هذه المراجعة ترجمة عن مراجعة منشورة بالإنجليزية مع بعض التعديلات.
Amasha, M. (2021). Saṭwat al-Naṣ: Khiṭāb al-Azhar wa Azmat al-Ḥukm (By Basma Abdel Aziz). American Journal of Islam and Society, 38(1-2). https://doi.org/10.35632/ajis.v38i1-2.2947
التزمت الأدبيات الأكاديمية التي تتناول شأن العلماء والانتفاضات العربية الصمت بشكل يدعو للاستغراب حيال الأزهر وشيخه الدكتور أحمد الطيب، اللهم إلا القليل جدًا من الاستثناءات التي كسرت حاجز هذا الصمت. ويقدم كتاب “سَطوة النَصّ: خطاب الأزهر وأزمة الحُكم” مساهمة قيّمة في الأدبيات الأكاديمية في هذا المضمار، وذلك على الرغم من أن الكتاب لم ينل اهتمامًا كبيرًا، على الأغلب لكونه مكتوبًا باللغة العربية.
كانت قد أعدّت بسمة عبد العزيز، وهي كاتبة وطبيبة نفسية وفنانة تشكيلية وناشطة حقوقية، مادة هذا الكتاب في البداية كبحث لنيل درجة الماجستير في علم الاجتماع. لكن النظام القمعي الذي جاء مع انقلاب 2013 خلق أجواءً من الخوف امتدت إلى المؤسسات الأكاديمية المصرية، والتي بدورها لم تقبل انتقادات الباحثة للرواية الرسمية. عندها قررت المؤلفة التخلي عن مسعاها لنيل الدرجة العلمية من خلال هذا البحث، وقامت بنشر الأطروحة على هيئة كتاب موجَّه إلى جمهور أكبر من القراء.
تحلّل المؤلفة تصريحات شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب من يونيو إلى أغسطس عام 2013، استنادًا إلى أساليب التحليل النقدي للخطاب، وذلك بعد أن استرعى انتباهها التناقضات الموجودة في خطاب المؤسسات الدينية الرسمية. كما تعتمد المؤلفة أيضًا على عدد من المقابلات مع بعض كبار علماء الأزهر الذين شاركوا في كتابة هذه التصريحات أو الذين كانوا قريبي الصلة بقيادة الأزهر في تلك الفترة.
ويركز الكتاب على محورين رئيسيين في التحليل هما: كيف يبنى الأزهر هويته خطابيًّا، وأين يقع الأزهر في هرم السلطة مقابل السلطة السياسية الحاكمة وجماعات المعارضة.
الأزهر: الهوية وعلاقات القوة
يبدأ الكتاب بمقدمة للدكتور عماد عبد اللطيف، أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بجامعة قطر، ليعقبها مقدمة المؤلفة التي تختتم الكتاب بعرض ملاحق تتضمن جميع التصريحات الأولية والثانوية التي تم تحليلها بين دفتي الكتاب، بالإضافة إلى عرض موجز للمقابلات التي أجرتها.
وقد تم تقسيم صُلب الكتاب إلى ستة فصول: الفصل الأول ويشمل مقدمة نظرية، والفصل الثاني ويتناول تأسيس السياق العام حيث يناقش الأحداث الاجتماعية والسياسية الكبرى خاصة تلك المتعلقة بالأزهر خلال الفترة ما بين انتفاضة 25 يناير 2011 وأغسطس 2013.
يتناول الفصل الثالث الأدوات المستخدمة في تحليل الخطاب حيث يعرض المنهجية التي تستخدمها المؤلفة في عملية التحليل بما في ذلك مفاهيمها المهمة مثل: وصف الذات، تمثيل الآخرين، استخدام الضمائر وأدوات التعريف، والتضفير الخطابي. ثم يأتي الفصلان الرابع والخامس اللذان يمثلان الجوهر التحليلي للكتاب، وأخيرًا الفصل السادس الذي يقدم خاتمة الكتاب وما توصل إليه البحث من استنتاجات.
ويركز الفصل الرابع من الكتاب على تحليل عملية إنشاء الأزهر لهويته. ففي البداية توضح المؤلفة كيف لا تنفك هوية الأزهر عن شيخه الذي يجسد المؤسسة ويتحدث باسمها.
الاستثناء الوحيد الذي يمكن الإشارة إليه عند التطرق لهذه القاعدة -بحسب المؤلفة- كان التصريح الذي أدلى به الشيخ أحمد الطيب في يوم الانقلاب حيث ضُغط عليه للانضمام إلى بيان السيسي.
وعندئذٍ استخدم الطيب في حديثه ضمير المتكلم أثناء إعلان دعمه للانقلاب دون الإشارة إلى الأزهر الذي كان ضمن قياداته أحد أشد المعارضين للانقلاب وهو الدكتور حسن الشافعي كبير مستشاري شيخ الأزهر الذي استقال من منصبه في أعقاب الانقلاب.
