يعاني الاقتصاد المصري من أزمات هيكلية تبدو أكبر من أية محاولة لاختصارها واختزالها، أو حتى الوصول لنظرية مفسرة لوضعية التنمية المتعثرة في الحالة المصرية من قبل العديد من المفكرين والمنظرين الكبار، إلى الحد الذي بدت معه كافة محاولات إحداث تنمية عبر القرن الأخير مشوهة وغير مكتملة أو غير مجدية في حلحلة معضلاته سواء على المستوى الكلي أو الجزئي.
كتب جلال أمين كثيرا في محاولات فهم الاقتصاد السياسي المصري، وكان آخر كتاباته “ماذا حدث للمصريين؟”، كما كتب الراحل محمود عبد الفضيل حول هذه المعضلات عدة كتب محاولا تفكيك أزمات التنمية، وكتب عمرو عادلي مؤخرا كتابا قيّما حول ما يسميه الرأسمالية المتصدعة أو المتشققة cleft capitalism.
انطلق هؤلاء من توجهات ومدارس فكرية مختلفة لمحاولة وصف وفهم أجزاء الفيل الضخم الذي يمثل معضلات مصر الاقتصادية التنموية، أو بالأحرى معضلات تشابك الاقتصادي والسياسي في تناول الاقتصاد المصري، طارحين أسئلة عدة من بينها:
- لماذا يعيد إنتاج الفقر واللامساواة ولا يحقق التنمية؟
- كيف يحقق النمو في بعض الفترات من دون تنمية حقيقية؟
- لماذا لا تزال معضلات الفقر والبطالة والتضخم مزمنة وتتفاقم عبر عقود؟
- ما الذي يجعله بهذا القدر من الاعتمادية على الخارج؟
- لصالح من يعمل مثل هذا الاقتصاد؟
- كيف يتصف بالكثير من خصائص الاقتصاد الريعي من دون ريع حقيقي؟
لا يزعم كاتب هذا المقال أنه يستطيع في الوقت الراهن أن يقدم أكثر مما قدم هؤلاء، لكنه يمكنه أن يقدم باختصار توصيفا لمعضلات الاقتصاد وفقا لما يكاد يجمع عليه هؤلاء ولما يشير إليه الواقع إلى حد كبير.
ميراث مبارك وفشل نظرية التساقط النيوليبرالي
وفقا لكتاب أنجيلا جويا “جذور الثورة”، فإن عملية التحول النيوليبرالي التي خلفها نظام مبارك تجد لها جذورا في العهد الناصري، حيث تمت تهيئة المسرح لصعود الطبقة النيوليبرالية، بهدف استقلال مصر فعليًا عن القوى الاستعمارية السابقة.
أنشأ عبد الناصر اقتصادًا مخططًا للدولة، وأدخل عدة إصلاحات أسفرت عن تأميم الشركات وإعادة توزيع الأراضي وتعزيز الحماية الاجتماعية للطبقات العاملة المصرية، لكنه رغم ذلك أخفق في كسر شوكة مُلاك الأراضي؛ بسبب عدم قدرة الحكومة على تنفيذ الإصلاحات في جميع أنحاء مصر، حيث تشير معالم التاريخ الاقتصادي لمصر، منذ الاستقلال الرسمي للبلاد في 1922 وصولًا للإطاحة بمبارك في 2011، إلى أن بطالة الشباب وعدم المساواة في توزيع الثروة كأسباب لاندلاع ثورة يناير هي أعراض جانبية لأمراض واختلالات هيكلية مزمنة في اقتصاد يعجز نمطه الإنتاجي وعلاقته بالخارج ومصادر تمويله عن تخليق أية عوامل استقرار وتنمية حقيقية بل ويجعله عرضة لتقلبات الاقتصاد الرأسمالي العالمي مع استفادات هامشية من سياسات الاندماج فيه بشكل يكرس هذه الأزمات.[1]
في العهد الناصري كانت السياسات الاقتصادية والخطط التنموية تستهدف إعادة التوزيع، وبما أن الثورة قامت ضدَّ نظام إقطاعي فاسد وظالم فإن عليها أن تقوم بالاستيلاء على أملاك هذه الإقطاعيَّات وإعادة توزيعها على الشعب المؤيِّد لحركة الجيش.
