نقدم مراجعة لكتاب عن الحضارة الإسلامية، للكاتب الألماني توماس باور[1]، لنعرف الفرق بين حضارة استوعبت بداخلها كل هذا التنوع والتعدد وتسامحت معه -كما خلص الكاتب- على عكس ما يعتقد كثير من الباحثين الغربيين، وبين حضارة ضاقت بمن حولها من شعوب وحضارات، واصفة غيرها بالعيوب والنقائص والتخلف الحضاري.
المسلمون قبل الحداثة وبعدها:
التعدد الحضاري أو تعدد القراءات الثقافي فى الحضارة الإسلامية، هو موضوع الكتاب الذي يركز على مقارنة حال المسلمين قبل العصر الحديث، وقبولهم للتنوع، وتعدد المعنى فى الدين والأدب والسياسة والفن، والسلوك الجنسي والحب، والسلوك مع الأصدقاء والغرباء والأقليات، إلى جانب تسامحهم مع هذا التعدد، وبين حالهم اليوم حيث الحداثة ذات البعد الواحد، إلى جانب التشابكات والتعقيدات فى العلاقة بين العالمين الإسلامي والغربي، وأشكال الغزو المختلفة علي العالم الإسلامي، وعلى كثير ممن ينتمون إليه.
يوجه فيه الكاتب سهامه إلي الحداثة الغربية، وإلى المتأثرين بها من بني جلدتنا، وللمفارقة فإن الأصوليين والعلمانيين سواء فى النظر إلى التراث عامة، وموضوع التعدد خاصة، يضيق صدر كليهما بالتراث، ويقف أمامه بمشاعر متناقضة وكراهية، نتيجة للقمع والغلبة العسكرية والاقتصادية.
وكذلك بسبب الموقف المتناقض من الغرب الذي يرى أنه آلة للتدمير، وماكينة لصنع التقدم والمستقبل فى نفس الوقت، كان عدم التسامح مع التراث والتعدد، ويرجع هذا فى الأساس إلى الحداثة عند الغرب، وإلى عملية العقلنة التي تتميز بها، فالعقلنة تتطلب معايير موحدة، لذلك يعد التعدد إزعاجًا يصل حد العداء معها.
وعلى العكس، كان التعدد مقبولًا فى العالم الإسلامي الكلاسيكي قبل الحداثة، باعتباره مكونًا من مكونات الوجود، له جوانبه الحسنة والسيئة، ويمكن مراقبته أو ترويضه، لكن لا يمكن اقتلاعه.
وهناك فرق بين التعدد الحضاري والتسامح الاجتماعي، فالتعدد الحضاري هو أن يحمل مفهوم أو طريقة فعل أو شيء ما معنيين متناقضين، أو متنافسين ومختلفين عن بعضهما بوضوح، والتسامح معه هو قبول التفسيرات المختلفة، دون الإقرار بامتلاك الحقيقة المطلقة.
بينما التسامح الاجتماعي الأخلاقي؛ هو رد فعل على موقف واضح يفترض فيه التفريق بين النفس والغير، فالإنسان يمكن أن يتسامح مع التفسيرات الأجنبية بجانب تفسيراته الخاصة دون أن يحاربها، بينما التعدد هو القبول بإمكانية صحة أكثر من تفسير.
وفى العالم الإسلامي التقليدي السني، كان يحدث هذا التعدد الحضاري فى الغالب، عندما يصطدم تفسير جديد بتفسير قديم، فيتم التوصل إلى حلول توافقية، وتدمج نماذج التفسير، وتتجاور بجانب بعضها.
التعدد في علوم الدين والدنيا:
القرآن فى نصه أول مثال مميز على التعدد فى الحضارة الإسلامية، حيث نزل على سبعة أحرف، وعندما حدثت أزمة بسبب التعدد تم ترويضها فى عهد الخليفة عثمان بن عفان، بنسخ المصحف على لهجة قريش، وتوزيعه فى الأمصار، فزال اللبس ولم يزل التعدد.
