بواسطة:أحمد عبد الحليم و عبدالرحمن عادل
منذ أن دخلت مصر عهد الحداثة الأوروبية على يد محمد علي باشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، شهدت حركة التطوير العمراني فيها تحولاً غير مسبوق وذلك ضمن سياسات التحديث الذي بدأ تنفيذها عقب توليه حكم مصر في عام 1805.
إذ إن النهضة الاقتصادية والعسكرية التي تغيّاها الباشا، وعمد إلى تحقيقها تطلبت تغييرًا عمرانيًا من طرازٍ جديد، يتسق مع النهضة المنشودة، وفي ذلك استعان الباشا بالعقل الأوروبي –مُتمثلًا في المهندسين والخبراء الفرنسيين والإنجليز- فكان العمران الجديد عمرانًا أجنبيًا (من حيث الشكل والبُعد الحضاري والتنظيم)، تُشرف عليه السلطة لتحقيق أهداف عسكرية واقتصادية وسياسية جديدة؛ تمثلت في بناء جيش قوي، ومضاعفة الإنتاج الزراعي المصري، والدخل المالي الناتج عنه، وبناء جهاز حكم قوي ومتماسك يُمكّنه من السيطرة على الدولة بقبضة حديدية، لِتنفيذ سياساته بلا معارضة ولا عرقلة.
وكان من أهداف نمط العمران الجديد الذي اتبعه الباشا، فرض الرقابة والسيطرة على السكان، بما يشمله ذلك من إعادة رسم خريطة التوزيع السكانية، وفقًا لمضامين جديدة تحددها السلطة الحاكمة.
وفي هذا الإطار قامت الدولة بإعادة تأطير القرى والمدن مرّة أخرى، حيث هُدّمتْ قرى عديدة وتم بنائها بشكلٍ مُغاير لما كانت عليه، وفقا لتقسيمات تتبع النفوذ الاجتماعي والاقتصادي والسلطوي لسكان تلك المناطق.
فَقرية كفر الزيات بمحافظة الغربية، وقرية النجيلة بمحافظة البحيرة، وقرية الجزاير بالمنوفية، أمثلة على قرى هدمت ثم أعيد بناؤها مرة أخرى وفقًا للنظام الجديد، وكانت عملية إعادة الإعمار والتسكين تتم حسب تقسيمات طبقية، فالأسرة الفقيرة كان لها نصيب صغير جدًا من الأمتار، وموقع جغرافي رديء من واجهة القرية، وكلما كانت درجة السلطوية للسكان أعلى زادت فرصتهم للتسكين مرة أُخرى بشكلٍ أفضل[1].
يتشابه هذا الوضع بأبعاده المختلفة كثيرًا مع ما يقوم به النظام الحالي بقيادة السيسي، من عملية تطوير وتحديث عمراني تقوم على هدم العديد من المناطق “العشوائية”، وإعادة توزيع سكانها في مدن جديدة شرعت الدولة في بنائها، الأمر الذي يعني عملية إعادة توزيع سكاني مصحوبا بإعادة تخطيط ورسم طرق وسبل المواصلات في المدن والمحافظات، مع تغيير مقار ومواقع مؤسسات الدولة وأبنيتها الإدارية والحكومية.
الأمر الذي يُفضي إلى إعادة رسم خريطة الإسكان والعمران في مصر، بما يختلف عمّا كانت عليه منذ عقدٍ من الزمان تقريبًا، وهنا قد يُطرح التساؤل الآتي: ما المشكلة أو الخطر من عملية التحديث والتطوير العمراني الجديد؟ وللإجابة على هذا السؤال نتناول من منظور مقارن التحديث العمراني بين عهديّ الباشا والجنرال، وإلى ماذا أفضى الأول بما يمكننا من القدرة على التنبؤ إلى ماذا سيفضي الآخر.
أوجه التشابه بين النظامين:
1- مركزية الجيش:
مثَّل الجيش عماد الدولة الحديثة التي أنشأها محمد علي، وعلى هامش تطويره وتحديثه قام بتطوير النظام التعليمي، ودواوين الإدارة والحكم -السيساتنامه- وظهرت فكرة التجنيد الإجباري، وبناء الثكنات والمعسكرات قرب المدن الرئيسية على مجمل طول النيل من أسوان إلى القاهرة.