فمن ناحية؛ يؤدِّي ذلك إلى خلق شرعية جديدة بإعادة التوزيع تلك، ومن ناحية أخرى، يكسر شوكة مؤيِّدي النظام القديم والطبقة الاجتماعية الموالية له بسلبهم ممتلكاتهم وتوزيعها، لا يتبيَّن المرء ما إذا كانت هذه السياسات نابعة من توجُّهات أم مجرَّد إجراءات لكسب الشرعية السياسية ومغازلة القطاع الأوسع من المصريين الذين يعملون في قطاع الزراعة ويسكنون في الريف، فقد كانت المسألة الزراعية مطروحة بقوة منذ العشرينيات وحتى الأربعينيات نتيجة للفقر المتزايد في الريف، وسوء توزيع الملكية، وتحكُّم كبار الملَّاك في الاقتصاد الزراعي المصري وفي الحياة السياسية.
كما كانت التنمية تستهدف أيضًا العدالة الاجتماعية، فيرى عبد الناصر في كتابه “فلسفة الثورة” أن “الشعب بحاجة إلى ثورة اجتماعية تتصارع فيها طبقاته ثم يستقر الأمر فيها على ما يحقِّق العدالة لأبناء الوطن الواحد”[2]، ومن هذا المنطلق كانت السياسات الاجتماعية حاضرة مهما اختلف البعض مع النظام الناصري ونتائج سياساته الكارثية في المجالات الأخرى.
أي أننا أصبحنا بتعبير المفكر الراحل “سلامة كيلة” إزاء نمط اقتصادي يحقق مركزية للثروة في يد الدولة التي يحكمها الجيش وقطاعها العام وبيروقراطيتها التي تتوسع لاحتواء البطالة، وقد حاول هذا النموذج الناصري اقتفاء بعض آثار الاقتصاد الاشتراكي السوفيتي حيث قام على تحقيق بعض من المهمات مثل الإصلاح الزراعي وبناء الصناعة، والتخطيط المركزي، وفرض التعليم والعلاج المجانييْن، وتحقيق العمالة الكاملة عبر التوظيف في أجهزة الدولة وليس في الإنتاج فقط، والتزام شروط العمل والضمان الاجتماعي وضمان الشيخوخة في محاولة للتحلي ببعض مظاهر العدالة الاجتماعية.[3]
أسس السادات لتحرير مطلق للاقتصاد السياسي المصري سواء من قبضة الدولة أو قبضة المصريين أو من التبعية للمعسكر الشرقي الذي راهن على أفوله، ورهن الاقتصاد المصري لقوى السوق ومراكزه في الغرب الذي يحتكر ٩٩٪ من قواعد اللعبة في الاقتصاد أو السياسة بالنسبة للرؤية الساداتية، وإن كانت التطورات الداخلية المتعلقة بالحرب أو بالأزمات الاقتصادية والسياسية المحلية بعدها لم تمهله لتحقيق هذه الرؤيـة، لكنه خلف بعده خير من يقوم بهذه المهمة وهو نائبه حسني مبارك ليجهز على ما تبقى من آثار دور الدولة وقطاعها العام في الاقتصاد.
وقعت مصر كبقية الدول العربية في معضلة تركز الشركاء، بحيث نجد أن الشريك الاقتصادي الأول للبلدان العربية هو الغرب ممثلا في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ما يجعل هذه البلدان تدور كالعديد من الدول النامية في ظل الغرب الرأسمالي الذي أصبح مصدرا رئيسيا للإمداد بالمال والتكنولوجيا الحديثة والسلع الاستهلاكية المعمرة بالشكل الذي أدى لربط اقتصاديات معظم بلدان العالم الثالث ربطا وثيقا بعجلة النظام الاقتصادي الدولي الخاضع للسيطرة الغربية، كذلك فإن معظم مديونيات تلك البلدان هي للدول الغربية والمؤسسات الدولية الـتـي تـسـيـطـر عـلـيـهـا تلك الـدول.[4]
اعتمد اقتصاديو عهد مبارك سواء المجموعة الاقتصادية في الوزارة أو الخبراء الاقتصاديين المؤيدين له، على أن نظرية التساقط كفيلة بتحقيق النمو وأن الاهتمام بقطاع واحد كرافعة للاقتصاد بإمكانه جر المؤشِّرات الاقتصادية لأعلى بوتيرة منضبطة، وأن عوائد النمو سوف تتوزَّع تلقائيًّا على الجميع، فكان القطاع الرافعة هو القطاع الخدمي بما يرتبط به من عائدات العبور في قناة السويس والسياحة وحصيلة بيع شركات القطاع العام والخدمات اللوجستية المرتبطة بقطاع الاتصالات.
