تعدّ الشهادات والمذكرات -مكتوبة أو شفهية أو مصوّرة- مصدرًا مهما لتكوين المعرفة عن حقب تاريخية بعيدة أو قريبة، حيث تقودنا شهادات وسرديات مفصّلة لتصورات معرفية عن حقائق وأحداث، لا تكتبها الأنظمة السياسية المتغلبّة في التاريخ الرسمي لدولها، إضافة إلى ما لم تذكره الأحزاب والجماعات الفاعلة سياسيًا ومجتمعيًا عن أنفسها، منعًا لجرّ العواقب، أو تفاديًا لعثرات راهنة لا تخدمها السياقات الزمانية أو المكانية.
وما لم يخرج إلى العلن أثناء الحدث يبقى حبيس الصدور لسنوات، سواء غيّبه الإبعاد “كالسجون مثلًا”، أو غيّبته الرغبة في تحيّن الفرصة، يأتي وقته بعد أحيان ربما تطول لعقود أو أكثر، لكنها تُعيد فتح التاريخ، وتبرز أحد أوجهه الغائبة وسردياته المفقودة.
وكم غيّرت بعض الشهادات سرديات بأكملها عن أحداث ظلّت حبيسة تصورات أحادية الجانب لعقود طويلة، وأعادت ترتيب مكونات دولاب التاريخ، والتاريخ المصري يزخر بأحداث غيرت وجه مصر لم تُروَ إلا من جانب النظام الرسمي، ولم تسمح الظروف لفاعلين رئيسيين أن يدونوا رؤيتهم للأحداث إلا بعد عقود طويلة.
منها على سبيل المثال كواليس حركة الضباط في عام ،1952 والتي وثقتها بعد عقود شهادات عدد من الضباط الذين ظلوا على قيد الحياة، كاللواء محمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر العربية[1]، وخالد محيي الدين أحد ضباط “تنظيم الضباط الأحرار”[2]، كما ظلّت شهادات كثيرة حبيسة الصدور حتى سنحت الفرص بأن تخرج ما أكنّت من حقائق وسرديات -في غالبها- تناقض ما دأب النظام الرسمي على غرسه، والترويج له باعتباره حقيقة لا تقبل المراء.
أهمية الشهادة وتوقيتها
أثناء انشغالي بالبحث في تاريخ الحركة الطلابية المصرية إبان العهد الملكي، وخلال الحقبة الناصرية، صادفت حلقة مسجّلة يعود تاريخها إلى ما بين ديسمبر/ كانون الأول عام 2003، ويناير/ كانون الثاني عام 2004 -أي قبل ثمانية عشر عامًا من كتابة هذا المقال- من شهادة الدكتور فريد عبد الخالق على العصر مع الصحافي المصري بشبكة الجزيرة أحمد منصور، الذي قام بأرشفة هذه السلسلة من الحلقات مع فريد عبد الخالق مؤخرًا على موقع يوتيوب[3].
وبالتتبع وجدتها شهادة كاملة على العصر العريض الذي عاشه فريد عبد الخالق، خمس عشر حلقة تقرب من ثلاث عشرة ساعة مسجّلة، استحقت يومين من الإنصات بكل رفق وتركيز وذهول، كان فريد عبد الخالق المولود عام 1915 مرافقًا لحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، وعضوًا في الهيئة التأسيسية للجماعة، ومسؤولًا عن قسم الطلبة بها، وهو أحد أكثر الأقسام حيوية داخل الجماعة، وعليه تعتمد في “مطاردة فرائسها[4]“، أي جذب وتجنيد أعضائها الجدد من المثقفين والطلاب النابهين، وهي طريقة معمول بها منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
كذلك كان عبد الخالق عضوًا بمكتب إرشاد الجماعة لفترات طويلة متقطعة، وقد توفي الدكتور فريد عبد الخالق قبل انقلاب العسكر الأخير في مصر بشهرين، وتحديدًا في أبريل عام 2013، عن عمر ناهز الثمانية والتسعين عامًا، وبعد 4 سنوات من مناقشته لرسالة الدكتوراه عن نظام الحسبة في الإسلام في عمر 94 عامًا!
