في كتابه “إصلاح الحداثة: الأخلاق والإنسان في فلسفة عبد الرحمن طه”، قدم وائل حلاق قراءته لفلسفة عبد الرحمن طه، الذي يوصف بأنه أحد أهم فلاسفة المسلمين في العصر الحديث، وينعته بـ”مولانا” على عادة تلاميذ عبد الرحمن
يمثل عبد الرحمن صوتًا نقديًا نادرًا منذ بداية عصر التنوير، إذ استوعب عبد الرحمن تمامًا كلا من التراثين الإسلامي والغربي، وهضمهما ونقدهما، وعلى عكس كانط وفوكو، اللذين انشغلا -باقتدار- بسؤال: “ماذا نحن الآن؟”، سعى طه من خلال مشروعه للإجابة عن سؤال: “ماذا يمكن أن نكون؟ وكيف؟”
كذلك تجاوز عبد الرحمن الأسس المعرفية للإصلاح الإسلامي الحديث -بكل توجهاته- رغم أنه انطلق منها أصلا، وقد طرح عبد الرحمن في مشروعه بديلًا عن كل المشاريع السابقة، تمحور حول الأخلاق وفلسفتها كناظم لكل الموضوعات التي تناولها بالدراسة والبحث، ومنها: اللغويات، المنطق، الأنطولوجيا، العقل، العنف، المادية، واللغة وغيرها.
تدور قراءة حلاق لفلسفة عبد الرحمن، حول هذا العصب المركزي لمشروعه: الأخلاق، حيث يدور مشروع عبد الرحمن حول استعادة الحداثة للأخلاق ،ووضع الأسس لحداثة إسلامية أخلاقية، كما يطرح حلاق مسألة استعادة الصلة بين الدين والأخلاق، “فلا دين بغير أخلاق، ولا أخلاق بغير دين”، فالأخلاق ليست صفة زائدة أو كمالية، بل هي أصيلة في تكوين الفرد بوصفه إنسانا، وجوهر الإنسانية عنده الأخلاق ليس العقل.
لم تكن نية حلاق أن يتفاعل نقديًا مع عبد الرحمن، بقدر كونه يقدم قراءة لأعماله، فهو يعتبر أن مشروع عبد الرحمن يتشارك الاهتمامات البحثية والهموم الفكرية معه، كما يمثل المشروع امتدادا لتأملاته الشخصية، الممتدة من كتاب “الشريعة: النظرية، الممارسة، والتحولات”، وصولا إلى كتابيه “الدولة المستحيلة”، و”قصور الاستشراق”
يصف حلاق منهجيته الحوارية بـ”الحياد الجزئي”، بمعنى أن حواره ونقده لعبد الرحمن انتقائي، إذ هو يتغاضى عن مسائل وقضايا كثيرة، يراها جديرة بالنقد والحوار، غير أنه سعى لأن يكون مخلصًا لمراد عبد الرحمن من كتبه، وألا يقطع القراءة الأساسية حول الأخلاق بقضايا أخرى هامشية.
نحو فلسفة إسلامية
إن عبد الرحمن ابن عصره وشروطه، فلم يكن له أن يظهر لولا ظروف تأسيسية متعلقة بتداعي عالم المسلمين وانهياره اقتصاديا واجتماعيا من جهة، وقدوم سلطة كولونيالية جديدة أعادت هندسة هذا العالم معرفيا وثقافيا ومؤسسيا وأبادته بنيوي من جهة أخرى
وهذ ما أدى إلى فتور الشريعة وإعادة خلق الإنسان المسلم كـ”تابع” يرى العالم من عدسة الدولة القومية والأمة، كل هذا لم يكن رؤية جديدة للعالم فحسب، بل منهجا جديدا للحياة كذلك
عبد الرحمن طه وليد حقائق وأزمات هذا الانهيار والقطيعة المعرفية مع اثني عشر قرنًا من التقاليد الإسلامية، كما يعتبر الاستثناء الأبرز[1] من المفكرين السابقين والمعاصرين، الذي نجا من مشاكل نقص الفهم والوعي، وعدم إدراك معضلة المسلمين في عصر الحداثة، إضافة لسوء استدعاء هوامش من التراث بهدف الانقلاب عليه.
فقد سقط هؤلاء المفكرون[2] رهينة لاستلاب الحداثة، وفشلوا في الإجابة على السؤال المركزي والمحوري الأصيل: “كيف يمكن تركيب التراث -بتكوينه الأخلاقي- في منظومة المعرفة الحديثة المختلفة عنه نوعيًا ومعياريًا؟”.
لا يمكن فهم عبد الرحمن خارج هذه السياقات، التي هي نقطة انطلاقه، فلقد تمكن عبد الرحمن من نقد وتجاوز المشكلات المركزية للمفاهيم الغربية والعربية-الإسلامية عن الحداثة، كما تظهر في مشروع محمد عابد الجابري المحاصر في تناقضاته وإشكالياته.