ثم بعد صعود المجموعة الاقتصادية النيوليبرالية بقيادة جمال مبارك بدأ عهد المضاربات الكبير في البورصة والعقارات، باعتبار القطاع المالي والمصرفي هو قاطرة هذا الاقتصاد نحو نموٍّ مطَّرد، في سبيل ذلك أُهملت الزراعة والصناعة، وباتت الضرائب والديون المصدر الرئيسي لتمويل المشروعات والاستثمارات الحكومية، وتمَّ اعتبار دعم الفئات الفقيرة عبئًا على الموازنة العامة، في حين أن دعم الصادرات فرض عين لجذب الاستثمار الأجنبي وتحسين مؤشِّرات الاقتصاد الكلي.[5]
والوصف الدقيق للأوضاع التي خلَّفها نظام مبارك أنه نظام سلطوي يعتمد في استقراره علي دولة شبه ريعية حظيت بتدفُّقات مالية هامة من النفط، وعائدات قناة السويس ومن المساعدات الخارجية، وعندما انهارت هذه الإيرادات الريعية قام النظام بإعادة ترتيب أولوياته لصالح تقوية أجهزته الأمنية وزيادة مواردها على حساب الفقراء، وظلَّ طلبُ المساعدات الخارجية هو أحد أهم أنشطة نظام الحكم في مصر، وهي وضعية أدق وصف لها هو تعبير الراحل سامر سليمان “النظام القوي والدولة الضعيفة”.[6]
الثورة ومحاولة غير مكتملة لهدم القديم دون أفق لبناء الجديد
جاءت الثورة في ظل انسداد الأفق الاقتصادي والسياسي للإصلاح إلى الحد الذي أصبح يستوى معه الوقوف في وجه الأمن وبطشه مع البقاء في المنازل من حيث النتيجة وانتظار الموت بالفقر والجوع والبطالة التي كانت مؤشراتها متفاقمة، ورغم تعمد نظام مبارك تجريف النخب السياسية المصرية والأحزاب من أية كوادر إلا أنه جرت العديد من محاولات طرح رؤى بديلة للسياسات السائدة.[7]
كانت مظاهر الاستياء من السياسات الاقتصادية والاجتماعية منعكسة على كثير من الخطابات السياسية المتداولة للتيارات المختلفة عبر الفترة من فبراير ٢٠١١ وحتى يونيو ٢٠١٣، كانت مفاهيم العدالة الاجتماعية وبعض أجزاء السياسات التي تصب في اتجاهها حاضرة في الجدل العام والأكاديميا وحتى برامج الأحزاب الجادة التي خرجت من رحم الثورة وقواها الحية في ذلك الوقت على حداثتها، وكذلك الخطابات الحكومية المختلفة، وصولا لنقد أكاديمي متميز من بعض مراكز الفكر والرأي للمؤشرات الاقتصادية الكلية التي تستخدمها الحكومة في التعبير عن الأوضاع الاقتصادية.[8]
رغم ذلك بقيت أزمات التمويل الدولي والتوجه العام للاقتصاد ودور الدولة والمؤسسات المختلفة العامة والخاصة وتأثير القطاع الخارجي فيه ونمط الإنتاج وعدم توازن مساهمة القطاعات المختلفة في التنمية والقدرة على تخليق فرص العمل وتحسين جودتها وتحقيق مؤشرات هامة للعدالة الاجتماعية والعدالة الضريبية، وعدم القدرة على تحسين الخدمات العامة أزمات بعيدة عن أية حلول جذرية.