وهو ما أعطى شكلًا جديدًا للعمران في مصر، حيث لم تكن ثكنات للجيش ولا معسكراته تتواجد بين المدنيين، وأُسس الجيش الجديد القوي والمنظم على الطريقة الأوروبية، لتحقيق عملية الضبط والسيطرة الداخلية، ثم اسُتخدم في حصار القرى والفلاحين لمنع هروبهم من قراهم، والعمل في الحقول الزراعية لزيادة الإنتاج والربح المادي.
وبالنظر في الواقع المعاصر؛ نجد أن الجيش في عهد السيسي يقوم بدورٍ مركزيّ في عملية البناء والتطوير العمراني، حيث نجد أن الهيئة الأكثر أهمية بين هيئات وزارة الدفاع النشطة اقتصاديًّا، هي جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، والهيئة الهندسية، وإدارات الأشغال والمشروعات الكبرى والمياه والمساحة للقوات المسلحة، والتي يدعمها أيضًا مكتب الاستشارات الفنية في الكلية الفنية العسكرية.
تقوم كل هذه الإدارات بالتنسيق الوثيق مع الهيئات المدنية التي تضطلع فيها وزارة الدفاع بدور مباشر، بموجب القانون، وأبرزها المركز القومي لتخطيط استخدامات أراضي الدولة، وغيرها من الكيانات العامة الرئيسة الأخرى، التي تُصدر العقود، مثل الجهاز المركزي للتعمير التابع لوزارة الإسكان، وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة[2].
وهكذا كادت القوات المسلحة خلال الأعوام الثمانية لحكم عبدالفتاح السيسي، أن تكون المقاول والبنَّاء الوحيد لكل ما يتعلق بالعمران والطرق والأراضي، في نوع من السيطرة شبه التامة على هذه الأنشطة، ويمكن للقارئ في هذا مراجعة الكتاب الذي أصدره الباحث يزيد صايغ، عن مركز كارنيجي للسلام بعنوان “أولياء الجمهورية: تشريح الاقتصاد العسكري المصري”.
ومن ثمَّ فإن عملية التعمير والبناء في كُلٍ من عهدي الباشا والسيسي، ارتبطت بالجيش بشكل أو بآخر، والجيش كمؤسسةٍ لا يخضع لقانون ولا محاسبة ولا رقابة خارجية، بل يتصرف في الدولة من منطلق أبويّ باعتباره مالكًا ومُدبرًا أوحد وبلا منازع، وبأحقية مطلقة في الإدارة وتصريف الأمور.
الأمر الذي يعني أن الاعتبارات الإنسانية ومصالح المجتمع، ستكون بلا شك في الدرجة الثانية أو الثالثة بعد مصالح المؤسسة العسكرية وحلفائها من أصحاب رؤوس الأموال، كما أن من سيحدد مصلحة الناس والأصلح لهم هى المؤسسة العسكرية، وذلك وفق ما تراه هى لا ما يراه الناس.
2- القرية والكومباوند (العزل والإقصاء):
كان خلق “القرية النموذجية” هدفًا رئيسًا لمحمد علي، تلك القرية التي تُدِر إنتاجًا غزيرًا تُستغل فيه كل إمكانيات القرية، ويُسخر له كل سكانها، فكان المرسوم الذي صدر في يناير 1830، بحبس الفلاحين داخل قُراهم وعدم السماح لهم بالخروج منها، إلا بموجب حصولهم على تصريح معبرًا بقوة عن النمط الجديد لشكل الحياة التي يُراد للمصريين أن يعيشوها.
ومن ثم جرى هندسة القرى بهدمها وإعادة بنائها مرة أخرى، بما يتفق مع نمط الإنتاج الجديد الذي تريده الدولة، ويتفق أيضًا مع عملية الضبط والمراقبة التي ستفرضها السلطة على القرية، والذي سيحوّلها مع الوقت إلى سجن مغلق على الفلاح، يمتنع عليه الخروج منه، وإلا تعرض للعقاب الذي بلغ حد الإعدام!
وتصبح القرية المغلقة بمثابة مصنع للإنتاج، تُهدر فيه حياة الإنسان الذي تهنّدّس على أنّه آلة مُصطنعة، أى أن القرية قد أضحت فضاءًا للاستثناء والإقصاء، كما المعتقل أو معسكر اللجوء، الأمر الذي يحيلها من سكن ومأوى ومساحة للتفاعل الاجتماعي والنشاط الإنساني لقاطنيها، إلى سجن يحاول نزلاؤه الفرار منه ولو كلفهم ذلك حياتهم أحيانًا.