وتُبين المؤلفة أيضًا كيف قام الأزهر بإنشاء هويته معتمدًا على الارتباط الجوهري بين المجالات الدينية والسياسية والوطنية. ولكن يبدو أن هوية الأزهر الدينية كانت هي الهوية الأساسية من بين تلك المجالات الثلاث حيث تشير المؤلفة إلى أن شرعنة الأزهر لمعارضة محمد مرسي -الرئيس المنتخب القادم من جماعة الإخوان المسلمين- كانت تنبع من رغبة الأزهر في احتكار السلطة الدينية التي كان ينازعه عليها الإخوان. وهذا ما يفسر موقف الأزهر المتناقض عندما قام بنزع غطاء الشرعية عن الاحتجاجات التي اندلعت ضد حسني مبارك ونائبه عمر سليمان عام 2011، والأمر نفسه حدث مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة عام 2012.
يركز الفصل الخامس من الكتاب على علاقات السلطة. وقد كانت ردود أفعال/مواقف الأزهر في تلك الأشهر الثلاثة مبهمة، مذعنًا للسلطة السياسية أحياناً ومقاومًا لها أحيانًا أخرى.
وقد تجلَّت مقاومة الأزهر للسلطة السياسية في لهجته الحاسمة التي استخدمها في خطابه في أعقاب الانقلاب من المطالبة بـ “الإفراج الفوري عن السجناء السياسيين” والبدء الفوري في مصالحة وطنية شاملة وإدانة استخدام القوة المميتة حيث وصفها بأنها “أعمال دموية” فضلًا عن الدعوة إلى “العقاب الفوري للمجرمين الذين ارتكبوها بغض النظر عن انتماءاتهم أو مناصبهم”. بينما كان إضفاء الشرعية على مظاهرات 30 يونيو المناهضة لمرسي والانقلاب عليه يُعتبر دعمًا لنظام الانقلاب.
تدلل المؤلفة على أفعال الأزهر المذعنة للسلطة ببيان للطيب تفسره المؤلفة على أنه كان بمثابة دعم لدعوة السيسي إلى تنظيم احتجاجات جماهيرية لمنحه “تفويضًا لمواجهة العنف والإرهاب المحتمل” وذلك على الرغم من كون الأزهر قد أطلق دعوات للحوار بين مختلف الأطراف السياسية.
ماذا يضيف هذا الكتاب؟
وبالنظر إلى أنني عملت على دراسة العلماء والربيع العربي على مدى ثلاث سنوات، فإنني أرى أن هذا الكتاب يُعدّ مساهمة فريدة في هذه الأدبيات. فعلى الرغم من تبوء الطيب قيادة ما يُقال بكونه أعلى سلطة سنّية في العالم، فقد تم إهمال دوره من قبل معظم الباحثين في هذا المجال حيث تركزت الأدبيات القليلة التي تناولت الأزهر حول تأثير الانقلاب على سلطة الأزهر بدلًا من تحليل المواقف السياسية للطيب في المقام الأول وهو ما يتعرض له هذا الكتاب، سادًّا تلك الفجوة.
أمّا عن أهم إسهامات الكتاب من وجهة نظري، فهي تقديمه لبيانات جديدة ليست متوفرة لمعظم الباحثين. فقد هيّأ إجراء البحث بالتزامن مع الأحداث محل الدراسة فرصة مثالية للمؤلفة لجمع البيانات غير الخاضعة للرقابة حيث لم تعد العديد من تلك البيانات التي كانت متوفرة آنذاك متاحة عبر شبكة الإنترنت.
وتعتبر البيانات التي تم جمعها من خلال المقابلات التي قامت بها المؤلفة على نفس القدر من الأهمية -رغم إهمال اللجوء إليها بشكل عام في الأدبيات الحالية- وقد كانت ضرورية من أجل فهم كواليس المواقف المعلنة للعلماء فى القضايا العامة. وقد سمح وجود الكاتبة في مصر والشبكة الواسعة لعلاقاتها بالوصول إلى كبار العلماء في مشيخة الأزهر.
إن الانضباط المنهجي في تعامل الكاتبة مع أسئلتها هو ما يجعل هذا الكتاب ناجحًا. فاختيارها لنطاق البحث وهو الأزهر في تلك الأشهر الثلاثة الحاسمة كان موفَّقًا، إذ أظهرت التطورات السياسية الدرامية خلال تلك الفترة مدى أهمية القيود الهيكلية لفهم تناقضات العلماء ومواقفهم السياسية.
كما أن الكاتبة لم تقتصر في تحليلها على بيان الانقلاب الذي كثيرًا ما يُستشهد به في الأبحاث، بل تناولت معظم البيانات التي صدرت في تلك الفترة بشكل يعكس تعقيد المشهد ويتجاوز الأحادية التي تعاني منها الكثير من الأدبيات في هذا الصدد.
وبالإضافة إلى ذلك فقد نجحت الباحثة في تعزيز البيانات الأولية ببيانات ثانوية ضرورية لتكملة المشهد من خلال بيانات صدرت في غير تلك الفترة أو من شخصيات أخرى. وفي حقيقة الأمر فإن إعادة بناء سياقات النصوص كان له نفس الأهمية التي تمثلها النصوص نفسها.
