إنه عام 2006، تشير ساعة ملعب “رادس” إلى دخول الدقيقة الثانية والتسعين، بقيت دقيقة واحدة على إطلاق الحكم البنيني كوفي كودجا صافرته، معلنًا فوز نادي “الصفاقسي” ببطولة دوري أبطال أفريقيا، أبي يأكله التوتر، لم أره هكذا من قبل، أسمع دقات قلبه وكأنها دقات عقارب ساعة الحكم، أمي في حجرتها تدعو وتبتهل، لعل الله يرزق النادي الأحمر بهدف يتوّج به باللقب. أنا قبالة والدي، أنظر وأشاهد بحماس وترقب، ولكن في صمت، مخافة إثارة عاصفة لن تهدأ، فجأة، ومن تحت الأنقاض الحمراء، يطلق أبو تريكة “صاروخًا” بقدمه اليسرى في المرمى التونسي، تصمت تونس، وتنفجر القاهرة ومعها بيتنا الصغير، ما زلت أذكر صرختي وقتها، لم تكن صرخة مشجع متيم بفريقه، كانت صرخة ميلاد المشجع الأهلاوي بداخلي.
شاهدت بعدها مئات المباريات للنادي الأهلي، اقتنيت قمصانه الحمراء، وقفت في طوابير طويلة لشراء تذاكر المباريات، وقفت في المدرجات ورددت الأغاني والأهازيج، وانفعلت وخرجت عن اللباقة واللياقة في كثير من الأوقات، بكيت بمرارة عند خسارته، فرحت بانتصاراته كأنها الفرحة الأخيرة، مارست كل طقوس المشجع الوفي، فأصبحت “أهلاويًا”.
معظم الانتماءات الكروية تبدأ عن طريق الصدفة، لكن وحدها الطقوس الكروية والمواظبة على تأديتها في مواقيتها مَا تنمّي وتُعزز الانتماء، وتجعل الفريق المحبوب جزءاً من حياة المشجع اليومية، حتى يصبح الانتماء لفريق بعينه رافدًا من روافد الهوية، مسألة بديهية لا تجري مساءلتها ولا مراجعة جدواها ونفعها.
لذلك نصدق أن إريك كانتونا قال: “يمكن للرجل تغيير زوجته، أيديولوجيته، وحتى دينه، لكن لا يمكنه أبدًا تغيير فريقه المفضل”، رغم أنه لم يقل ذلك أبدًا. ورغم أن الانتماء الكروي مسألة غير عقلانية في مجملها، فإن الطقوس وممارسة الشعائر الكروية بطريقة واعية تبني جسرًا يحول الصدفة إلى هوية راسخة غير قابلة للمساس، كمصدر للفخر أو العار المجتمعي. الأندية الكروية ليست كيانات اعتبارية بالنسبة للمشجعين، بل مكونًا أساسيًا في هويتهم الشخصية، محددات يعرفون أنفسهم بها ومن خلالها، استثمار عاطفي إن صح التعبير.
ولذلك يُنسب للسير بيل شانكلي قوله: بعض الناس يعاملون كرة القدم كمسألة حياة أو موت، أنا حزين من هذا الطرح.. كرة القدم أهم من ذلك بكثير[1]. ولا أبلغَ من قول شانكلي لوصف هستيريا معظم مشجعي كرة القدم العرب حاليًا، لكن تلك الحالة المتشنجة عرض لظاهرة إدمان كرة القدم بين قطاعات كبيرة من شباب دول الربيع العربي، والانغماس فيها كليًا كمهرب من ضغوط الحياة الروتينية والأعباء المادية، وانعدام العدالة، وموت السياسة وانسداد الأفق الديمقراطي بعد حلول شتاء الديكتاتوريات العربية.
ففي كرة القدم احتمالات الفوز والهزيمة متساوية، بل قد ترتفع احتمالات الأولى إن كنت تشجع ناديًا كبيرًا، وإن كنت من شباب الربيع العربي فإن احتمالات تتويج مساعيك بغير الهزيمة -حاليًا- ضئيلة إلا في كرة القدم.
الهروب من الواقع
بالنظر إلى التعريفات القاموسية يصعب الحصول على تعريف قاطع لظاهرة “الهروب من الواقع”. قاموس “مريم-ويبستر” يعرف “الهروب” على أنه “انحراف مقصود للذهن”[2]. بينما يعرّفه “راندوم هاوس” بأنه “تجنب الواقع”[3]. بينما تنص أغلب القواميس العالمية على أنه “ميل أو عادة الابتعاد عن الواقع غير السار أو غير المقبول”.
غالباً ما يُنظر إلى “الهروب” بشيء من التشكك والريبة، وكأنه رذيلة، وطريقة غير سليمة للتعامل مع المشاكل، لكن “الهروب” ببساطة هو أي شيء يفعله
المرء للنسيان أو أخذ استراحة من الحياة، خاصة عندما تتحطم سفنه. و”الهروب” نوعان: هروب مفيد وآخر ضار.
