية هائلة ضربت عواصم ومدن تسعة أقطار عربية في مطلع نفس العام، استمرت ولازالت آثارها ممتدة في خمسة منها وخفتت واحتُويت في بدايتها بطرق وأنماط مختلفة في أربعة آخرين. مما يعطي بعدا إضافيا في التحليل حيث لا يمكن فهم ثورة يناير باعتبارها مجرد ظاهرة محلية مقتصرة على السياق المصري، لكننا لضيق المساحة سنكتفي بمحاولة رصد الخطوط الأساسية لدوافع الثورة المتعلقة بالسياق المصري الداخلي، رغم ما فيها من تشابه شديد الوضوح مع الأزمة العربية عموما في ثلاثة خطوط رئيسية وهي:
أولا: تداعي شرعية الدولة وانهيار العقد الاجتماعي لجمهورية يوليو
اكتسبت جمهورية يوليو شرعيتها ابتداء من خطابها المعادي للاستعمار ومن الخطوات الجادة التي اتخذتها ضد التواجد البريطاني مستفيدة من الظرف الدولي آنذاك الذي شهد تراجعا حادا للقوى الاستعمارية التقليدية على إثر استنزافها في الحرب العالمية الثانية، ثم من صيغة للحكم مَفادها “الخبز مقابل الحرية” وهي صيغة ضمنية تعني التزام الدولة بدورها الرعائي المتمثل في ضمان الأمان الاقتصادي والاجتماعي للناس في مقابل الرضا بالاستبداد ونزع الحقوق السياسية.
وفي الحقيقة فإن دولة يوليو في زمن فتوتها قدمت الكثير من عوامل الأمان الاجتماعي مثل امتداد مظلة الدعم والمعاشات والتأمينات الاجتماعية، وكذلك التعيينات الحكومية في القطاع العام للشباب، فضلا عن توزيع ملكية الأراضي الزراعية على صغار الفلاحين وتأبيد عقود الإيجارات السكنية وغيرها من إجراءات. لكن مع مرور الزمن تبدت الآثار السيئة لتلك المرحلة، فقد اتسعت الطبقة الوسطى اتساعا هائلا لا تسنده روافع إنتاجية حقيقية، ولذا لم تكن هذه الطفرة قادرة علي الاستمرار والتطور مجتمعيا، كما لم تكن الدولة بطبيعة الحال في المراحل التالية قادرة على الاستمرار في الوفاء بالتزاماتها بنفس الدرجة من السخاء، وهو ما اضطر الدولة مرة أخرى للغرق في دوامة القروض والارتهان للتحولات الرأسمالية في العالم وفتح سياسات خصخصة القطاع العام على مصراعيها وتوقف التعيينات العمومية خاصة في السنوات العشر السابقة على انفجار يناير، ولا زالت الأزمة مستمرة حتى وصلت الدولة للحديث عن ضرورة تسريح جزء من موظفيها، ودعوة المواطنين للتبرع للدولة ومشروعاتها ولو بجنيه!
إذن لم يعد الدعم متاحا مقابل الحرية، بل لا حرية ولا دعم. ورئيس الدولة نفسه يقول لمواطنيها “محدش قالكم ان احنا فقرا أوي؟!” و”معنديش حاجة ببلاش” ويحسب على الهواء الأرباح البنكية للأموال التي يمكن دفعها لتطوير مرفق عام شديد الأهمية مثل السكك الحديدية بأنها أكثر نفعا من دفع تلك الأموال في تطوير مرفق لا يحقق مكاسب للدولة. وما نعتقده أن هذه الصيغة الجديدة المطروحة من قبل الدولة لن يمكن لمجتمع ما قبولها أو تحملها بأية حال، وكما كانت أحد الجذور الرئيسية لثورة يناير فلا زالت أحد المهددات الوجودية لصيغة الدولة المصرية المعاصرة كلها.
ثانيا: الانفجار الديموغرافي مع انسداد مسارات الحراك الاجتماعي
يصف جلال أمين الحراك الاجتماعي بأنه قدرة المواطنين على تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية بما يسمح لهم بالانتقال الطبقي رأسيا والتقدم إلى طبقة اجتماعية أعلى، فكلما كانت الفرصة متاحة لتحسين الأوضاع والظروف كان الحراك الاجتماعي حيويا. وحيوية الحراك الاجتماعي أحد أهم عوامل استقرار أى مجتمع من المجتمعات، فكلما ازدادت حدة انسداد مسارات الحراك الاجتماعي ازدادت حدة التوتر الطبقي في المجتمع، ومن ثم ازدادت احتمالات الثورة وفرصها.