إن مبدأ الإقصاء هذا ينطبق على الأحياء الفقيرة، والمناطق العشوائية والنائية المحرومة من الخدمات والحياة الكريمة، والتي لا تتجه الدولة الآن لإعمارها وتطويرها في أغلب الأحيان، إلا إذا وجدت من ذلك فائدة أكبر كَتأجيرها لمستثمر أجنبي، أو تطوير السياحة حولها؛ مثل جزيرة الوراق بالجيزة، حيث عرضت الحكومة على الأهالي ثمنا بخسا مقابل تخلّيهم عن أراضيهم، ومن ثم سعت لإخراجهم منها بالقوة لتصبح الأرض ملكًا بعد ذلك للمستثمرين، نظير أسعار باهظة تتحصل عليها الدولة[3].
ومن ناحية أخرى؛ فإن هذه المشروعاتٍ السكنية الجديدة، مثل مشروع الأسمرات والمحروسة بالقاهرة، ينقل فيها سكان المناطق المصنفة بالعشوائية حسب صندوق تطوير العشوائيات[4]، كمنطقة مثلث ماسبيرو وبولاق أبو العلا ومنشية ناصر والدويقة وروض الفرج وغيرهم، بداعي أن هذه المناطق تشكّل أبنيتها خطرا على السكان أى أنها غير آمنة.
غير أن الواقع أيضا يكشف أن مسألة الأمان ليست السبب الحقيقي، فسكان هذه المناطق يشكلون دائما مصدر قلق للسلطة، لما تنتهجه من سياسات اقتصادية تزيد من فقرهم ،وتُصعب عليهم معيشتهم.
كما أن تلك المناطق -الأكثر فقرا- في تاريخها الاحتجاجيّ كانت مشتعلة بالغضب أيام ثورة يناير/كانون الثاني 2011، حيث شكّل مثلث ماسبيرو أحد دروع وحماة ثوار ميدان التحرير، فضلا عن براعة سكان تلك الأحياء في مقاومة السياسات البوليسية لوأد أي حراك احتجاجيّ، كما تنقل الذاكرة الاحتجاجية خلال الـ 18 يوما من ثورة يناير[5].
تعمل السلطة على تفكيك تلك الكتلة المُعرّضة للانفجار في وجهها في أي وقت، بل وعزلهم من خلال نقلهم إلى الأحياء السكنية الجديدة، في أزمنة وأمكنة قد لا يستطيعون التعايش معها، لما سيواجهونه من صعوبات مالية في التنقل من سكنهم الجديد إلى عملهم القديم، بالإضافة إلى تفكيك الروابط والعلاقات التي شُكّلت بينهم منذ عشرات السنين، وأصبحت سلطة رمزية كما يعرف بيير بورديو: أنها مجموعة علاقات متشابكة ربما تكون تنظيما خفيا يَمتلكه هؤلاء السكان لمواجهة تحدّيات العيش والاجتماع والسلطة[6]، والتي سيفقدونها تماما في أحيائهم الجديدة التي سيعيشون بها محاصرينَ داخل بوابات أمنيةٍ رقابيةٍ، تستطيع الاشتباه والقبض على مَن يشكّلون خطرا احتجاجيا من وجهة نظر السلطة، أي رقابةٍ شاملة أقرب إلى النموذج السجني “البانوبتيكون Panopticon” لمخطط الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنتام.[7]
وفي مقابل الإقصاء، يبرز العزل كمبدأ حاكم للعمران الذي يرتكز على “الكومباوند”، فهناك فرق جوهري بين أن تكون مُطوّقًا وأن تُطوّق نفسك: وهذا وجه الاختلاف بين معسكر الاعتقال، والمجتمعات المترفة المغلقة[8].
فالطبقة الاجتماعية التي تحظى بالامتيازات للعيش في الأماكن الأكثر أمانًا والأقل تلوثًا في الضواحي الواسعة للمدينة، تاركة بذلك المدينة القديمة التي تفتقر إلى الجو الصحي، والتي تعتبر خطرة أيضًا بما تضمنه من بنى تحتية متردية وتكدس خانق، تستمر في الانتقال، فكلما تقادمت مدينة كانت تمثل في فترة معينة “حيًا راقيًا”، وكلما ازدحمت بالصاعدين من الطبقة المتوسطة انتقل المترفون وأصحاب السلطة والثروة إلى مدن جديدة، في عملية مستمرة للانعزال والمفارقة والتمايز.