وكان العلماء في الفترة الكلاسيكية قبل الحداثة يعتبرون ذلك مصدر فخر وسعادة، فهي إرادة الله تخفيفًا عن الناس، ومن أجل الإيجاز أيضا وسهولة الحفظ، وتحفيز الأمة لتفريغ جهدها فى تتبع المعنى، واستخراج الأحكام.
واليوم فى عصر الحداثة نجد طه حسين، وهو المتأثر بالفكر الغربي، ومذهب الشك عند ديكارت، ينكر تعدد القراءات معتبرًا أنها لا تنتمي للتنزيل، وعلى النقيض فى الفكر والاتفاق فى نمط التفكير نجد أحد منظري الإسلام السياسي أبو الأعلى المودودي، فى موقف مشابه لا يقول به سوى شخص لم يسمع عن علم القراءات.
وفي موقف ثالث نجد ابن عثيمين الشيخ السلفي الوهابي، ما يعني أن الثلاثة لا يجمعهم سوى التأثر فى الحداثة، والتوافق مع طرق التفكير الغربية، لذا اتخذوا موقفًا جماعيًا من القراءات وتعددها، إما الإنكار أو الصمت، أو اعتبارها ظاهرة جانبية.
والقرآن فى معانيه مثالٌ للتعدد أيضا، وتلك هي إرادة الله ونعمة منه، ونوع من الإثراء كما التعدد فى القراءات، فالقرآن هو البحر الذي لا قرار ينتهي إليه، ولا غاية لآخره، يقف عليه منفتحًا على المستقبل، ومن ثم فلا حاجة للأمة إلى نبي بعد نبيها، كما كانت الأمم من قبل.
انتهي الوحي لكن مضمونه لم ينضب، لأن معانيه لا تنضب، وفى الغرب اليوم فى ظل تسيد حضارة تطالب بإجابات واضحة، ولا تريد قبول تجاور حقائق مختلفة فى نفس الوقت، يعتقدون أن وجود معانٍ متجاورة هو نوع من السفسطة، أو عدم فهم من المفسرين للقرآن، ونجد أثر ذلك فى المتأثرين به من الأصوليين والعلمانيين على السواء.
فى رواية الحديث والفقه وُضعت نظرية الاحتمال لتعالج قضية التعدد وتروضها، فهناك معايير على أساسها يأخذ الحديث درجته فى الصحة، ومازال هناك أحاديث ليست محددة حتى الآن، باعتبارها صحيحة يمكن أن تُصحح، وذلك في ظل وجود مناهج نظرية تحتاج لتطبيقها بعناية.
فقضية التصحيح لم تنته، وما كان اختيار ست كتب فى الحديث، إلا خدمة لعملية التخفيف والتبسيط، وكي توفر لغير المتخصصين مادة علمية يمكن الوثوق بها إلى حد ما، كما تغطي مجالًا واسعًا من الموضوعات، وقد أتاح ذلك الفرصة لتشكيل المجتمع مع التخلي عن ادعاء الحقيقة.
وتتعدد المصادر التي تُستنبط منها الأحكام الفقهية، والأدلة الشرعية، والعلوم المساعدة على استنباطها، كالمنطق واللغة، لذلك لم يكن هناك مفر من اتخاذ العلماء الكلاسيكيين آراء متنوعة، مما يؤدي إلى الاختلاف الذي كان مفهومًا مركزيًا مهمًا، لتتعايش المسائل والآراء المختلفة فى القضية الواحدة، متجاورة مع بعضها البعض، ليس فقط تسامحًا معها، بل باعتبارها أمرًا ضروريًا.
واليوم أصبح اتباع مذهب فقهي ليس سوى شر أو بدعة، حسب نظرية “اللامذهبية” التي ألفها الوهابيون فى محاولة لادعاء الحقيقة الواحدة، وبتحفيز من الحداثة الغربية حيث لم تعد كثير من القضايا والموضوعات التراثية مناسبة للخطابات السائدة فيها، وقد اعتبر العالم السوري محمد رمضان البوطي هذا الأمر أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية.