والذي يزيد الأمر صعوبة هو أن يتزامن ذلك مع ازدياد في سقف التوقعات الاجتماعية للناس، فإذا كانت التوقعات العامة بشأن الأوضاع المعيشية منخفضة مثلا انخفضت معها خطورة انسداد الحراك الاجتماعي. لكن مصر منذ أواخر السبعينيات وعلى إثر سياسات الانفتاح الاقتصادي من جانب والهجرة لدول النفط من جانب آخر حدثت فيها “ثورة توقعات” متعلقة بارتفاع سقف التوقعات المعيشية. ظلت الهجرة المؤقتة -لدول النفط تحديدا- مُسكنا رئيسيا لقصور الدولة عن مواكبة تلك التوقعات وكذلك مُسكنا لأزمة انسداد الحراك الاجتماعي في عمومها، كانت الهجرة المصرية نحو الخليج متمثلة في خطين رئيسيين: هجرة حمَلة الشهادات المتوسطة والدنيا إلى العراق، وهجرة حمَلة الشهادات العليا إلى السعودية ودول الساحل الخليجي. مع مطلع التسعينيات توقفت هجرة أصحاب الشهادات المتوسطة والعمالة للعراق على إثر حرب الخليج، مما عمق من أزمة هذه الطبقة بدرجة بالغة ولا زالت. وأنا أعتقد أن هذه اللحظة مثلت ميلاد “طبقة الحرافيش” التي تميز المساحات السكانية المهمشة حول العاصمة والمدن ثم امتدت للأرياف، ولا زالت تتمدد بتسارع شديد في جنبات مصر كلها، وتمثل قنبلة موقوتة مرشحة لانفجار هائل ينتظر مستقبل مصر ويصعب على البعض تصور إلى أي مدى ستكون نتائجه!
على أي حال حتى لا نستطرد بعيدا عن سياق المقال، فقد مثلت أزمة فجوة التوقعات المتزايدة بين تطلعات الناس وأداء الدولة أحد الجذور الرئيسية لانفجار يناير كما مثلت ما يسمى بطبقة الحرافيش نفسها ذراعا ضاربا للثورة في أيامها الأولى وخاصة في لحظات المواجهة مع أجهزة القمع، وهو الدور المنسي والمهمش بعد أغلبية السياسيين والتكوينات الشبابية على مشهد الثورة. ولا زالت تلك الأزمة أيضا تمثل تهديدا وجوديا للاستقرار الاجتماعي-السياسي في مصر، وبصفة خاصة مع ازدياد المنحنى الديموغرافي في اتجاه الشباب، حيث تمثل شريحة الشباب المصري تحت 30 سنة قرابة 65% من السكان، وتحت 18 سنة قرابة 42% من السكان، وهذه الشرائح بطبيعة الحال هي الأكثر عرضة للتأثر بالأزمات السابق ذكرها.
ثالثا: أزمة الهوية والانشطار الثقافي
كثيرا ما يتساءل البعض؛ ما الذي يحرك تدافع المصريين نحو الثورة؟ القضايا المعيشية أم مسائل الهوية؟ وأنا أعتقد أن أية إجابة مختزلة للسؤال تتبنى أحد شقيه هي إجابة خاطئة، فثمة مركب بنائي يتضمن كلا العنصرين يقف خلف حراك المصريين، ومعنى كونه “مُركب” أنه لا يجمع بطريقة الجمع البسيط بين العنصرين بل جمع مركب، بمعنى كونهما لا ينفصلان عن بعضهما البعض، قد يزداد أحدهما إلحاحا وظهورا في أوقات ويتراجع الآخر نسبيا لكن لا يختفي أى منهما. فإذا افترضنا أن ثمة سلطة تصالحت مع الناس في جانب الهوية ولم تُلبِّ احتياجاتهم المعيشية فستظل احتمالات الثورة قائمة، والعكس أيضا صحيح.
ثم السؤال الأكثر أهمية؛ هل توجد أزمة هوية حقيقية في مصر؟ أم فقط نوع من المزايدات السياسية والاستقطابات غير المبررة؟ والجواب القاطع عندي أن أزمة الهوية في مصر حاضرة وممتدة وهي من أعقد أزماتها، قد يكون صحيحا أن تعقد الأزمة المعيشية في العقدين السابقين أدى إلى ارتفاع حَراجَة المطالب الاجتماعية لكن تظل قضية الهوية حاضرة في خلفية المشهد ومرشحة للانفجار دائما.
تتمثل أزمة الهوية في مصر، كما أتصورها، في شقين:
الأول: أزمة التكوين المؤسسي للدولة:
وأقصد به الإشكالية الناجمة عن فرض التحديث على النمط الغربي في بنية الدولة ومؤسساتها ومرجعيتها وآليات عملها، وهو ما تصادم بشكل مزمن مع الثقافة الموروثة والنمط الاجتماعي للشعب المصري، ونتج عنه نوعا من الانشطار الثقافي الهائل بين خطين ثقافيين يقسمان المجتمع المصري، خط ثقافي ينتمي للثقافة الموروثة ويعبر عن نفسه بشكل رئيسي في الحركة الإسلامية بمختلف مشاربها ودرجاتها، وخط آخر ينتمي للدولة ويرى في نخبتها الحاكمة تعبيرا عن نفسه طبقيا وثقافيا على حد سواء.