يحدثنا فريد عبد الخالق عبر زمنين: الأول فيه شهادته، والثاني توقيتها، فشهادته التي بدأت بعد انضمامه للإخوان في ثلاثينيات القرن الماضي حتى نهاية العهد الناصري، تروي عن فترة مفصلية من تاريخ مصر الحديث، تحوّلت فيها من نظام ملكي إلى جمهوري عبر حركة الجيش، وتأسس فيها نمط جديد من الدولة تولت فيه المؤسسة العسكرية القدر الأكبر من الحكم، وعلت فيه طبقة الضباط عبر امتلاك امتيازات سياسية غير مسبوقة.
كذلك انقلب فيه حال الإخوان المسلمون من جماعة حليفة لحركة الضباط حتى عام 1954، إلى عدو لنظام عبد الناصر الذي شنّ ضدها حملة قمعية غير مسبوقة، وأعدم عددًا من قياداتها ومنتسبيها، وقدّم الآلاف منهم إلى المحاكمات الاستثنائية، ليتحوّل التحالف القديم بين حركة الضباط وجماعة الإخوان إبان عهد الملك، إلى عداوة واضحة لها من الأسباب ما سيلي ذكره.
أما عن توقيت الشهادة في نهاية عام 2003، حيث شهد المجال العام في مصر وقتها انفراجة ساهمت في فتح فرص لممارسة العمل السياسي، وإن بشكل ضيّق، ساهم فيها الإخوان المسلمون بقدر كبير عبر انخراطهم في تجمعات سياسية، كحركة “كفاية” والتي شهدت تطورًا بعد فوز الإخوان بـ88 مقعدًا في برلمان عام 2005، (حوالي 20٪)، ومن ثم تتضافر العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي أدت بعد ذلك إلى ثورة المصريين عام 2011.
راهنية شهادة فريد عبد الخالق
ما يجعل شهادة عبد الخالق راهنية، هو تشابه الفترتين الفاصلتين في تاريخ مصر الحديث بين عامي (1952- 1954) وبين (2011 – 2013)، فإن كان من قبيل المصادفة أن يكونا عامين إلا أن تشابه الفاعلين: الجيش مؤسسة حاكمة في الحالين، في مقابل جماعة الإخوان المسلمين أكبر الفاعلين المدنيين “غير عسكري وغير دولتيّ”، يدلي بدروس واضحة تُظهر العطب الملازم للثقافة والممارسة والتصورات السياسية للإسلاميين في مصر منذ منتصف القرن الماضي، والتي تنزع عن نفسها البراجماتية وتحلّ الظنون محلّ الممارسة السياسية، وفي قلبهم جماعة الإخوان المسلمين التي انتمى إليها فريد عبد الخالق لأكثر من 70 عامًا.
تشابهت كثيرًا فترة ما بعد حركة الضباط [5]1952، التي كان الإخوان ظهيرها الشعبي حتى تمكّن عبد الناصر من الحكم في 1954، وأقصاها من المشهد بإثارة القلاقل بينهم وبين مرشدهم آنذاك حسن الهضيبي، ثم تلاها بحملات قمعية استئصالية.
ومع الفترة الانتقالية التي عاشتها مصر بعد ثورة يناير 2011 حتى انقلاب يوليو 2013 الذي قاده الجنرال عبد الفتاح السيسي، وقد شهده معظم من يقرأون هذه السطور فلا داعي لتفصيل المقال عنه، قادت الشهادات التفصيلية التي ذكرها فريد عبد الخالق -وذكرها آخرون- إلى التيقّن من أن إحدى أزمات الجماعة المزمنة ومِحنها المتكررة، تكمن في ثقافتها السياسية غير المؤهلة لممارسة السياسة في مصر، بل إن الأزمة الأخطر هي إنكارها لأزمتها الداخلية المنبعثة من عدم وجود تربية سياسية منهجية لأبناء الجماعة، وتحميل الاستبداد الذي لا تستطيع الجماعة مقاومته المسؤولية عن تلك المحن، إضافة إلى اللهفة نحو اقتناص الفرص السياسية مرة في إحلال نفسها محلّ الأحزاب التي تم حلّها، والأخرى في النزوع نحو حلّ كل الخلافات بالصندوق في مراحل الانتقال الديمقراطي، دون وعي حقيقي بمغبة النتائج الوخيمة التي تكررت عامي 1954 و 1965 -والتي رواها عبد الخالق بكل دقة في الحلقات من العاشرة حتى الرابعة عشر- وانقلاب مصر المشؤوم عام 2013.
