قبل إحدى عشر عامًا انطلقت شرارات التغيير من تونس الخضراء، لتُشعل فتيل الثورة في هشيم ما كانت تعيشه الشعوب العربية من استبدادٍ وطغيان، فكان “الربيع العربي” الذي بثّ الروح في أجساد تلك الشعوب التي كانت على وشك الاستسلام، وتسليم روحها لهؤلاء الطغاة، لكن ما لبثت تلك الشعوب أن تستفيق حتى تحوَّل ربيعها إلى خريف، ومع اختلاف الأشكال والطُرق؛ إلا أن النتيجة في جُل تلك البلاد كانت واحدة “عودة الطُغاة والمُستبدين من جديد”، ومن ثمَّ؛ وبعد إحدى عشر عامًا آن لنا أن ننظر من جديد للأحداث من كافة جوانبها بعين الباحث الناقد للاستفادة والعظة، وهنا نُلقي الضوء على أحد تلك الجوانب المُتمثِّل في الجواب على تساؤلٍ هام، هو: كيف يُمكن قراءة أسباب ثورات الربيع العربي في إطارها الداخلي والخارجي؟ والذي سنُحاول الإجابة عنه خلال هذا المقال.
في الثورة ومراحلها:
الثورة هي تغيير جوهري في الأوضاع السياسية والاجتماعية لدولة معينة، لا تُتَّبع في إحداثه الوسائل المُقررة لذلك في النظام الدستوري لتلك الدولة.[1] ، وتمر الثورات بمجموعة من المراحل، يُمكن إجمالها في ثلاثة مراحل؛ أولها: مرحلة إسقاط النظام بكافة رموزه وشخوصه: وتتسم هذه المرحلة بعدم اليقين السياسي، وكونها مادة للأحداث غير المرئية والإجراءات غير المحدودة والنتائج غير المقصودة. وثانيها: مرحلة إقامة نظام سياسي بديل للنظام السابق، وذلك من خلال تشكيل حكومة انتقالية، وصياغة الدستور، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، وهي مرحلة تدعيم الديمقراطية، وتعني التنفيذ الفعلي للمؤسسات والقبول الحقيقي للديمقراطية من جانب المحكومين ومن جانب النخبة. وثالثها: مرحلة تغيير البناء الاجتماعي بكافة أنساقه، واستبداله بواقع جديد، وهي المرحلة الأصعب والأطول زمنا، والتي تتطلب إحداث تغييرات جذرية وعميقة في الواقع الاجتماعي والاقتصادي، وينتج عنها إعادة توزيع لموازين ومصادر القوة في المجتمع.
ولاستكمال المرحلة الأولى -إسقاط النظام السياسي القائم- لا يكفي إسقاط الرأس فقط، وإنما يتعين إسقاط النظام بكافة رموزه وشخوصه، وكذلك المنهج الذي كان مُتَّبعًا، إذ إن رحيل أشخاص القيادات التسلطية التي ظلت في السلطة لفترة طويلة، لا يعنى حقيقة أن النظام التسلطي قد انهار؛ فآلة التسلط عادةً ما تكون راسخة في الأجهزة القمعية والسياسية والإعلامية والمالية.[2]
وبالرغم من كون الثورات تُمثِّل فرصة للتغيير الشامل؛ إلا أن أسلوب التغيير الثوري يؤثر أحيانًا بالسلب في عملية البناء الديمقراطي للدولة فيما بعد، ويضيف صعوبات كبيرة أمام الانتقال، كما قد يؤدي إلى ظهور نُظم تسلطية جديدة.[3]، وهو تمامًا ما حدث في دول الربيع العربي، حيث استطاعت الثورات أن تُسقط النُظم التسلطية، لكنها فشلت في إرساء نُظم ديمقراطية بديلة، وربما كان السبب عدم الانتهاء من المرحلة الأولى للثورات وإسقاط كامل النظام القديم، والانتقال السريع للمرحلة التالية، والمُتمثِّلة في إقامة نظام جديد، وهو ما شكَّل تهديدًا للنُظم الجديدة أعاق مسيرة التغيير الثوري.