وعلى كلٍّ فإن سردية الانتفاضات العربية وضمنها الثورة المصرية كما يشير “هشام جعفر” بحثت عن عقد اجتماعي جديد يتم به إعادة بناء الوطن بنخب جديدة، ويستند هذا العقد إلى مقومات ثلاثة: أولها الحرية-الديمقراطية، باعتبارها اسم جامع لكثير من القيم وفي مقدمتها التعددية، وثانيها العدالة الاجتماعية-التوزيع العادل للموارد والثروة، والتي جعلت من أولوية المواطن العربي خطابات المعاش وليس جدالات الهوية ومطلقات الأيديولوجيا، وثالثها تحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية.[9]
النظام الحالي: محاولة إحياء دولة يوليو وتجديدها من دون عدالة
على الرغم من محاولة البعض التماس بعض مظاهر التشابه بين النظام الحالي ونظام عبد الناصر، وهي محاولة عبثية في مضمونها ولا تشتمل على أي منطق سوى الاتفاق فقط في الخلفية العسكرية والرغبة في التحكم بكل خيوط السلطة في يد القائد والزعيم، فإن لديها بعض الوجاهة من منطق رأسمالية الدولة القائدة، لكنها كانت تعمل بمنطق يقلل من حدة التفاوت الاجتماعي واتخذت خطوات جريئة في هذا الاتجاه.
انتقل النظام الحالي من بقايا اقتصاد شبه مخطط تلعب الدولة فيه دورا تنظيميا لصالح كبار رجال البيروقراطية بالشراكة مع الجيش، إلى اقتصاد يحاول الجيش التحكم بمفاصله وإدارته ولعب دور الوسيط في استكمال بيع قطاعه العام وفق منظور شديد الضيق للأوضاع المحلية والإقليمية، إذ يفترض دائما أن للمواطنين في الداخل القدرة على تمويل طموحات القيادة العسكرية من جيوبهم كما يفترض في الخارج أن يساعده في هذا على الدوام لأنه يحارب الإرهاب والتطرف والهجرة غير الشرعية نيابة عن الجميع ولصالح الجميع أو هكذا يزعم.
بينما يستطيع إجبار المواطنين على تمويل مشروعاته وديونه الكبيرة ويقوم بترقيع السياسات الضريبية لزيادة الحصيلة، فإننا بصدد ملمح مستمر يتمثل غياب العدالة الضريبية، الناجم عن عدم قدرة الدولة في مصر على تحصيل الضرائب المباشرة، وبالتالي توزيع الأعباء الضريبية بشكل عادل، وهذا الأمر مؤسسي لأنه يتجاوز الفوارق بين سياسات النظام الناصري إبان اشتراكيته وما تلاه من نظم صنفت على أنها ذات نزوع رأسمالي بل ونيوليبرالي.[10]
الأولوية الأولى للتنمية الاقتصادية في مصر هى لتنفيذ مشروعات الرئيس التى هى بالفعل الغايات الأهم، وجوهر هذه الرؤية هو الاستقرار السياسى للنظام ومحاولة كسب الشعبية، وتعزيز القوة الشاملة للدولة المختزلة في النظام السياسي، مع اللحاق بالغرب، وبرغم محاولة البعض توصيف نموذج تنموي لما يتبع عبر ربطه بالتنمية المتوازنة والتي توزع الاستثمارات على عدد كبير من المشروعات فى ذات الوقت، ربما يفيد ذلك فى التخفيف من حدة البطالة، ولكنها لا تحدث نقلة نوعية للاقتصاد لأن كل ما يحصل عليه كل قطاع لا يكفى لتحقيق هذه النقلة.
ولا يتفق ذلك مع استراتيجيات التنمية الناجحة في الدول الصناعية الجديدة التى كانت قد انتقلت من قطاع إلى آخر، حتى أمكنها إنجاز تحول هيكلي في اقتصادها وضعها في مكانة أفضل ضمن التقسيم الدولي للعمل، بل إن توزيع الاستثمارات ومعدلات النمو فى الوقت الحاضر فى مصر لا يوحي بإمكانية الخروج من قبضة الاقتصاد الريعى إلى وضع الاقتصادات الصناعية الجديدة، حيث الأولوية لا تزال للاقتصاد الخدمي بينما الصناعات التحويلية والزراعة لا تزال معدلات نموها ضعيفة جدا.[11]
بأدوات قمع وإفقار وقهر أكثر نيوليبرالية من نظام مبارك ومن نظام ناصر نفسه، انطلق النظام الحالي كالقطار في تنفيذ خططه للتفرد بالسلطة والحكم وعمليات توزيع وإعادة توزيع الثروة.