ويضاف لهذا كثرة انتشار مدن وكمباوندات الجيش والشرطة المخصصة للعاملين في المؤسسات السيادية، وهى كمباوندات مغلقة ومتمايزة عن مثيلاتها، بما يرمز للفارق والاختلاف الذي ينبغي أن يكون واضحًا بين هؤلاء وغيرهم من فئات الشعب الأخرى.
3- الرقابة والسيطرة:
كان تحقيق الرقابة الشاملة والسيطرة التامة هدفًا أساسيًا في العمران الجديد الذي أدخله الباشا إلى مصر، فالشكل الذي كانت تتخذه المدن والقرى المصرية من حيث انتظام البيوت وتناسقها إلى جانب بعضها البعض، كان يُصعب انكشاف الناس لأعين المراقبة والرصد، إلى أن جرى تسطيح المجتمع وإعادة رسم معماريّته على النسق الأوروبي الحديث، وغدت تربية وتنشئة الفرد بما يتفق مع هذه الهندسة، بحيث يصبح الفرد سهلًا مسلمًا بالطاعة للسلطة من ناحية، ومكشوفًا لعين البوليس -ممثل السلطة- من ناحية أخرى.[9]
فقد كان نظام العمران القديم قبل التحديث الأوروبي يُعبر عن بُعد حضاري مُتمايز ،يظهر فيه نوع من التناغم مع البيئة المحيطة والناموس الكوني، حيث إن هناك تفرقة واضحة بين الداخل (المرتبط بالمساحة الشخصية والحرمة الأسرية والانسانية)، والخارج المكشوف أمام أعين الجميع.
بيد أن هذه التمايزات اختفت مع عملية التسطيح والتحديث، بما يسمح بأن يُقضى على الداخل ويعرى ويكشف أمام السلطة وممثليها، وكما كتب فوكو، فإن عمارة التوزيع وفن الإخضاع للبوليس يمكنهما بمثل هذه السبل، اكتساب السيطرة على الأفراد ليس عن طريق احتجازهم، وإنما عن طريق كشف وإبراز ما هو مُحتجب، وغير معروف وصعب المنال[10].
وقد تضاعفت وتطورت عملية الرقابة الآن بما وفّره التطور التكنولوجي والثورة الرقمية المعاصرة، فأضحت جميع الشوارع والمباني السكنية والمحال التجارية مزودة بالكاميرات، التي يمكن من خلالها رصد جميع التحركات والأشخاص الذين دخلوا منطقة أو مبنى أو متجرًا.
كما أن المدن الجديدة، وعلى العكس من العشوائيات تنتظم فيها المباني في شكل صفوف متقابلة، أو أى شكل هندسي يجعل من السهل تطويق المدينة، والسيطرة عليها في وقت قصير وبسرعة كبيرة.
أما الكومباوندات أو المدن المغلقة، فتُحاط بأسوار تجعلها معزولة، ومن ثم يمكن إحكام عملية الدخول والخروج منها، والسيطرة عليها بسرعة فائقة، إضافة إلى أن المرافق والخدمات العامة فيها تُدار من قبل السلطة، ومن ثم يمكن التحكم فيها أيضًا (كقطع الكهرباء إن لزم الأمر كما حدث في منطقة الأميرية بالقاهرة عقب اشتباك بين مسلحين وقوات الشرطة المصرية).
إن الجميع في مجتمعات السيطرة مراقبون باستمرار، ويجري تسجيل تحركاتهم وتبويبها على نحو ممنهج بواسطة شبكة ضخمة، فالجميع مجرمون محتملون في أى لحظة، وبهذا تم تحويل الشارع -أى مكان الفاعلية الإنسانية واللقاءات غير المقصودة- إلى عالم من الخوف والمراقبة.
4- الطريق فوق الإنسان:
تتخذ عملية استباحة المجتمع مظاهر مختلفة، فمنها ما تقوم به أجهزة الاستثناء من اعتقال وتعذيب وتصفية دون محاسبة، ومنها وهذا الأهم ما تتخذه السلطة من قرارات في معرض إدارتها للشؤون العامة، التي من شأنها أن تمس المجتمع في حياته اليومية دون اعتبار لكيان أو رأى.