ولأي ثورة أسباب، ولأن الثورة إفراز لواقع اجتماعي يُميز كل مجتمع عن الآخر، فلا يُمكن الجزم بأسباب مُحددة بعينها لكل الثورات، حيث إن كل ثورة وليدة سياق مُعين، لذا تتعدد الأسباب بتعدد الظروف، إلا إنه يُمكن الوقوف على بعض الأسباب المشتركة بين الثورات؛ فهناك خمسة عوامل تؤدي إلى تطوُّر القدرة السياسية إلى ثورة، وهي: تنمية داخلية مُعتمدة على أطراف خارجية، دولة قمعية شخصانية، ثقافة مقاومة النظام ومعارضته، أزمة اقتصادية متنامية، ثغرة في السياسة الدولية تؤدي إلى ضعف مُؤقت في السيطرة الخارجية يسمح باندلاع ثورة، وهكذا يُمكن تقسيم أسباب الثورات إلى داخلية وخارجية.
الأسباب الداخلية للثورات:
يُرجع البعض أسباب قيام الثورة إلى عدم المساواة، وعدم الرضا عن الوضع القائم، ويرى آخرون أن أسباب الثورة تنحصر في العوامل الاقتصادية، بحيث أن التطور التاريخي للجماعات البشرية هو صراع دائم بين الطبقات الاقتصادية في المجتمع، بين من يملكون ومن لا يملكون، كما أن التخلف عامل حاسم للتغيير، وبالتالي تصبح الثورة حتمية، حيث أن القهر والسخط يُمكن أن يخلق مناخًا ثوريًا، في حين يرى آخرون أن هناك عوامل نفسية تُهيئ للثورة، مثل انتشار الظلم في المجتمع، إلى جانب إحساس الأفراد بهذا الظلم الواقع عليهم، إضافة إلى الظلم الاجتماعي الناتج عن استئثار قلة من الناس بخيرات البلاد.[4]، وإجمالًا يُمكن القول أن الأسباب الداخلية للثورة تكمن في ثلاثية الاستبداد؛ الاستبداد السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي. فالاستبداد السياسي يكمن في احتكار الحكم، ومنع أي مشاركة للشرائح الشعبية، والقوى المختلفة من تقاسم السلطة، مع استمرار فعالية الدور الخارجي، لينتج الاستبداد الاقتصادي وهو احتكار المُقدَّرات، مما يؤدى إلى تركُّز رأس المال والعوائد لدى عدد محدود على حساب الغالبية.
وكذلك الاستبداد الاجتماعي، وهو الناتج عن غياب العدالة الاجتماعية، وإقصاء غالبية البناء الاجتماعي.[5]، ومن ثمَّ فأسباب الثورات تختلف باختلاف السياق الزماني والمكاني، وبتباين البناء الاجتماعي، وقد اجتمعت بدول الربيع العربي في العقد الأول من القرن الحالي تلك الثُلاثية، والتي انعكست على شرعية نُظمها الحاكمة، وشكَّلت أسبابًا لثوراتها فيما بعد.
الأسباب الخارجية للثورات:
يُمكن تلخيص الأسباب الخارجية التي أدَّت لتفجُّر الثورات العربية في مجموعتين من الأسباب؛ أولهما: الدفع الخارجي للتحول نحو الديمقراطية: والذي برز في الأجندة الدولية في إطار تحوُّلها نحو العولمة. وثانيهما: تأثير عدوى الانتشار، ففي أوائل موجة التحوُّل الديمقراطي ونجاحها شجَّعت الدول بعضها على السعي في طريق الديمقراطية.[6]
وهكذا يتبيَّن أن هناك ثلاث نقاط مهمة حول دور الأسباب الخارجية في قيام ثورات الربيع العربي، أولها: أن الدعم الخارجي للتحول الديمقراطي قد تحوَّل إلي تحدٍ يواجه التحول الديمقراطي في البلاد العربية.
