” الثورة قوية كالفولاذ، حمراء كالجمر، باقية كالسنديان، عميقة كحبنا الوحشي للوطن”
تشي جيڤارا
شهد العالم العربي منذ نهاية عام ٢٠١٠ أحداثا كانت تعتبر فيما سبقها ضربًا من الخيال، بل كانت غير متخيلة أصلا، إذ اندلعت ثورات، وقامت حركات، وسقطت حكومات، ثم انطلقت ثورات مضادة سعت لوأدها في مهدها، وتمكنت من استعادة الزمام وتحكمها بمقاليد الأمور.
كانت الثورات حدثا غير متوقع كعادة الثورات التي قلما تكون مخططة ومرسومة قبلا، كما كانت حدثا متألقا ونبيلا أعاد الأمل للنفوس في مستقبل أكثر إشراقا، وأقل ظلما وظلمة.
لقد كانت الثورات كذلك حدثا كاشفا أماط اللثام عن الإمكانات والقدرات الكامنة في ثنايا الوطن ورحمه، فكشفت عن أفضل ما فيه، لكنها كذلك كشفت عن أسوأ من فيه.
ثمة أسباب هيكلية عميقة ممتدة تاريخيا للثورات العربية.
سياسيا؛ تعاني الدول العربية من انعدام الديمقراطية، وامتداد القمع وتقييد الحريات، خاصة في ظل تمديد قانون الطوارئ لأمد غير محدود، بما يشكل تأصيلا وترسيخا لحالة الاستثناء، كما تعاني الدول العربية من تغول الدولة والهشاشة المؤسسية، والضعف الشديد للأحزاب السياسية، والنقابات المهنية، ومنظمات المجتمع المدني.
اقتصاديا؛ تتقلص الطبقة الوسطى باستمرار، وتزداد الأحوال المعيشية سوءً يوما بعد يوم، إضافة للفساد المستشري في جنبات ومفاصل المجتمع والدولة.
فضلا عن ذلك؛ تعاني الدول العربية من عسكرة للدولة والمجتمع وهي حالة تكاد أن تكون عامة وشاملة، مع تنوعات لهذه العسكرة وتقاطعات مع القبلية والطائفية وغيرها، وتسيطر على الدولة العربية المعسكرة أوليجاركية حاكمة، تعد بمثابة جماعة وظيفية تحمي مصالح الخارج، فيما تعزز من مكاسبها الذاتية ونهبها لثروات الوطن.
كذلك فإن انسداد الأفق، وانعدام الأمل في الإصلاح أو التغيير من داخل النظام، عامل مهم من عوامل اشتعال الثورات.
ولكن هل يعني استمرار أسباب الثورة استمرار الثورة ذاتها؟ إذا كنا نقصد بالحالة الثورية موجة ثورية محددة، فإنه بطبيعة الحال لا يمكن المجادلة باستمرار الحالة الثورية العربية التي اندلعت أواخر عام ٢٠١٠، صحيح لقد انتهت هذه الموجات وتم إخماد نارها وقطع جذورها، لكن هذا لا يعني انتهاء الثورة كمطلب وحلم، أو بالأحرى لا يعني انتهاء أسباب الثورة ومقتضياتها، إذ لا زالت ذات الأسباب البنيوية والعوامل الهيكلية مستمرة، بل وتزداد وطأة كل يوم.
لذلك فإنه يمكن الجزم باندلاع موجة، أو موجات ثورية جديدة، وإن كان من الأكيد عدم قدرتنا على التنبؤ بوقتها وكيفيتها وصيرورتها، ولعل من أهم أسباب ذلك انفتاح الخيال السياسي على إمكانية التغيير، واختبار مذاق الحرية، ولو لبرهة من الزمن.
لقد كان الربيع العربي حدثا استثنائيا في التاريخ الحديث لمنطقتنا العربية والإسلامية، ومن المهم الالتفات إلى أنه برغم إخماد موجاته الأولى، وفت عضد جيل الربيع العربي، فإن ما حدث قابل دوما للاستدعاء من جديد والبناء عليه، وإنتاج جيل ثوري جديد يتجاوز مآزق ومثالب الحراك الأول.
وثمة مآزق ومثالب كثيرة وقعت فيها واتسمت بها الثورات العربية، نركز في هذا المقال على فكرة “الذخائر السياسية” للفاعل الثوري والسياسي (Political Repertoires)، ونضرب مثالا بميدان التحرير في الحالة المصرية.
ميدان التحرير: نقطة ضعف أم قوة؟
يعرف تشالز تللي الذخائر السياسية -ويمكن فهمها كذلك على أنها “خزان الخبرات”- بأنها “الأنساق المحدودة والمألوفة والمخلَّقَة تاريخيا، المتعلقة بالحراك المؤدي لصناعة الادعاءات، والتي في أغلب الظروف تحدد إلى درجة كبيرة الوسائل التي ينخرط الناس من خلالها في السياسة التنازعية”[1].
