يعتبر إنجاز المراجعات العلمية من أولويات العصر الحالي، حيث تشعبت المعارف وتعددت الكتب والإصدارات في شتى المجالات، وتنوعت بصورة تجعل من العسير على المتخصص الإلمام بكل ما كتب في تخصصه.
علاوة على أن يطلع على المصنفات التي تتصل بالحقل المعرفي الذي يعمل عليه، دون أن تكون من صلب التخصص، وهو ما يعطي أهمية كبيرة للعمل على إنجاز المراجعات العلمية.
لذلك فقد استقر المجتمع العلمي على اعتبار المراجعات العلمية “أعمالًا علمية في حد ذاتها”، وفي ذلك يقول الدكتور حشمت قاسم: “تعد المراجعات العلمية بما تنطوي عليه من جهد تركيبي أعمالًا علمية في حد ذاتها”[1].
الوصف البيبليوغرافي والمؤلف والمادة العلمية
جاء كتاب “النزاع على السنة: الإرث النبوي وتحديات التأويل واختياراته” في 494 صفحة، توزعت بين مقدمات وسبعة فصول، وأربعة ملاحق، وقد صدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر عام 2020.
ألف الكتاب الدكتور “جوناثان براون”، وهو أكاديمي أمريكي تولى العديد من المناصب الأكاديمية، من أبرزها رئاسة تحرير موسوعة أوكسفورد للإسلام والقانون.
وقد اعتنق الإسلام عام 1997، ودرس اللغة العربية، وله العديد من المؤلفات التي تشتبك مع قضايا شائكة في الفكر الإسلامي.
وبما أن لغة تدوين الكتاب الأصلية هي الإنجليزية فلا بد من التطرق إلى المترجم، وهو عمل مشترك بين عمرو بسيوني وهبة حداد، ومن الجدير بالذكر أن المترجمين سبق لهما ترجمة مقالين سابقين لذات الأستاذ، ولعل هذا يمهد للمزيد من ترجمة الأعمال القيمة للدكتور براون على يد المترجميَن المتميزين.
اشتمل الكتاب على مادة علمية قيمة، تناولها المؤلف بعمق يتناسب مع عقلية أكاديمية فائقة، كما أن منطلقاته الفكرية متميزة، حيث يختلف الكتاب في طرق الطرح وأساليب التناول عن الصورة التقليدية التي اعتاد علماء الحديث استخدامها في بحوثهم ودراساتهم.
وهو ما يمنح القارئ فرصة للحصول على إطلالة جديدة لأحد أكثر العلوم الإسلامية تمسكًا بالصورة التقليدية والنمطية في البحث والتأليف.
نظرة عامة للكتاب: الأفكار والمضامين
احتوى الكتاب على عدد من المقدمات لعل أبرزها، مقدمة المترجم التي طوّف فيها بالقارئ سريعًا حول المؤلف والأفكار الرئيسة للكتاب.
جاء الفصل الأول بعنوان: “المشكلات مع الإسلام”، وفيه تحدث تحت عنوان “عالم مملوء بالله” عن تجليات استدعاء النصوص الدينية في الواقع السياسي المعاصر، وكيف أن الفرق المتصارعة توظف النصوص للترويج أو التدليل على “شرعية” اختياراتها.
وتحت عنوان “أخذ النصوص وتأويلاتها على محمل الجد” تحدث عن منهجيته في تناول قضايا الكتاب، حيث سيقتصر على التقليد السني دون الشيعي، كما سينطلق دون منطق دفاعي سعيًا للوصول إلى نتيجة علمية دقيقة.
وهو في أثناء ذلك يستحضر المؤلف الفترة التي عاشها في مصر إبان ثورة ،2011 وحضوره مجالس العلم في الأزهر الشريف، وهو ما يضفي على الكتاب زاوية أعمق من مجرد التنظير، أو الدرس المجرد لهذه القضايا الشائكة.
في الفصل الثاني الذي عنون له بـ “خارطة التفسير الإسلامي للتقليد”، اختار المترجم لفظ “التقليد” ترجمة لمصطلح tradition، وهو يعني تعاليم الإسلام عمومًا وفق المستخدم في كتابات المستشرقين.
وهو هنا يستعمل في التعاليم التي مصدرها من غير القرآن الكريم، ولقد أوضح المترجم أسباب عدم اختياره استخدام مصطلح “السنة” أو “التراث”، واختياره مصطلح التقليد في هامش مقدمة الفصل.