وثانيها: أن درجة تأثير العوامل الخارجية تختلف من حالة إلى أخرى حسب اختلاف استراتيجيات الفاعلين الدوليين، وطبيعة الظروف والعوامل الداخلية في البلدان المستهدفة.
وثالثها: أن العوامل الخارجية في دول الربيع العربي قد لعبت دورًا هامًا في دعم وترسيخ النظم التسلطية.
وقد عمدت القوى الخارجية إلى حماية مصالحها عن طريق محاولاتها المستمرة لتوجيه الثورات بالشكل الذي يخدم تلك المصالح، وأدَّى تضارب تلك المصالح مع بعضها البعض، ومع مصالح دول الثورات ذاتها، إلى عرقلة مسارها، حيث استخدمت القوى الخارجية العديد من آليات الاختراق كتلك التي استخدمتها من قبل، وتسبَّبت في تفجُّر الثورات، وكان ذلك على ثلاثة مستويات، هي: السلطة، والنُخبة، والمجتمع.
فعلى مُستوى السُلطة كان التدخل أحيانًا يأتي على شكل مُساعدات مشروطة، تُقدمها القوى الكُبرى لتلك الدول، وأحيانًا من خلال الضغط على الحكومات، وربما من خلال الاختراق الخشن سواء من الداخل باستخدام الجهاز الأمني والعسكري للدولة، أو من الخارج من خلال مجلس الأمن، أما على مستوى النُخب، فهناك نُخب مُرتبطة بقوى خارجية، سواء عن طريق التعليم أو وسائل الإعلام أو منظمات المجتمع المدني، أو حتى النخب العسكرية.
وعلى مستوى المجتمع، فيكون بتشكيك الفرد والمجتمع في عدالة قضاياه بصورة تدريجية، ليصل إلى حد خلخلة البنية العقائدية، والتماسُك النفسي للمجتمع.[7]
الثورة بين الداخل والخارج:
في محاولة لتفسير العلاقة بين الثورة والعلاقات الدولية؛ ظهرت عدة استراتيجيات تمثَّلت في استدعاء مفاهيم مهمة، مثل الثورة الاجتماعية، والثورة الدولية والدولية المضادة.
فالثورة الاجتماعية مفهوم جاء ليُركِّز على البُعد الداخلي الاجتماعي للثورة، ويُبرز الفرق بين الثورات الاجتماعية التي تؤدي إلى تحولات كُبرى في البنى الاجتماعية للدولة، والسياسية التي تتغير فيها النظم السياسية، دون تحوُّلات جوهرية في شكل المجتمع وعلاقاته الداخلية.
وقد قدَّم المفهوم تحليلًا لفهم الثورات يرى أن التركيز على العوامل الهيكلية الدولية في تفسير الثورة، يغفل عوامل داخلية مهمة، مثل الوكالة أو العامل الثقافي، وقدَّم لذلك طرحًا لخمسة عوامل تقود إلى ثورة اجتماعية ناجحة، وهي: ظروف تنموية متدهورة، نظام سياسي قمعي استبدادي مُشخصن، ثقافة سياسية مُقاومة فعَّالة، تراجُع اقتصادي، وفرصة يتيحها النظام الدولي.
أما الثورة الدولية، فهو مفهوم تناول التداخل بين الثورة والبُعد الدولي، لرصد أثر الثورات على تطور شكل النظام الدولي والتحوُّل في قيمه.
فهناك الثورة الدولية؛ وهي تلك التي تظهر في دولة بعينها، ولكنها أولًا تُشكِّل نموذجًا يُحتذى به لثورات مُحتملة في دول أخرى، وثانيًا تُمثِّل ثورة تستتبعها ثورة مُضادة من الدول الأخرى.