واللغة العربية خاصة الشعر القديم منها، يعد الأساس الثاني للحضارة العربية بعد الإسلام، إلا أنه يتعرض للإهمال منذ القرن العشرين، رغم أنه ضروري لفهم تاريخ صدر الإسلام، فمنه نتعرف على أحوال العرب وأخلاقهم في الجاهلية.
وعندما عملت الدولة الإسلامية بعد ذلك على التعريب في الإدارة، كانت لغة الشعر لغة معيارية فى ظل تعدد اللهجات، وتم ذلك فى عقود قليلة بما يعد معجزة يمكن تفسيرها باستعداد العرب اللغوي، فقد امتلكوا حضارة لغوية بامتياز.
وقد كان من أهم وسائله الإبداعية هي الكلمة البديلة، التي تثبت قدرة الشاعر فى توليفه الماهر بين المسميات القديمة والمخترعة، وأدى ذلك إلى ثراء اللغة وحفظ علوم الحضارة.
ثم كانت ظاهرة الأضداد والشغف بها دليلًا آخر على تعدد المعنى فى اللغة، والضد فى معانيها، كلمة تعطي الأمر وفى نفس الوقت عكسه، وأُلفت فيها الكتب، ورغم أنها لم تكن لكتابتها نفعًا تطبيقيًا إلا أنها كانت شيقة ولطيفة، وينظر إليها عند الغرب اليوم باستخفاف تُعاب بها لغة العرب.
وفى الجنس والحب كان تاريخ أوروبا حربًا على تعدد المعنى فيه، بداية من المسيحية وموقفها المتناقض من الفعل الجنسي، حيث يعد ذنبًا يستحق اللعنة، ولا يمكن تجنبه لبقاء البشر، فكان الاعتراف الديني هو الوسيلة للتخلص من هذا التعدد.
وعالج الغرب الأزمة، فكان علم العلاقات الجنسية للتخلص من الموروث المسيحي حربًا أخرى على تعدد معنى الجنس، فبفضل التصور الجديد تعلم المرء بحث العلاقات الجنسية، وتصنيفها فى مجموعة خاصة منفصلة عن بقية مجالات مشاعر الإنسان وأفعاله، لذا انحسر فى مشاعر محددة، وانتقلت سلطة التفسير والتقويم فيه من الدين إلى الطب، كما تمت علمنة التحذير من الإثم، ونقلها إلى قواعد ضرورية لحياة جنسية صحيحة، مع استبدال الخوف من العذاب إلى الخوف من الانحراف والمرض والموت.
وفى الشرق لا يعد الجنس مُخيفًا أو معيبًا، وقد كان تعدد الخطابات التي تعبر عنه هي السبب الرئيسي فى ذلك، فرغم وجود خطاب ديني، إلا أن المؤلفات غير الدينية موجودة بعدد أكبر، وهناك تعدد آخر فى الخطاب أسيئ فهمه، وهو الغزل وكتابة قصائد الحب، حيث اعتبره البعض شذوذًا، وذلك بسبب إفراد المعنى فى الغرب.
بينما فى التعدد الإسلامي كان هناك قصائد تبدأ بالغزل فى الغلمان، ولا يُساء فهمها، بل قد يكتبها علماء أفاضل، أما اليوم فقد ساد خطاب الغرب وأصبح تأثيره واضحًا فى مجال الجنس على العالم الإسلامي المعاصر.