طاف المؤلف بين شاه الله الدهلوي وكتابه “الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف” من عصر الصحابة وصولًا إلى زمن الدولة العثمانية حيث عاش الدهلوي.
وتوقف مليًا في محطة الإمام أبي حنيفة واستخدامه للقياس كأداة من أهم أدوات الاجتهاد الفقهي، والإمام مالك واعتباره لـ”سلطة العرف” متجلية في اعتماده على عمل أهل المدينة باعتبارها أحد الأدلة الشرعية.
وصولًا إلى الإمام الشافعي و”بدايات الإسلام السني” على حد تعبير المؤلف، حيث اعتمد على السنة بصورة كبيرة في مذهبه الفقهي، ورأيه معروف في قضية خبر الواحد.
وتعرض لمسائل أصول الفقه والدرس العقدي والتصوف، وصولًا إلى “محطمي الأيقونات” -وفق مصطلح المؤلف- ولعل أبرزهم هو ابن تيمية، وخلال هذه الرحلة الطويلة ينطلق المؤلف من حالة شخصية للدهلوي ليصل إلى الفكرة التي دونها في كتابه وهي مزاوجة ممتعة للقارئ.
جاء الفصل الثالث بعنوان: “الحقيقة الهشة للنصوص” وتناول فيه حقيقة وجود نصوص “محيرة” وعصية على الفهم، مثل حديث غمس الذبابة التي وقعت في الشراب، وحديث صفة خلق آدم عليه السلام، وغيرها من الأحاديث “المشكلة أو الجدلية”.
وقارن بين تعامل ابن حجر مع هذا الإشكال بقوله في حديث خلق آدم “لم يظهر لي إلى الآن ما يزيل هذا الإشكال”، وبين موقف محمود أبو رية وغيره ممن وقعوا في صراع بين “اليقين الذي يتبناه العلم الحديث وهيمنة عولمة الإدراك الغربي، وبين التقليد الديني المشكوك به.
لقد عرفت البشرية العديد من القوانين canon وهو مصطلح أرثوذوكسي يطلق على قائمة الأدبيات والأعمال المركزية التي لا يمكن الخلاف حولها.
وعندما يصبح عملا ما قانونًا، فإن ضمير المجتمع يتعامل معه وفق مبدأ التكامل، حيث يفترض أن يكون هذا النص منطقيًا في حد ذاته، ومبدأ الخيرية حيث يجنح المجتمع إلى قراءة نصوصه على أفضل وجه ممكن، وبالطريقة التي تنزع عنه أي صورة من صور التناقض مع الحقيقة أو النظام.
وأشار إلى تعامل علماء المسلمين مع النصوص بعيدًا عن الالتزام الحرفي، وأن دلالات النص مهمة بقدر النص، حيث تحمل العديد من المعاني والمفاهيم والأفكار التي لا ينبغي إغفالها، وهو الدور الذي قام به علم أصول الفقه، حيث شكل الجناح الثاني من أجنحة البحث في التقليد وهو “الدلالة” بعد انشغال علم الحديث بجناح “الثبوت”.
وتحدث حول صلاحية القرآن لكل زمان ومكان، وكيف أنه احتوى على عموميات وأطر عامة أكثر من الأحكام التفصيلية، وحتى الأحكام التفصيلية صيغت في غالبها بطريقة تسمح بالتأويل الذي يتيح التطبيق في كل الظروف التي يمر بها المجتمع، وهو ما لا يتوفر بنفس الدرجة في السنة النبوية.
وهو ما يوجهنا إلى قضية “المشكل في القرآن والسنة” وكيف تعامل معها العلماء باستدعاء “النسخ” كوسيلة لتخطي هذه الإشكالية، وهو ما يسبب انعكاسات سلبية في التعامل مع النص، من حيث سهولة إلغاء ما يتوهم التعارض فيه دون توفر البحث والاجتهاد الكافي لفهمه والاستفادة منه.
اصطحبنا المؤلف في الفصل الرابع الذي عنون له بـ “التمسك بالقانون في عالم ممزق”، في رحلة مع الإمام محمد زاهد الكوثري، وفكره الذي انتصر للنص المقدس، لكنه حارب التأويل “السلفي” المتمسك بالنص دون بذل جهد علمي مناسب لفهمه واستثماره.