جاء السيسي مدعوما بمصادر تمويل دولي لاقتصاد نظامه مرهونة بيد القوى الإقليمية إلى حد بعيد، بحيث أصبحت مغازلة القوى الصغرى في الإقليم والقوى الدولية جزءً من الأخبار اليومية الاعتيادية وساحة للتندر، حيث أصبحت “مصر قريبة” ليست فقط كفتاة لعوب تحاول اجتذاب الثري العربي وتبذل نفسها لمن يدفع أكثر، بل أصبحت تخاطب المواطن في الداخل نفسه بمنطق من يدفع سيريه النظام ما لم يره في عمره، بحيث أصبح المواطن يدفع بشكل فوري تكلفة الخطط السياسية والاقتصادية للنظام وليس على مراحل أو بشكل آجل.
إذ تضاعفت أسعار السلع وانهار سعر العملة وتزايد الفقر بوتيرة غير مسبوقة في السنوات الست الأخيرة، بالتوازي مع تزايد المعضلات الخارجية للنظام المرتبطة بالديون والتي تزيد عن أربعة أضعاف ما كانت عليه عشية سقوط مبارك، وتحولها لديون سيادية بمعدلات فائدة غير مسبوقة بحيث يدفع المصريون لخدمتها وفوائدها أكثر بكثير من الإنفاق الحكومي على صحتهم وتعليمهم وسكنهم، وترهن الحاضر والمستقبل للدائنين.
الخيط الناظم بين هذه الأنظمة منذ أواخر الستينيات وحتى الآن باستثناء الفترة الثورية اليتيمة بأطروحاتها المتناثرة وغير المكتملة عن الاقتصاد البديل والمسارات البديلة، هو تفاقم أزمات التمويل الدولي للاقتصاد المصري، وغياب العدالة الضريبية وتدهور الخدمات العامة، وانعدام القدرة على بناء رأسمالية وطنية حد استدعاء طلعت حرب وتمني رجوعه إعلاميا مع اتباع سياسات مناقضة لما نادى به تماما، وهي الأزمات التي تأثرت كثيرا بالتغيرات في النظامين الدولي والإقليمي كما تأثرت بالتوجهات السياسية للقيادة المصرية على مدى عقود.
لا يعني هذا أن البحث عن بدائل حقيقية للنظام الاقتصادي السائد في مصر كما في المنطقة العربية كان أمرا غائبا، بل إنه جزء هام من السجال الأكاديمي والبحثي في هذه المنطقة خلال عقود وبشكل مكثف خلال عقد ما بعد ثورات الربيع العربي.
خاتمة
يمكن القول أننا إزاء اقتصاد لديه أزمة تمويل هيكلية، ولديه أزمة تشغيل هيكلية، وأزمة تضخم وأزمة عدالة غائبة ومغيبة بنيويا، وكل تلك الأزمات مرتبطة بشكل أو بآخر بنمط الإنتاج الذي يراد لمصر أن تسلكه في إطار نظام عالمي شديد التقلب والتغير، بينما هي مثقلة بهموم بيروقراطية محلية ومدينة لذلك النظام بشكل يكاد يجعل من الدولة المصرية دولة متحللة، فيما ينتظر من أبنائها وجيرانها مزيدا من العطاء.
في التحليل الأخير، إننا بصدد معادلات للاستقرار السياسي والاقتصادي للنخبة أو الطبقة الحاكمة تتبدل هذه المعادلات وفقا لتبدل شخوص من بالسلطة، إلا أن الرابط العام فيما بينها هو الفشل بدرجات متفاوتة في ربط المواطن بالتنمية وإيصال ثمارها له بشكل يضمن مشاركته في العملية السياسية بنفس الجهد الذي ينخرط به في الاقتصاد بشكل أو بآخر.
هي إذن أنظمة تتوارث مشكلات ومعضلات هيكلية دون قدرة حقيقية على التفاعل معها، إلا بما يفاقم هذه المشكلات ويورثها لمن بعدها أكثر تعقيدا واستعصاءً على الحل، وبقدر ما ترتبط الأزمة بالأنظمة وتوجهاتها السياسية والاقتصادية وأدواتها للحكم، فإنها تنعكس على الجماهير المصرية وعلى قدرتها على تطوير بدائلها لتجاوز هذه الأنماط أو للتعايش معها ومع الاختلالات الناجمة عنها.