فالذخائر السياسية تعني ببساطة تصورات وأدوات ومسارات الفعل السياسي والثوري على المستوى الاستراتيجي والتكتيكي، ومن المهم للغاية دراسة مسألة الذخائر السياسية ودورها المركزي في السياسة التنازعية، إذ يمكن لنا رؤية وإدراك أخطاء أساسية للثورة المصرية من منظور فشل أو غياب مجموعة من الذخائر السياسية المحددة[2]، والتساؤل حيال القوة والذخائر والأصول السياسية التي امتلكتها أو كان يمكن أن تمتلكها الثورة.
كانت القوة السياسية والاجتماعية للثورة تنبع من طموح الناس للتغيير السياسي والحرية والعدالة والعيش الكريم، لكن على مستوى الذخائر السياسية فإن الذخيرة الوحيدة التي امتلكتها الثورة كانت احتلال ميدان التحرير.
كان هذا الفعل ناجحا جدا في البداية، إذ فاجأ النظام وأدى في النهاية لرحيل مبارك، لكن القوى السياسية والثورية أساءت استخدام هذه الذخيرة السياسية وحمّلتها فوق طاقتها، مما أفقدها الزخم وأدى في النهاية لاستنزاف قوة هذه الذخيرة السياسية، وإفراغها من معناها.
كان ميدان التحرير مشروعا تشاركيا، ويوتوبيا متحققة على أرض الواقع، ومثّل في الوقت نفسه مساحة مادية واجتماعية ورمزية، كما تحول في النهاية إلى رمز وقلب الثورة المصرية.
برز ميدان التحرير باعتباره الذخيرة السياسية المركزية للثورة، إذ كان الصوت والمساحة المركزية للثورة، والنقطة التي تلاقت عندها مجموعة من الذخائر السياسية الأخرى.
ويمكن النظر إلى ميدان التحرير باعتباره عدسة يمكن منها النظر إلى نجاحات وإخفاقات الثورة، مثلا كان التحرير يعبر عن مفارقة أساسية: فمن جهة برز التحرير باعتباره الصوت المركزي للثورة، وهو ما ضخم من حجم الحدث، وساعد في التعبئة والحشد، لكن من جهة أخرى؛ ركز التحرير الثورة في مكان واحد، وهو ما حجَّم من التعبئة والحشد في أماكن أخرى، وقزَّم أصواتا وقضايا أخرى داخل التحرير نفسه، كما منع تطوير أجندة ثورية أكثر راديكالية.
لقد صعد التحرير كذخيرة سياسية وسقط في فترة زمنية قصيرة، كما انهارت فعاليته نتيجة أن كثيرا من الأجزاء المهمة التي جعلت هذه الذخيرة ناجحة في المرة الأولى’ كانت مفتقدة خلال التوظيف المتكرر لتلك الذخيرة.
كاستراتيجية؛ تحوّل احتلال ميدان التحرير من كونه نمط الحراك المركزي للثورة المصرية وصورتها الذهنية الأساسية، إلى استراتيجية غير ذات كفاءة اعتبرت رمزا على فشل الثورة خلال الفترة الانتقالية ٢٠١١-٢٠١٢.
ساهمت مجموعة من العوامل في تعزيز ونجاح التحرير كذخيرة سياسية، من جهة أولى؛ كان للميدان في حد ذاته أهمية تاريخية وجغرافية بارزة، ومن جهة ثانية؛ برز التحرير باعتباره التتويج النهائي للثورة المصرية، فمثلا كانت كل المسيرات تنطلق كي تنتهي إلى ميدان التحرير.
ومن جهة ثالثة؛ كان تنظيم ميدان التحرير فريدا جعله جمهورية كاملة، ومن جهة رابعة؛ كان الميدان نتيجة تنظيم وقيادة مجموعة متعددة ومتنوعة من التحالفات والحركات السياسية والطبقية والشبابية، وهو ما جعل التنظيم بالغ الكفاءة، وجعل من التحرير ذخيرة سياسية بالغة القوة.
ومن جهة خامسة؛ وللمفارقة فإن استجابة النظام عززت من مركزية وصعود ميدان التحرير، إذ ركزت استراتيجيات النظام المتنوعة الهادفة لقمع الحراك الثوري على ميدان التحرير خلال الثمانية عشر يومًا.