فعندما يتقرر استملاك (نزع ملكية) أراض أو بيوت أو تجمعات سكنية أو تجارية بكاملها، وعندما يؤمر أهاليها بالخروج منها فورًا دون أن يؤخذ رأيهم أو يتاح لهم أية فرصة للاعتراض المؤثر، أو الحصول على تعويض عادل، فإنهم يُعاملون وكأنهم كائنات دون كيان حياتهم، موقوفة على الإخلاء لا حق لهم بذاكرة أو ارتباط بمكان ما، يُمهّد لطردهم ورميهم على الهامش، دون أن يعني هذا الفعل أى شي.[11]
كان تطوير مدينة القاهرة وتعميرها في عهد الخديوي إسماعيل يتطلب شَغل وتسوية الأرض الخراب حول المدينة، وفتح طرق رئيسية وشرايين مواصلات جديدة وتمهيد الطرق..إلخ، الأمر الذي تطلب إزالة بعض التجمعات العشوائية البشرية.
فقد جرى شق شارع محمد علي على نحو مائل عبر المدينة من قصر الخديوي اسماعيل (قصر عابدين)، وكان يعترض طريقه نحو أربعمائة بيت كبير، وثلاثمائة بيت أصغر، وعدد كبير من المساجد والمطاحن والمخابز والحمامات، وقد هُدّمت كلها أو أزيلت أنصافها، وتُركت قائمة كبيوت دمى دون حائط خارجي لاستكمال الطريق.
كان المنظر يشبه مدينة تعرضت مؤخرًا للقصف، حيث بيوت في كل مراحل الهدم، وإن كانت لا تزال مأهولة بالسكان، تكشف عن أغرب مشاهد الغرف الداخلية المنزلية، وتتجهم في وجوه المارة[12].
وهكذا وصف تيموثي ميتشل عملية بناء طريق جديد على أنقاض إنسانية تم هدمها من أجل تجميل وجه مدينة القاهرة .
إن هذه الصورة لا تختلف كثيرًا عن صورة محور “الملك سلمان” بالجيزة، الذي اخترق المباني السكنية مُمثلا حائط سد أمام سكان الطوابق السفلية في هذه المباني[13]، أو صورة تجريف مناطق أثرية في مصر الجديدة لبناء كوبري جديد[14] ، أو إنشاء قانون يجبر المواطنين على دفع مبالغ مالية ترهق كاهلهم، تحت مسمى “مصالحات” المخالفة، والتي كانت الدولة نفسها سببًا رئيسًا فيها بإعطائها تصاريح البناء، والإشراف على عملية البناء بنفسها عبر المحليات، غير أن الدولة التي سمحت بالمخالفة قد قررت العقاب عليها وليس إصلاحها، أو إيجاد حل نهائي لها، كما لو كانت عملية جباية/ وتحصيل أموال يُمكن أن يوضع لها أى مسمى، أو توضع تحت أى بند ( مصالحة- مخالفة- رسوم..إلخ).[15]
وعلى صعيد آخر نجد الطرق السريعة التي تبنيها الدولة ليست مجرد “فضاءات للتدفق” والانتقال، بل إنها تقوم أيضا بدور النطاق الصحي الذي يفصل أحياء الأثرياء عن مناطق نمو أحياء البؤس والفقر، ومن ناحية أخرى فإن الطرق السريعة والتي تخترق المناطق السكنية، أو تحاوطها تمثل في لحظة معينة سلسلة لتطويق هذه المناطق، وشل حركة القاطنين بها، كما تُسهل عملية انتشار القوات المسلحة والأمنية، في مناطق واسعة، وتيسر سيطرتها على المرافق الحيوية والمداخل والمخارج للمدن والمحافظات.
ختامًا؛ لا يعني هذا أن كلّ المشروعات التي أقامتها السلطة من أجل سكان العشوائيات هي مشروعات سوداوية مدمرة، بل شكلت في بعض الأحيان وجودا آمنا وملاذا معيشيا بالنسبة لأصحاب العشش في مناطق، مثل تل العقارب بمنطقة السيدة زينب، التي استبدلت بها وحداتٍ سكنية باسم روضة السيدة،
فإن سياسات التطوير والتعمير لابد وأن تتخذ طابعًا فيه منفعه أو مصلحة بشكل أو بآخر، غير أنها في المدى البعيد تحقق للسلطة مزيدًا من السيطرة والتحكم، وتنزع عن المجتمع كل إمكانات الفاعلية الإيجابية في رسم مستقبله وشكل حياته.