وهناك الثورة الدولية المُضادة؛ وفيها يتضح أن الثورات الحديثة تحمل بينها مُشتركًا يغفل عنه الكثيرون، ويتمثَّل في استنهاضها شكل من أشكال الثورة المضادة على المستوى الدولي، والتي تُعرف بأنها محاولة دولية من قِبل أطراف خارجية للإطاحة بنظام ثوري، أو لإجهاض الجهود الساعية للثورة في دولةٍ ما.
وتنطوي هذه على أنماط ودرجات مختلفة من التدخُّل قد تصل إلى حد استخدام العنف، أو تقديم دعم لأطراف داخلية بالسلاح والتدريب والتمويل، أو تعكير الصفو وتشويه الصورة الإعلامية، أو فرض عقوبات بهدف إفشال النظام الثوري، وبقدر ما تتبلور ثورة دولية مضادة، بقدر ما تزيد احتمالية تحوُّل الثورة في الداخل نحو الاستبداد، ومن ثمَّ فالثورة المضادة هي مساحة هامة تتقاطع فيها الثورة الداخلية مع الواقع الدولي الخارجي.[8]
الخُلاصة:
في دول الربيع العربي؛ لا يُمكن النظر لثوراتها باعتبارها فقط انعكاسًا لمُتغيرات دولية خارجية، أو أنها مجرد تحقيق لإرادة الدول والمؤسسات الدولية المانحة، وإنما تشاركت العوامل الداخلية والخارجية لإنتاج تلك الثورات، التي تنعكس بلا شك على إعادة تشكيل المنطقة وموازين القوى في العالم ككل، ولذا لاقت تلك الثورات ما لاقت من ثورات مُضادة، ليس فقط في الداخل، وإنما في الخارج أيضًا، ليتحوَّل ربيعها إلى خريف، لكن فصول العام لم تنتهِ بعد.
المصادر:
[1]د. أحمد فهمي، مصر 2013- دراسة تحليلية لعملية التحول السياسي في مصر: مراحلها، مشكلاتها، سيناريوهات المستقبل، (القاهرة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2012).
[2]د. معتز بالله عبد الفتاح، “شروط نجاح الثورة المصرية”، جريدة الشروق، (القاهرة: 12فبراير2011).
[3]Richard Snyder, “Paths out of Sultanistic Regimes: Combining Structural and Voluntarist Perspectives”, in Houchang E. Chehabi and Juan Linz (eds.), Sultanistic Regimes, (New York: Johns Hopkins University Press, 1998).
[4]شعبان الطاهر الأسود، علم الاجتماع السياسي: قضايا العنف السياسي والثورة، (القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 2003)، ص. 50- 52.
[5]د. جمال السيد ضلع، “قضايا الدولة في إفريقيا”، مجلة الدراسات الإفريقية، (القاهرة: جامعة القاهرة، معهد البحوث والدراسات الإفريقية، ع25، 2003)، ص. 50.
[6] د. جمال محمد السيد ضلع، إشكالية التحولات الديمقراطية في إفريقيا بين جدلية الأولويات الداخلية والمطالبات الخارجية، (القاهرة: معهد البحوث والدراسات الإفريقية، سلسلة الدراسات السياسية الإفريقية المحكمة، ع 135، يوليو 2009)، ص. 51.
[7]وليد عبد الحي، “استراتيجية الاختراق وإعادة التشكل”، في: أحمد سعيد نوفل (مُحرر)، التداعيات الجيوستراتيجية للثورات العربية، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، فبراير 2014)، ص. 87.
[8] د. أماني غانم – د. أميرة أبو سمرة، “الثورة ونظرية العلاقات الدولية”، في: نادية مصطفى وأمل حمادة (تحرير)، الثورة المصرية ودراسة العلوم السياسية، (القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2012).
تعليقات علي هذا المقال