الاختلاف الجوهري بين النوعين يقع في التأثير الجسدي أو العقلي أو العاطفي لنشاط الهروب نفسه. “الهروب المفيد” إن سلمت التسمية يشمل الهروب من الواقع للعمل، وأحلام اليقظة، والسفر، والقراءة، والفن، والهوايات، والرياضة. أي شيء يُشتت انتباهك عن ضغوطات الحياة، ويتيح للعقل التوسع في عالم جديد. بينما يشمل الهروب غير الصحي سلوكيات مثل تعاطي المخدرات وإدمان الجنس[4].
أثناء التجارب المؤلمة يهرب الأفراد بشكل طبيعي من الموقف عقليًا وعاطفيًا لتجنب المزيد من الضيق والأذى النفسي، لكن في كثير من الأوقات يكون ذلك الهروب موجهًا ومقصودًا من جهة أخرى.
من الكساد العظيم إلى غزو العراق
إنه صيف عام 1933، المجلات الأمريكية على أرفف الدكاكين والمحلات تعرض كل شيء لا يشير إلى وجود الكساد العظيم، أكبر أزمة اقتصادية يواجهها العالم منذ أمد بعيد، لا وجود لها في المجلات والصحف الشعبية الأمريكية. الفتيات الجميلات في أحواض الاستحمام الفاخرة، الأبطال الرياضيون ذوو الأجساد المتناسقة، مشاريع التشييد الضخمة للطرق والكباري، كلها صور ستراها في واجهات وطيات المجلات والصحف الأمريكية آنذاك.
أثناء الحرب العالمية الثانية كانت الحكومة البريطانية تمدّ الفرق الكروية بمساعدات مالية. بعد توقف المنافسات لفترة محدودة عند اندلاعها، عادت الحياة للعشب الأخضر، وسُمح للجماهير بملء المدرجات، حتى إن أعوام 1943 و1944 سجلت ارتفاعًا في معدلات حضور الجماهير للمباريات[5].
في 2007، كان العراق مجرد منتخبٍ متوسط المستوى، آتٍ من دولة ممزقة يقاسي شعبها ألم الاحتلال منذ 2003، والطائفية تنهش في جسده، لم يعد هناك شيء يرسم البهجة على وجوه العراقيين، فقد دُمرت بغداد ونهبت، والمستقبل لا تبدو له معالم، كان ذلك قبل أن يقرر يونس محمود، قائد المنتخب وقتها، حشد الشعب العراقي وراءه وإلهاءه عن مصيبته في منافسات أمم آسيا. لم يكن يتوقع حينها أكثر الحالمين سوى أداء مشرف، لكن أسود الرافدين فازوا بالبطولة، وكانت الاحتفالات العراقية لحظات هروب مكثفة من السياسة والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي فُقدت السيطرة عليها.
تنافس رياضي أم معركة مقدسة؟
مع توفر إمكانية متابعة المباريات بسهولة، وانفجار محمد صلاح في الملاعب الإنجليزية، تضاعفت أعداد متابعي ومشجعي كرة القدم في المنطقة العربية ومصر تحديدًا. أصبح المجتمع المحروم من ممارسة السياسة على أهبة الاستعداد للهروب نحو عالم كرة القدم، وعلى رأس قوائم الهاربين أبناء الربيع العربي، الذين شاهدوا أحلامهم تتحول إلى كوابيس، صاروا مطرودين من جنة الوطن، يتذوقون طعم المنفى للمرة الأولى. حلول شتاء الديكتاتوريات العربية ليس صدمة هينة، بل كرب لا يملك ضحاياه الخلاص منه بيسر، لذا كان البحث عن ملاذ أو مهرب أمرًا بديهيًا، فلا أسهل من كرة القدم، قوانين بسيطة وجرعة ترفيهية مكثفة، رمزيات متعددة، وكل حسب انتمائه، قد تكون من أبناء “نادي المبادئ”، أو من محبي “الملكي الأبيض”، أو ربما لا تستهويك الكرة المحلية، فمحمد صلاح هو ملهمك، أو ربما تتجه للدوري الإنجليزي، فلا تنسى أبدًا أن تضع تشكيلة الأسبوع في “الفانتازي”.
سيفعل كل شيء من أجل الهروب من الواقع، تقليل الاحتكاك ولحظات التّماس الحية مع الواقع السياسي والاقتصادي للعالم العربي، تحت قيادة النخب العسكرية الديكتاتورية. تلك النخب إما أممت أو أغلقت منافذ التعبير السياسي والاجتماعي التقليدية، وبقيت كرة القدم، ولأنها لا تقدر على تكلفة إيقاف النشاط الكروي الاقتصادية، والذي يعتبر وعاء للعمالة ومصدرًا للأرباح، اكتفت بإغلاق المدرجات في وجه الجمهور، لكنها لم تقدر على إغلاق مدرجات “السوشيال ميديا”، التي أصبحت ساحة لما يُشبه معركة دينية أو صراعًا سياسيًا.