كما تجعل هذه السياسات السلطة بمثابة العقل الوحيد والمدبر والمُنفذ الأمثل، والأب الأدرى بمصلحة أبنائه القُصر، فالتعمير والبناء الذي يخلو من أي مشاركة أو رأى مجتمعي سيفضي بالضرورة إلى رسم حياة الناس وفقًا لما يراه المسيطر على عملية التعمير، فضلًا عن كونها فئة (القوات المسلحة)، منعزلة ومُتمايزة عن باقي الشعب، فهى من ناحية أخرى لا تخضع لرقابة متبادلة من مؤسسات الدولة، أو أى ممثلٍ شعبي يعبر عن طرف أو رؤية غير التي تراها هى.
إن وجه التشابه بين عمران الاستبداد الباشاوي والعسكري، أنه محض عمران سلطوي يُفرض على المجتمع بقوة الحاكم والسلطة، وينزع عنه أى إمكانية أو قدرة على التصرف والتدبير، وتسيير شئون حياته وفقًا لرؤية خاصة، تعبر عن ذات الإنسان الخاصة، أو رؤيته الشخصية.
المصادر
[1] تيموثي ميتشل، كتاب استعمار مصر، ترجمة بشير السباعي / أحمد حسان، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة. ط1 عام 2013، ص 105.
[2] يزيد صايغ، أولياء الجمهورية: تشريح الاقتصاد العسكري المصري، مركز كارنيجي، نشر في 14 ديسمبر 2019.
[3] محمود عبد الرحمن، بعد ثلاث سنوات على بدء التهجير: أين سكان جزيرة الوراق اليوم؟، المفكرة القانونية، نشر في 8 ديسمبر 2020.
[4] عز الدين، إبراهيم، العشوائيات..مشكلات ملموسة وحلول منسية، المفوضية المصرية للحقوق والحريات.
[5] دينا وهبه، الحق في المدينة والسياسة المحلية في مصر، دراسة حالة مثلث ماسبيرو، مبادرة الإصلاح العربي، نشر في 23 يناير 2020.
[6] بيير بورديو، الرمز والسلطة، ترجمة: عبد السالم بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2007 ص 48.
[7] البانوبتيكون – Panopticon، وتعني رقابة الكل، وهو نوع من أبنية السجون ابتكره المفكر الإنجليزي جيرمي بنتام عبارة عن: “زنازين ذات شبابيك واسعة على شكل حلقة دائرية يتوسطها برج مراقبة.” تكون هذه الزنازين متاحة لمراقبة الحارس القابع في البرج ولكن لا يمكن للسجين معرفة فيما اذا كان الحارس يراقبهم في ذات اللحظة.
[8] أليساندرو بيتي، اللاتماثلات: شبكة الطرق في الفضاء الفلسطيني- الإسرائيلي، في حالة الاستثناء والمقاومة في العالم العربي، تحرير: ساري حنفي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2010، صـ 49.
[9] تيموثي ميتشل، كتاب استعمار مصر، ترجمة بشير السباعي / أحمد حسان، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة. ط1 عام 2013، ص 100.
[10] تيموثي ميتشل، كتاب استعمار مصر، ترجمة بشير السباعي / أحمد حسان، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة. ط1 عام 2013، صــ 108.
[11] عبد الحى سيد، حالة الاستثناء ومقاومتها، في حالة الاستثناء والمقاومة في العالم العربي، تحرير: ساري حنفي،مركز دراسات الوحدة العربية، 2010، صـ 143.
[12] تيموثي ميتشل، كتاب استعمار مصر، ترجمة بشير السباعي / أحمد حسان، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة. ط1 عام 2013، ص 133- 134.
[13] بعد تداول صور ملاصقته لشقق سكنية.. سخرية واسعة في مصر من محور “الملك سلمان“، سي ان ان، نشر في 12 مايو 2020.
[14] حي مصر الجديدة ..شاهد إثبات على “تدمير التراث“، موقع مصراوي، نشر في 25 أكتوبر 2015.
[15] قانون التصالح في مخالفات البناء يغضب كثيرين في مصر وجدل حول من يتحمل قيمة المخالفات، بي بي سي، نشر في 20 يوليو 2022.