وناقش مسألة التقنين وتأثير المؤسسات العالمية على تصور الأحكام الشرعية، وكذلك تحدث عن قضايا التكفير وولاية المرأة، متنقلًا بين فكر محمد عبده والغزالي وسيد قطب والقرضاوي والجماعات التكفيرية، متسائلًا: “من الصعب جدًا أن نعرف من أين تأتي الحقيقة في زمن ممزق، ما الذي يتشبث به المرء، وما الذي يقتلعه في عالم لا يٌحتمل؟!”
أما الفصل الخامس فقد جاء بعنوان “مارتن لوثر المسلمين ومفارقة التراث” وهو من أكثر فصول الكتاب دسامة وغنى ش بالأفكار والمقارنات، حيث سعى فيه المؤلف لاستعراض المفارقة بين جمود التمسك بالنص والثورة الفكرية، وكيف أن التقليديين يصمون الثوار بأنهم يعادون الدين، مع أن الحقيقة أنهم يواجهون النظرة التقليدية للنص الديني، وليس الدين نفسه.
وفي هذا الفصل ناقش نظرة العلماء لقضايا إمامة المرأة للرجال في الصلاة، وولاية غير المسلم، وعددا آخر من القضايا الشائكة التي اعترف علماء المسلمين جميعًا بعدم وجود نصوص واضحة فيها.
وفي هذا الفصل أيضًا تنقل من أقصى التيار السلفي المتحفظ، إلى منكري السنة ورافعي شعار القرآن وفقط، مرورًا بالعديد من العلماء الذين ملأوا المسافة بين طرفي النقيض.
في الفصل السادس الذي عنون له بـ “الكذب على نبي الله”، تحدث عن رفض الإسلام الشديد للكذب، وكيف أن حالات إباحة الكذب قليلة ومعدودة نص عليها الحديث الشريف، ولكن هل يعتبر من الكذب الحديث بصورة مغايرة عن النصوص في المجالس العامة، وفي قاعات النقاش العلمي بين العلماء؟!
كما ناقش قضية الأحاديث الضعيفة وصعوبة عدم الاستفادة منها رغم وجود نسب من الشك في صحتها، وهو ما عبر عنه بمصطلح “إغراءات الضرورة: استخدام الأحاديث الضعيفة في الإسلام السني”.
وأشار إلى أن كافة المؤرخين والعلماء في الأديان والثقافات الأخرى، كان لهم مطلق الحرية في النقل واستخدام النصوص، بينما تفرد علماء المسلمين بقواعد رواية علم الحديث، التي تدقق في صحة نسبة كل حديث على حدة.
ولعل أخطر فكرة في هذا الباب كان الحديث عن “الكذب النبيل”، ذلك الذي يقع فيه الإنسان بوعي أو بدون وعي، لتأييد رواية يميل إليها أو دعم شخص يحبه أو يقدسه، وهذه العاطفة تدفع الناس للقبول بروايات غير مؤكدة دون بحث أو تثبت أو نقد، وهو ما سبب الكثير من الأضرار لتصورات العقل المسلم.
جاء الفصل السابع والأخير بعنوان: “عندما لا يمكن أن يكون النص صحيحًا” لينطلق من قضية “واضربوهن” المذكورة في القرآن الكريم (سورة النساء آية 34)، حيث ذكر نموذجين للتعامل مع هذه الآية، رفض كلاهما القبول بأن “كتاب المسلمين المقدس يمكن أن يتماهى مع العنف الأسري”، وإن اختلفت طريقة التناول بين مهاجمة التقليد من الخارج اعتمادًا على اختلاف الزمان والمكان، وبين تفريغ مصطلح “الضرب” من مضمونه وإعادة تأويله بصورة أخرى، وهنا تساءل قائلًا: “من يقرر ما يعنيه الله؟”.
وقد نقل المؤلف في هذه القضية عدم ارتياح النبي ﷺ لضرب الزوجات، وكيف أنه ذم من يقوم بهذا الفعل، وورث العلماء هذا الشعور ووثقوه في كتب الفقه، بل وجعلوا ضوابط الضرب صارمة حتى لا يحدث تعدٍ يتحول إلى “عنف أسري”، حيث يعاقب الرجل إذا تسبب في أي ضرر لزوجته بسبب فعل عنيف.
كما أن منهم من سلك مسلك التبرير كابن الجوزي الذي تحدث عن فوائد ضرب الزوجة، وإن كانت الكلمة الأخيرة للمحاكم الشرعية، توضح معاملة الضرب باعتباره أذى يمكن اعتماده أساسًا للتطليق للضرر.