كما أننا بصدد تعثر بنيوي لمحاولات التحرُّر الوطني اقتصاديًّا، إذ لم تصحبها محاولة موازية للتنمية السياسية المستقلَّة، سواء عبر بناء نموذج سياسي مغاير لنمط الديمقراطية التمثيليَّة المصاحبة لنظام اقتصاد السوق الحر، أو عبر بناء مؤسسات سياسية تعدُّدية حقيقية بديلًا عن تلك التعدُّدية الشكلية التابعة للملك في العهد السابق على ثورة يوليو، أو تلك الكرتونية التي أُنشئت في عهد مبارك ومستمرة في العهد الحالي.
كما لم تفلح مقولات الصمت في إسكات الشارع للأبد وإبعاد المواطنين عن السياسة بالكلية، رغم وجود شرعية سياسية كبيرة لنظام يوليو إذا ما قورنت بما هو عليه الوضع حاليا، ومن ثم المقولات التي تمجد بعض النماذج الأكثر استبدادا وقدرة على تدوير النخبة داخل الطبقة الحاكمة مثل الصين وروسيا قد لا تكون مفيدة كثيرا في الحالة المصرية، وبالتالي تبقى الأسئلة الهامة للتنمية في مصر وأزماتها متروكة من دون إجابة، وإذا كانت السلطة تدعى أنها لا تملك رفاهية مراجعة تلك السياسات، فإن المعارضة في وضع الركود الحالي عليها أن تعيد التفكير في كل هذه الأسئلة وإجاباتها قبل أن تفكر في الوصول للسلطة.
المصادر
[1] Joya, Angela. The Roots of Revolt: A Political Economy of Egypt from Nasser to Mubarak. Cambridge: Cambridge University Press, 2020.
[2] جمال عبد الناصر، فلسفة الثورة، (القاهرة: بيت العرب للتوثيق العصري، 1996)، ص 33، متاح على موقع ناصر عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2m5y1E0
[3] سلامة كيلة، العدالة الاجتماعية والاقتصاد البديل، في سلامة كيلة وآخرون، الاقتصاد البديل: المفهوم والقضايا في المنطقة العربية، منتدى البدائل العربي للدراسات،٢٠١٦، صـ١٣-٤١، https://bit.ly/3tLEjb4
[4] محمود عبد الفضيل، النفط والمشكلات المعاصرة للتنمية العربية، الكويت: سلسلة عالم المعرفة العدد ١٦، ١٩٧٨، ص ١٣، https://bit.ly/3MIV7Im
[5] عمر سمير، درجات وأنماط التنمية في ظل أنظمة اقتصادية مختلفة عبر ستين عامًا، القاهرة مركز الحضارة للدراسات والبحوث، ٢٩/٢/٢٠٢٠، https://bit.ly/3bOLF41
[6] سامر سليمان، النظام القوي والدولة الضعيفة: إدارة الأزمة المالية والتغيير السياسي في عهد مبارك، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط3، 2013)، ص ص 280-291.
[7] على سبيل المثال استحدثت وحدة للدراسات في الجامعة الأمريكية بالقاهرة تعد عنوان بدائل السياسات، وطرحت عدة مراكز بحثية دراسات قيمة حول السياسات البديلة، يمكن على سبيل المثال مراجعة الدراسات في هذا الإصدار سلامة كيلة وآخرون، الاقتصاد البديل: المفهوم والقضايا في المنطقة العربية، منتدى البدائل العربي للدراسات،٢٠١٦، صـ١٣-٤١، https://bit.ly/3tLEjb4
[8] محمد سلطان وآخرون، في البحث عن مؤشرات اقتصادية بديلة، القاهرة منتدى البدائل العربي للدراسات، دار المرايا، ٢٠١٩، https://bit.ly/3sR0a1i
[9] هشام جعفر، في النموذج الانتفاضي العربي: قراءة في ملف «الربيع العربي»، بتاريخ ١٣/١٢/٢٠٢١، https://bit.ly/372pWqU
[10] عمرو عادلي، العدالة الضريبية: قضية مؤسسات لا سياسات، كارنيجي بيروت، بتاريخ ١٨/٤/٢٠١٧، https://bit.ly/3hRbPqw
[11] مصطفى كامل السيد، الاقتصاد السياسي للتنمية فى مصر: رؤية أولية، جريدة الشروق، بتاريخ ٢١/٦/٢٠٢١، https://bit.ly/3hMzecM
تعليقات علي هذا المقال