على عكس الجابري المتوتر والمتردد بين ثنائية الذات الأوروبية العلمانية والذات الأخلاقية الإسلامية، رفض عبد الرحمن هذه الثنائية بشكل قاطع، وتبنى الذات الأخلاقية الإسلامية على وجه الحصر، وكان هدف عبد الرحمن المعلن والواضح، هو تشييد نظام فلسفي إسلامي يجيب على الأسئلة الجديدة والقديمة التي تم طرحها في النقاشات حول التراث والحداثة، وهي نقاشات عمرها قرن على الأقل، لذلك فإن عبد الرحمن ينشئ قاموسه الفلسفي الخاص لتطوير نظام فكري إسلامي أصيل
استعادة الإنسان المنسي
يمكن تلخيص مشروع عبد الرحمن الأخلاقي في عدة مقولات أساسية: انطلاقًا من أن الفكر العربي-الإسلامي المعاصر أساء التعامل مع التراث، وأن هذا يعود في أغلبه إلى عدم القدرة على شق طريق معرفي مستقل لنفسه، لذا فإن عبد الرحمن يجادل بأن الأولوية الآن هي إيجاد منهجية جديدة لإعادة التفكير في حاضر وماضي هذا الفكر المأزوم.
إن الانسداد المنهجي الذي يعاني منه هذا الفكر مصدره الاعتماد الساذج غير النقدي على التطبيق الغربي الضال لروح الحداثة، بل إن هذا التطبيق الغربي يتم إساءة فهمه أساسًا، ومن ثم، إذا ما تجاوزنا التطبيق الغربي، فإن روح الحداثة تصير صائبة بصورة عابرة للمجتمعات وللتاريخ.
إن لهذه الروح القدرة على إنتاج أشكال متعددة للحداثة، والحداثة الإسلامية واحدة منها، إن الحداثة الإسلامية المأمولة تختلف عن الحداثة الغربية المتحققة اليوم، في تأكيدها على الأخلاق كسمتها المميزة الأساسية، وهذه الأخلاق لا يمكن أن تنفصل عن الدين ولا عن السياسة.
إن الإسلام -بصفته وحيًا- يستطيع أن يؤسس لهذه النسخة من الحداثة، فالحداثة الإسلامية تقدم أولًا تصحيحات للحداثة الغربية، وثانيا نمط عيش وأسلوب حياة أكثر صلاحًا للعيش في العالم لا الاستعلاء عليه، وأخيرا لتحقيق هذه الحداثة الإسلامية لابد من رعاية وتطوير مفهوم عن الإنسان مختلف جذريًا عن مفهوم الحداثة الغربية.
يسمي حلاق هذا الإنسان “الإنسان الجديد”، غير أن عبد الرحمن يسميه “الإنسان المنسي” ويجادل بأنه ليس جديدًا، وإنما هو إنسان منسي يجب استعادته وتعديله لا إعادة خلقه.
يوجه عبد الرحمن نقده لثلاثة دوائر متقاطعة، المركز: الأولى دائرة شمال إفريقيا وتياراته الفكرية؛ والثانية دائرة العالم العربي-الإٍسلامي وتيارات النهضة؛ والثالثة دائرة الحداثة الأورو-أمريكية بما في ذلك مفاهيم عصر التنوير عن العقلانية والأخلاق، والدائرة الأخيرة وهي الأهم لدى عبد الرحمن لأنه يتبنى رؤية لإصلاحها واستبدالها ببديل أخلاقي.
كيف نجدد النظر في التراث؟
يميز عبد الرحمن بين التراث والثقافة والحضارة، ويعتبر الأول مستوعبًا للأخريين، كما يميز عبد الرحمن بين أنواع القيم المكونة لكل منهم، وعلى هذا الأساس يقدم تعريفه الخاص للتراث وقراءته، ويعتبره محمّلًا بالإمكانات الفلسفية والنقدية الحاكمة على كل من الثقافة والحضارة.
يقدم عبد الرحمن كذلك منظورًا ديالكتيكيا فريدًا يجمع فيه بين النظر والعمل، وهو ما فشلت مسارات الخطاب الإسلامي المعاصر المسكون بعدة مشكلات جوهرية في فهمه، كما يقدم عبد الرحمن نقدًا مطولًا وتفصيليًا للجابري، كأبرز مثال على فشل وتناقضات ذلك الخطاب، الذي يصمه عبد الرحمن بالعقلانية المجردة.
يرى عبد الرحمن أن هناك أشكال متعددة للحداثة، وكما أن هناك حداثة غير إسلامية يجب أن تكون هناك حداثة إسلامية، فهو يعرف الحداثة بأنها نهوض الأمة بواجبات زمانها، وكما أن هناك تعدد في أشكال الحداثة فإن هناك تعدد في الأمم كذلك، وقد تكون هناك أكثر من أمة إسلامية، ومن ثم أشكال متعددة من الحداثة الإسلامية، والتي يمكن أن تكون متزامنة كذلك.