وفي الختام أفرد المؤلف أربعة ملاحق هي: ماراتشي وأوكلي حول زواج عائشة من النبي – أحاديث قتل الوالد ولده – حديث الربا وزنى المحارم – حديث الحور الاثنين والسبعين، وأورد فيها بعض النصوص والآراء المنقولة في هذه القضايا، حتى تدعم ما أورده في متن الكتاب.
المنهجية والقيمة العلمية
تعتبر المنهجية التي قدم المؤلف الكتاب من خلالها، هي أكبر الاستفادات التي يمكن أن يحصلها القارئ من الكتاب، ولقد أشار المترجم لهذا الأمر في المقدمة: “.. ولكن المبتغى ترجمة الكتب التي تضيف منهجًا إلى المكتبة العربية، بما يعود بالتجويد على الأدوات البحثية لدينا” .
لقد حشد المؤلف عددًا كبيرًا من الإحالات المرجعية التي تنوعت بين الكتب التراثية والإصدارات الحديثة باللغتين العربية والإنجليزية، وقام بقفزات تاريخية كبيرة، بداية من حديثه عن تاريخ الكنيسة المسيحية، مرورًا بالعهد النبوي، وصولًا إلى العصر الحديث.
وهي قفزات ممتعة تجعلك تتنقل جغرافيًا بين مصر وتركيا وأوروبا وجنوب شرق آسيا والهند، ويجعلنا المؤلف نطل على مختلف الآراء والثقافات المتعارضة في كثير من الأحيان، وذلك ضمن حبكة محكمة تشد القارئ من أول الكتاب إلى آخره.
لهذه الأسباب وغيرها يعتبر الكتاب ذا قيمة علمية تستحق الاحتفاء، وتستحق الزراسة والتدريس، سواء على صعيد المنهجية، أو المحتوى المتميز.
نظرة ناقدة
نظرًا لأن المؤلف غطى مساحة واسعة على صعيد التاريخ والجغرافيا والفكر والثقافة، فإن القارئ يعاني أحيانًا من صعوبة في فهم الفكرة المركزية الخاصة بكل فصل، ويعاني أكثر في ربط هذه الجزئيات في عقد واحد، يحصل منه على نتيجة تعبر عن مراد المؤلف.
كذلك توجد بعض الإشكاليات في استخدام مصطلحات مثل “السلفية”، وهل المقصود بها التنظيم أم الفكر، فعلى سبيل المثال، وصف المؤلف راغب السرجاني بصفة “الباحث السلفي” ص 208،في حين أنه ينتمي إلى مدرسة الإخوان المسلمين، وعلى كل حال، لو استطاع القاريء الوصول إلى مقدمة لكل فصل، أو ملخص مركز، فإن هذا سوف يكون أفضل في الاستفادة.
استثمار المادة
لا يمكن النظر إلى الأعمال العلمية المتميزة باعتبارها نهاية المطاف، بل ينبغي التعامل معها باعتبارها منطلقًا لآفاق أرحب في مسالك البحث العلمي، ومن المميز في الكتاب الذي بين أيدينا، أنه تناول بالبحث عددًا من القضايا الشائكة التي ليس من السهل أن يختار باحث الخوض في إحداها، علاوة على جمعها كلها في مؤلف واحد.
لهذا يمكن استثمار الكتاب عبر تقسيم موضوعاته إلى أجزاء، تعقد حولها ورش عمل أو ندوات، بحيث يتم تناول هذه القضايا بمزيد من العمق والتركيز والاستيعاب.
كذلك يقترح أن تتم دراسة الطريقة التي انتهجها المؤلف، خاصة في مزاوجته بين أدوات البحث التقليدية في علوم الحديث وبين أدوات العلوم الاجتماعية، وهي طريقة من المهم أن يستفيد منها الباحثون، لأجل إنتاج أعمال علمية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويمكن تحقيق استفادات واقعية منها.
كما أن من المهم الإشارة إلى أن الكتب التي تتناول القضايا الشائكة مثل التي تناولها الكتاب، ينبغي أن يتوجه إليها القارئ بعد تحصيل قدر مناسب من المعرفة الشرعية، التي تمنحه التصورات الأساسية والموجهات الرئيسية للتعامل مع القضايا الحساسة، دون أن تتسبب في خلل فكري لا يحمد عقباه
المصادر
[1] المراجعات العلمية ودورها في تحول المعلومات إلى معرفة ، د. حشمت قاسم، مجلة دراسات عربية في المكتبات والمعلومات مج (3) ع(2) مايو 1998م. (1/11)