يعكس استخدام المؤلفة لمنهجيات متعددة استيعابها للتعقيد الذي اتسمت به هذه الظاهرة. فعلى الرغم من أن التحليل النصي/الخطابي هو الأسلوب السائد في دراسة العلماء إلا أن استخدام التحليل النقدي للخطاب الذي يهتم بشكل أساسي بعلاقات القوة لم يسبق له مثيل في جميع الأدبيات التي أعرفها. وقد سمح جمع المؤلفة بين التحليل النقدي للخطاب والمقابلات الشخصية بإنتاج بيانات نصية وسياقية وبالتالي إجراء تحليل متوازن للخطاب، كما دُعمت الحجج التي ساقها الكتاب بالشواهد الإمبريقية. وبالفعل، فإنه عندما كانت استنتاجات المؤلفة لا تستند إلى أدلة واضحة كانت تقدم تفسيرات أخرى محتملة، معترفةً بعدم وجود دليل واضح. وأخيرًا فإن تحيز المؤلفة ضد مواقف الأزهر السياسية لا يصبغ التحليل الأكاديمي الذي يقدمه الكتاب، ما يتماشى مع الانضباط المنهجي للمؤلفة في تحليلها القائم على الدليل.
نقاط الضعف في الأطروحة
أما عن المأخذ الأكاديمي الرئيس الذي يؤخذ على الكتاب فهو عدم موضعته ضمن الأدبيات العلمية السابقة ذات الصلة سواء كانت هذه الأدبيات نظرية أو إمبريقية على الرغم من وجود أدبيات عديدة نُشرت عن تفاعل الدين بل والأزهر تحديدًا مع السياسة. وحتى عند تقديم التحليل النقدي للخطاب وهو منهجية مُبَطّنَة نظريًّا، فإن الكتاب لا يحتوي على مراجعة جادة للمدارس المختلفة التي تم تطويرها في هذا المجال وذلك على الرغم من طلاقة المؤلفة في اللغة الإنجليزية. ويمكن تفسير هذا النقص في مراجعة الأدبيات من خلال حقيقة أن الكتاب كان موجهًا إلى جمهور واسع من القراء، الأمر الذي تطلب الاختصار وتحاشي العديد من المناقشات الأكاديمية من أجل الوصول إليهم.
يضم الكتاب أيضًا بعض نقاط الضعف الفنية بما في ذلك العديد من الأخطاء اللغوية مثل أخطاء إملائية وكلمات مفقودة. وعلى الرغم من أن الكتاب كُتِبَ بلغة واضحة وسهلة القراءة فإن ميل المؤلفة إلى التغاضي عن ذكر الأسماء والاكتفاء بذكر مناصبها قد صعَّب من إمكانية قراءة الكتاب بشكل تفصيلي وفاحص. فبينما كنت أعتقد أنه من المحتمل أن يكون هذا المنحى الذي اتخذته المؤلفة يهدف إلى حماية الأشخاص الذين اقتبست أقوالهم من بطش الدولة إلا أنني وجدت أن هذا كان اتجاهًا عامًا في الكتاب، فعلى سبيل المثال بدلًا من أن تكتب “علي جمعة، المفتي السابق” كتبت “مفتي سابق” دون ذكر اسمه مما تطلب مني التحقق من كل مصدر لمعرفة الشخص الذي تم مناقشة كلامه أو تناول موقفه.
وأخيرًا فإنه من المؤسف أن الظروف السياسية في مصر آنذاك قد حدَّت من فرص خروج الكتاب بشكل أفضل حيث قوبلت طلبات المؤلفة لإجراء بعض المقابلات مع بعض كبار علماء الأزهر إما بالرفض بشكل مباشر أو بتقديم بعضهم لإجابات مبتسرة أو بعدم السماح بنشر أجزاء من البيانات التي أدلوا بها. وهذا ما اضطر الكاتبة إلى المناورة أثناء الكتابة حتى لا تؤذي من قابلتهم حتى لو كانوا قد وافقوا على نشر مقابلاتهم.
خاتمة
على الرغم من بعض المآخذ على كتاب “سَطوة النَصّ: خطاب الأزهر وأزمة الحُكم” فإنه يُعد مساهمة قيّمة في الأدبيات الأكاديمية حول مواقف العلماء السياسية بشكل عام ومواقف الأزهر السياسية بشكل خاص. وإنني لأعتقد أن الأدبيات التي تتناول العلماء والانتفاضات العربية تحتاج إلى توثيق ممنهج بحيث يمكن تزويد الباحثين ببيانات غزيرة حول “ما حدث بالفعل” فيما يتعلق بمواقف العلماء وهي المهمة التي قام بها هذا الكتاب بنجاح. وإنه من الواجب تعزيز هذا الجهد من خلال تقديم المزيد من الدراسات حول نفس الموضوع أو حول علماء آخرين. فلا يمكننا أبدًا تقديم تفسيرات دقيقة لتفاعل العلماء مع السياسة بما فيها من التعقيد سوى من خلال توفر شواهد إمبريقية مجمعة بشكل منهجي.