وفى السياسة والحكم؛ سادت خطابات دينية ودنيوية تعبر عن ماهية الفكر السياسي الإسلامي جنبًا إلى جنب، دون المصادرة أو نزع الشرعية عن إحداها، فهناك الخطابات العقدية التي عبر عنها علماء الكلام، وهي أقدم الخطابات الدينية حول الحكم، لكنها لم تكن أقدم الخطابات السياسية، فهناك الشعر الذي يعود إلى عصر ما قبل الإسلام، والذي يتناول فيه الشعراء مؤهلات الحكام والممارسة الشرعية للحكم.
كما أن هناك خطاب الفلاسفة، وهو أيضا مستمد من حضارة اليونان، وإرشادات الحكام الذي اقتُبس من الفرس، ولم يكن لأحد هذه الخطابات اليد العليا، بينما يسود بين الإسلاميين اليوم الخطاب العقدي والفقهي باعتباره المعبر الوحيد عن الحكم الإسلامي، والذي من ضحاياه التصورات عن الحكم والدولة والسياسة.
والحديث عن الغريب والأقليات فى المجتمعات الإسلامية، يعطينا نموذجًا آخر لقبول التعدد والتسامح معه، حيث لم يكن فى وعي الناس ما يمكن وصفهم بالغرباء في مقابل أهل البلد، لذلك لم يكن هناك شعور باعتبار الغرباء تهديدًا جماعيًا، ولم يظهر اضطهاد مستمر أو أعمال عنف أو ملاحقة للأجانب بانتظام أبدًا.
ويمكن القول بأن إقصاء الغرباء قلما كان يلعب دورًا فى تكوين الهوية الخاصة، وأن الإحساس بالغرباء باعتبارهم مجموعة قادمة من الخارج، يختلفون عن الأهل بسبب غربتهم كان أضعف بكثير عما هو الأمر عليه فى أغلب الحضارات الأخرى، بينما الغريب فى الحداثة هو السم القاتل، حيث يجري اتهامهم بجلب الخارج للداخل، وقد كان للأقليات من غير المسلمين وضعًا قانونيًا مستقلًا، كما تم دمجهم فى حياة المدينة والريف إلى حد كبير، لكنهم كانوا مواطنين من درجة أدنى، لطبيعة المجتمع الذي يصف نفسه بالأمة.
تعقيب:
قد حمل الكاتب الحداثة والمسلمين فى زمانها أكثر مما ينبغي، ولا نشك فى تأثيرها واختراقها، إلا أن المسلمين ومن زمن ما قبل الحداثة قد سرت فيهم من الأمراض كاليأس وموت الصدق فى الحياة الاجتماعية والسياسية ،والحرص على المنفعة الشخصية، والجهل والعداوة والاستبداد، ما جعلهم عرضة للاختراق.
لم تشر الدراسة إلى علم الكلام إلا قليلا، وهو من العلوم التي شهدت تعددًا فى المعنى وترويضًا لهذا التعدد داخل البيت السني الكلاسيكي قبل الحداثة، وهو من الأهمية بمكان، حيث تشهد البلاد الإسلامية صراعات فكرية يسود فيها الاعتقاد بالحقيقة الواحدة، ويغيب عنها معنى التعدد، وقبوله بين الحركات والتيارات الإسلامية والدينية.
ويجب التنبيه على أخطاء الترجمة، فهي للأسف كثيرة، وكذلك الأمر بالنسبة لأخطاء إملائية ونحوية وأسلوبية أخرى تحتاج إلى مراجعة.
فى النهاية؛ إن عدم التسامح مع التعدد هو طريق العنصرية، والاستعلاء العرقي والتعصب والتزمت والاستبداد، وربما تجد إجابات عن الأزمات الفكرية والاجتماعية والسياسية، وعن تنامي ظاهرة الإلحاد فى ظل غياب هذا المعنى عند المسلمين اليوم.
المصادر
[1] الأستاذ الدكتور توماس يورغن باور Thomas Bauer، مستعرب ألماني معاصر ولد 27 سبتمبر 1961 في نورنبرغ متخصص في العلوم العربية والإسلامية. ، أستاذ الدراسات الإسلامية والعربية، جامعة مونستر.