الجماعة في أزمة دائمة
في المرة الأولى تلاعب عبد الناصر بالجماعة قبل انقلابه عليها، مثلما فعل السيسي تمامًا، وإن اختلفت درجات الذكاء والطموح والمشروع الذي بدأه كل منهما بعد تمكّنه من التفرّد بالحكم، وتأسيس نموذجه السلطوي، فعبد الناصر الذي بدأ بشقّ جماعة الإخوان المسلمين عبر استمالة نظامها الخاص الذي لعب دورًا في تدريبه أحيانًا -كما يروي عبد الخالق- وفض القيادات من حول المرشد حسن الهضيبي ومكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية، ورغّب عددًا من الفاعلين داخل الجماعة، وأرهب الباقين، بالتوازي مع ما فعله مع رفاق السلاح بإزاحة من لم يتفق معه من الحكم، وكان أبرزهم اللواء محمد نجيب أول رئيس لمصر.
شابهه في ذلك السيسي الذي أوهم الجماعة بأنه الجندي المطيع والمحقق للمشروع الإسلامي والجنرال المتديّن، توازيًا مع تمكّن الجيش من الدولة العميقة، وعقد الاتفاقات مع الأطراف الخارجية والقوى العلمانية الداخلية، التي مهّدت الطريق لانقلابه الدموي في يوليو 2013، واتفق الحدثان “1954 و2013” على قلة الخبرة السياسية لدى جماعة الإخوان المسلمين، وعدم تجاوزها لكونها جماعة ذات حشد جماهيري هو الأكبر بين الفاعلين من دون الدولة.
يظل عدد من القضايا التاريخية عالقة في جسد الجماعة توهنها تنظيميًا وحركيًا، وتعيد عليها الحوداث المِحن دون الانتباه إليها، أهمها كما تخبرنا شهادة عبد الخالق، مسألة الفصل بشكل رسمي ولائحي -بل وربما يتطلب الأمر تجاوز ذلك إلى المناهج التربوية- بين الدعوي والسياسي، وقد كانت هذه المعضلة واضحة في شهادة فريد عبد الخالق.
كان سوء الإدارة السياسية لأزمات 1954 و1965 ضارًا بـ”الدعوة الدينية” التي تُحسنها الجماعة، حيث تبرع في الانتشار إلى كل الطبقات الاجتماعية المصرية وتعتبرها رسالتها الأولى، وقبل ذلك حسبما يروي عبد الخالق عن الأستاذ البنا قولته الشهيرة “لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لعدت إلى ما كنت عليه، أعلّم الإسلام وأربّي الناس عليه” شاهدة على الأزمة المفصلية.
ورغم تكرار المحن ومحاولة مراقبين وباحثين لفت الانتباه إلى هذه الأزمة الهيكلية لم تحسم الجماعة -في مصر- أمرها في الفصل بين الدعوي والسياسي، أو تتأسى بتجارب لنظراء إسلاميين في بلدان قريبة لهم، نجحوا بالفعل في الفصل بين المجالين وتفادي “المحن” المتتابعة.
المصادر
[1] كتب محمد نجيب مذكراته بعد رفع الإقامة الجبرية عنه، ونُشرت الطبعة الأولى منها عام 1948، ينظر: محمد نجيب، مذكرات محمد نجيب: كنت رئيسًا لمصر (القاهرة: المكتب المصري الحديث، 1984).
[2] يُذكر أن خالد محيي الدين، أحد ضباط “مجلس قيادة الثورة” قد نشر مذكراته لأول مرة عام 1992
يُنظر: خالد محيي الدين، والآن أتكلم (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1992).
[3] فريد عبد الخالق، شاهد على العصر، قناة أحمد منصور، موقع يوتيوب، شوهد في 25/3/2021، في: https://bit.ly/36d6Cni
[4] بحسب تعبير خليل العناني عن عملية التجنيد وضم الأعضاء الجدد التي تقوم بها الجماعة، يصفها بمطاردة الفرائس.
Khalil Al-Anani, Inside the Muslim Brotherhood: Religion, Identity and Politics (New York: Oxford University Press, 2016), P. 70.
[5] للمزيد بشأن فترة ما بعد حركة الضباط وقيام جمهورية يوليو، يُنظر: عزمي بشارة، ثورة مصر: من جمهورية يوليو إلى ثورة يناير، ج1 (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016) ص: 17 -87.