إن ما يجعل الحداثة الإسلامية -على تعدد أشكالها- إسلامية حقا هو أولوية البعد الأخلاقي على ما سواه، أما الحداثة الغربية بأشكالها المختلفة، فإنها مجرد شكل من أشكال الحداثة وإن كانت أكثرها ذيوعًا، ويميز عبد الرحمن بين واقع الحداثة بمعنى التمظهرات المختلفة لها وروح الحداثة بمعنى الجوهر الواحد الذي طوره الإنسان منذ بدء الخليقة
يرى عبد الرحمن من من الواجب على المسلمين تبني روح الحداثة، أي تجاوز الواقع/التمظهر الغربي لها، والذي يقود إلى التخلف والانحدار والتمركز حول الإنسان، ويطرح عبد الرحمن القرآن والعولمة كمثالين لتطبيق روح الحداثة إسلاميًا، كما ينقد العقلانية الأداتية ويطرح بدلًا منها العقلانية المؤسسة على الأخلاق، التي تنتج رؤية للعالم تمكنه من تأسيس ما يطلق عليه “الحداثة الثانية”.
نحو حداثة إسلامية
إن أي حل حقيقي وأصيل لمشكلات الحداثة لا يمكن أن يأتي من بنى هذه الحداثة ذاتها، فهي حداثة سمتها أنها “حضارة قول” لا “حضارة عمل”، وهي حداثة تهيمن فيها الدولة بوطأة متزايدة على الحياة وتتقلص فيها الأخلاق إلى حياة الأفراد الخاصة.
وهي كذلك حداثة تعتمد على التقنية الإجرائية الأداتية التي تنزع القيمة عن الأشياء، وتسعى للسيطرة الشاملة والمطلقة، وهي حداثة استبعدت -استبعادًا غير مبرر- الأخلاق الدينية، وإن التحرر من طغيان حضارة القول يتطلب ما يصفه عبد الرحمن تجديد الإنسان.
وفي مقاربته للعلاقة بين الدين والسياسة، يصف عبد الرحمن هذه المقاربة بأنها “ذكر” لما نسيه “العلماني” – سواء الغربي أو مقلديه في العالم الإسلامي- و”عروج” إلى ما قعد عنه “الدياني” -أي الإسلاميين السياسيين- من أجل صوغ مفهوم جديد للسياسة
ويرى الجابري ونظراؤه الفكر العربي الإسلامي من زاوية الأزمة، ويسعون لقطع الأمة عن تاريخها، فإن عبد الرحمن يجادل بأن المشكلات المزمنة لهذا الفكر تنبع من خضوع العالم الإسلامي لهيمنة المعرفة الغربية، ويسعى في المقابل لوصل الأمة بثقافتها، ويتحدث عن التعافي بدلا من الأزمة
وفي إطار سعيه لاستعادة الحداثة للأخلاق ووضع الأسس لحداثة إسلامية أخلاقية، لا يسلك عبد الرحمن مسلك صبغ الحداثة بصبغة أخلاقية، وهو مسلك سلكه آخرون كثر في القرن الماضي، منهم الجابري وأركون وسروش وأبو زيد وغيرهم
يعمد عبد الرحمن لتغيير قواعد اللعبة ذاتها: لتغيير كيف نحيا في هذا العالم، حيث يستهدف عبد الرحمن ويركز بالأساس على الذات الإنسانية وأسسها المعرفية-النفسية والروحية.
يرى حلاق أن عبد الرحمن يسعى لصياغة مفهوم جديد عن الإنسان لا سيما في كتابه “روح الدين”، و”دين الحياة”
ثمة سمات أساسية لهذا الإنسان الجديد، هذه السمات مترابطة تشكل كلًا واحدًا متصلًا، ويتم تحقيق هذه السمات عبر تقنيات ومنهجيات متغيرة بطبيعتها، السمة الأولى هي المناعة ضد المادية وهي الرفض النقدي والمنظم لتأليه العالم المادي، والسمة الثانية هي عنصر السيادة المؤسس، وهكذا فإن الإنسان الجديد متحرر من نزعة السيطرة والاستعلاء والسعي للسلطة والقوة التي تميز الذات الحديثة.
يطرح عبد الرحمن في المقابل مفهومه عن الحياء، إن المفهوم الجديد للإنسان يتطلب أشكالا جديدة للتعليم والتثقيف والتربية، من أجل خلق منهج للعيش في العالم لا الاستعلاء عليه.
السمة الثالثة للإنسان الجديد، هي العيش في العالم، وهي تمثل نظاما معرفيا ونفسيا -أساسه المسئولية-، وتحدد كيف يحيا الإنسان، وما معنى أن يحيا في هذا العالم.
أما السمة الرابعة فهي وحدة النظرية والممارسة وعدم الفصل بينهما، ويبقى في الأخير تأكيد عبد الرحمن على التزام الإنسان بمسؤوليته الائتمانية والأخلاقية عن عالم تتنازعه أزمات الحداثة، التي لا يمكن إصلاحها من داخلها في ظل الإفلاس البنيوي المعرفي والأخلاقي للحداثة.
المصادر
[1] يمكن إضافة عبد الوهاب المسيري وناصيف نصار إلى هذا الاستثناء.
[2] أبرزهم حاليا محمد عابد الجابري نقيض طه عبد الرحمن.