الثاني: أزمة التكوين الحدودي لمصر الحديثة (المركز في مواجهة الأطراف):
وأقصد بها أن خريطة مصر الحدودية التي تشكلت عبر القرن الفائت في محطات مختلفة تحمل في طياتها أزمة ثقافية من نوع آخر، وهي الملاحظة التي استفاض في شرحها جمال حمدان -رغم أنه لم يقدر لها قدرها- حيث لاحظ أن الطباع الاجتماعية لأهل سيناء تميل لأن تكون جزءا من الشام، وأهل الغرب يميلون لأن يكونوا جزءا من ليبيا، وكذا أهل أقصى الجنوب يميلون أن يكونوا جزءا من السودان (إن لم يكونوا جزءا من هوية مستقلة تفككت عبر الزمن بتفكك مملكة النوبة والقضاء على آخر تجمعاتها في العهد الناصري). يزيد من تعمق هذه الأزمة خلل معادلات التنمية في مختلف الحقب السياسية التي تميل للتركز الرأسي للثروة في المركز وتهميش الأطراف من خطط التنمية الحقيقية.
من الواضح أن الدولة المصرية لديها فطنة لأزمة الأطراف لكنها تعاملت معها بالمنطق الأمني كما لو كانت تشعر بأن تلك المناطق تمثل تهديدا يجب احتواؤه وليست جزءا من الدولة يجب دمجه عبر مقاربة شاملة تتبنى الأبعاد التنموية والثقافية والدمج السكاني من خلال إعمار تلك المناطق وتأهيلها، ويبدو تصرف الدولة مفهوما ومنطقيا في ضوء ما شرحناه من كونها أصلا تعاني من أزمة شعور دائم بالتهديد والانعزال الهوياتي عن قطاع واسع من الناس. لذا في سنوات الثورة كانت الأطراف أكثر ضراوة في التعامل مع الدولة وإن لم تبادر بإشعال فتيل الثورة، وازدياد حدة المنطق الأمني في التعامل معها خلال السنوات الأخيرة لن يؤدي إلا إلى زيادة هذه الضراوة في أقرب فرصة من تلك التي تتكرر بشكل مستمر كما رأينا في استعراض الخط الزمني لانتفاضات وهبّات المصريين.
الخلاصة
من المهم لفهم الثورات وتحليل أبعادها وجذورها العميقة دراسة واستيعاب الجدل النظري حول النماذج التفسيرية للثورات، وهي مساحة لا تزال تتطلب جهدا معرفيا كبيرا. كما يجب موضعة ثورة يناير في سياقها من تاريخ مصر الحديث حتى تنكشف الأبعاد العميقة والمتراكمة خلف لحظة الثورة وعنفوانها. ومع الاعتراف بمحدودية هذه المحاولة التي حاولت من خلالها استكشاف أبرز الجذور البنيوية الممتدة ثقافيا واجتماعيا لتلك الثورة، إلا أن الخلاصة الأكثر أهمية من محاولة فهم الماضي ودروسه هي أن تلك الأسباب والدوافع لا تزال حاضرة بل تتعاظم تدريجيا، مع انعدام احتمالية قدرة الدولة على حلها أو تجاوزها، وهو ما يزيد من الأزمة الوجودية للاجتماع السياسي المصري الحديث. أزمة لن تفلح معها الحلول السياسية الجزئية التي تتعاطى فقط مع طريقة إدارة الدولة وترتيباتها السياسية، بل تتطلب انقلابا اجتماعيا ضخما ينهي حقبة تاريخية بكامل مفرداتها ليدشن حقبة أخرى جديدة، لا أجزم بأن حدوث ذلك سيكون بالحتمية التاريخية، لكنني أجزم بأنه إن لم يحدث فستظل الأوضاع في مجملها من انهيار لانهيار أشد.
المصادر
- تاريخ مصر الحديث والمعاصر. محمد سهيل طقوش (٢٠١٧). ط. دار النفائس.
- ثورة ١٩١٩ في تاريخ مصر المعاصر.. طارق البشري (٢٠١٩). ط. دار الشروق.
- تشريح الانقسام.. مشكلة الثقافة، رفيق حبيب (٢٠١٧)
- نحن وأبعادنا الأربعة.. جمال حمدان (١٩٩٣). ط. مكتبة مدبولي.
- ماذا حدث للمصريين في خمسين عاما.. جلال أمين (٢٠٠٦). ط. دار الشروق.
- Johnston, H. (2011). States and social movements (Vol. 3). Polity.
- Skocpol, T. (1979). States and social revolutions: A comparative analysis of France, Russia and China. Cambridge University Press.
- Salem, S. (2020). Anticolonial afterlives in Egypt: the politics of hegemony (Vol. 14). Cambridge University Press