كيف فقد الثوار ميدانهم؟
استمر تصاعد الحشد والتعبئة في الميدان عقب تنحي مبارك في فبراير ٢٠١١، وتحوّل إلى استراتيجية محبذة خلال الفترة الانتقالية، وكان دوما ما يتم وسم العودة للميدان باعتبارها عودة للثورة من جديد، ولكن لم يكن لأي من هذه المحاولات فرصة النجاح في إعادة إنتاج مشهد الثورة الأول للتحرير كذخيرة سياسية، سواء في حجمه، أو طاقته، أو فعاليته.
ومنذ ١٢ فبراير ٢٠١١ وحتي ٥ ديسمبر ٢٠١٢ شهد الميدان عشر اعتصامات، لم يكن أي منها ذا تأثير سوى ثلاثة فقط، وكانت الاعتصامات في التحرير التي أعقبت تنحي مبارك أصغر على نحو دراماتيكي من الاعتصامات الأولى في الميدان خلال بداية الثورة، كما اعتاد المتابعون وصفها باعتبارها “اعتصامات في التحرير”، وليس بكونها “معسكر الثورة”.
وساعد صغر حجم الاعتصامات اللاحقة على تصديق وصف الإعلام للمحتجين باعتبارهم “بلطجية”، وليسوا ممثلين عن الشعب، وكان المنطق المسيطر على المحاولات المتكررة لاحتلال ميدان التحرير هو أنه إذا كان احتلال ميدان التحرير هو الأداة الثورية المركزية، فإنه يمكن استخدامها من جديد بالتأكيد، ولكن هذا لم يحدث، وإنما على العكس تغيير معنى التحرير ومفهومه، وخاصة في ظل تنازع المحتجين على الميدان ومعناه، والتحولات في الأجندة السياسية للقوى السياسية المتنازعة.
خلال الفترة الانتقالية تغير التحرير كذخيرة سياسية ليس فقط على مستوى الأعداد والتشكيل، بل على مستوى الديناميات اللوجيستية الأخرى، حيث كانت الأعداد لا تتعدى بضع مئات قليلة، وكانت الاعتصامات ضعيفة جدا، وعاجزة عن إقامة معسكر والاحتفاظ به.
كذلك كانت الأعداد القليلة تعني التجانس، على عكس تحرير الثورة وأيامه الأولى، الذي ضم ألوانا متعددة من الطيف السياسي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن مختلف الطبقات الاجتماعية، وكانت الاعتصامات في الفترة الانتقالية تتكون أساسا من الشباب اليساريين.
وعلى مستوى المساحة، وعلى عكس تحرير الثورة الذي ملأ جنبات الميدان الضخم، فإن الاعتصامات اللاحقة كانت بالغة الصغر ومحدودة داخل “الصينية”، وعلى مستوى العلاقة بين النظام والتحرير كذخيرة سياسية، فقد تغيرت هذه العلاقة على نحو جذري عقب تنحي مبارك.
خلال الأيام الأولى للثورة، فقد النظام قدرته على التحكم وبدا في حالة أزمة، ولكن بعد ذلك أعاد النظام تنظيم نفسه وتأسيس قوته، من خلال انخراط الأجهزة العسكرية والمخابراتية في شئون الأمن الداخلي، ومن خلال الحملات الإعلامية المضادة التي استهدفت تجريم المعتصمين ووصمهم بأنهم مجموعة من “البلطجية”.
هذا بالطبع فضلا عن الاستخدام المفرط للعنف، ومحاولات اختراق المعتصمين، في الاعتصامات اللاحقة لتنحي مبارك فقد المعتصمون التحكم في الميدان، وكانوا مكشوفين، وعانوا من الضعف الشديد، كما جرى فض كل الاعتصامات تقريبا بالقوة على يد قوات الأمن.
لم يكن استخدام النظام للعنف أمرا جديدا، إلا أن الأعداد القليلة للمعتصمين وافتقادهم للدعم الشعبي نبه النظام إلى إدراك الضعف الشديد للاعتصامات اللاحقة، ومن ثم تصاعد عنف الدولة ضدهم حتى فقد المعتصمون في التحرير الزخم، كما فقدوا الدعم الشعبي والقدرة على التحكم، وفي المحصلة فقدوا الميدان.
المصادر :
[1]. Tilly, C. (2010). Regimes and repertoires. University of Chicago Press, p. vii.
[2]. راجع مثلا: Ketchley, N. (2014).Contentious politics and the 25th January Egyptian revolution(Doctoral dissertation, The London School of Economics and Political Science (LSE))؛ Said, A. S. (2014).The Tahrir Effect: History, Space, and Protest in the Egyptian Revolution of 2011(Doctoral dissertation).؛ Sika, N. (2017).Youth activism and contentious politics in Egypt: Dynamics of continuity and change. Cambridge University Press.
تعليقات علي هذا المقال