حُمَّلت كرة القدم بكل ما لا تحتمل من مفاهيم وخطابات سياسية واقتصادية لا تمتلك الجماهير أي منفذ آخر للتعبير عنها. توجه الشباب المصري، خاصة السياسيين السابقين، الآن لعالم كرة القدم لإفراغ مخزون مرتفع من الضغط الحياتي والكبت السياسي والاجتماعي، لذلك نرى تحميلًا للمنافسة الكروية أكثر مما تطيق، في مصر على سبيل المثال أصبحت منافسة قطبي الكرة المحلية؛ الأهلي والزمالك معركةً وطنيةً لمشجعي الناديين، تدور رحاها خارج المستطيل الأخضر. تسريبات لمكالمات خاصة، تتبع للعورات، تجييش عاطفي للمشاعر، إخفاء قسري لكل أصوات العقل، استقطاب حاد يشبه أجواء الاستقطاب السياسي تمامًا. فريق يرى نفسه ضحية سياسية لتوجهات الدولة في إرضاء غالبية المجتمع، والآخر يعتقد أنه يدفع ثمن محاولة القيادة السياسية إرضاء أقلية لا تستحق. مفاهيم سياسية “فاقعة” يتم استخدامها في سياقات كروية بحتة، لم تمر على كرة القدم المصرية أوضاع مماثلة من قبل، هجرة أبناء ثورة يناير لعالم الكرة، باعتبارها المتنفس الاجتماعي الوحيد المتاح حاليًا، صبغها صبغة سياسية لا تخطئها الأعين.
أما الانتماء الأوروبي فهو هروب نحو المتعة والترفيه أكثر منه عملية بحث عن المعنى والانتماء. لا يملك مواطن عربي، مهما بلغت ثقافته أن يتماهى كليًا في العداوة التاريخية بين مانشستر يونايتد وليفربول أو بين ريال مدريد وبرشلونة. لذلك تنحصر المناوشات بين جماهير الأندية المتنافسة على منصات التواصل الاجتماعي فيما يحدث داخل المستطيل الأخضر والقراءات والتحليلات الفنية والتكتيكية، لكن يمكن للمشجع “الهارب” أن يغرق وبسهولة في بحر تفاصيل النادي الذي يشجعه؛ وضعه المالي، صفقاته المتوقعة، مدربه القادم أو الراحل، كواليس التدريبات، إلخ، لكن دون أن يقدر على تحويلها إلى معركة سياسية أو أخلاقية بنجاعة.
الأولتراس في الاتجاه المعاكس
نظام السيسي في مصر قتل السياسة، ولو كانت على هامش الرياضة، فاشتدت القبضة الأمنية على مجموعات الأولتراس بشكل غير مسبوق. تلقوا ضربات “قاتلة”، تمثلت في اعتقال قادة المجموعات وسجنهم بعد مجزرة استاد “الدفاع الجوي”. تلك الطلقات السلطوية جعلت ثمن الاستمرار باهظًا للغاية، ما اضطر أعضاء الروابط إلى مغادرة عالمهم الأصلي.
خالد فضل، قائد “سكشن” داخل أولتراس “وايت نايتس” في إحدى مدن القاهرة الكبرى، قال لي في مقابلة أُجريت في مايو/أيار 2021: “صار من المستحيل الاستمرار -يقصد عمل المجموعة- في ظل الوضع الحالي. الاستمرار يعني التخلي عن (العقلية) وكل ما نؤمن به. مستحيل”.
بالنسبة لأعضاء الأولتراس فكُرة القدم ليست ملاذًا آمنًا، بل منطقة اشتباك مركزية مع الواقع، المدرج كالميدان، مكان للتشجيع والتحية والاعتراض والانتفاض والتظاهر إن لزم الأمر. المدرجات ليست مقاعد مصفوفة يجلس عليها المشاهدون بصمت وأدب كقاعات السينما، بل هي تجمع اجتماعي حيوي، تُناقَش فيه كل جوانب الحياة، الرياضة جزء أساسي منه، ولكن السياسة والاقتصاد وأمور المعيشة جزء لا يتجزأ منها أيضًا، إن كانت تلك حياة أعضاء روابط الأولتراس في المدرجات، وهكذا يرون كرة القدم، فكيف يكون الهروب من واقع تُؤمَّم فيه المدرجات؟
“سوستة”، وهو اسم مستعار لعضو سابق بأولتراس أهلاوي، أخبرني أنه ما زال يشاهد مباريات فريقه، ولكن بحماس أقل وشغف أضعف من ذي قبل. صار يهتم أكثر بأولاده وتربيتهم والعمل على إنجاح مشروعه التجاري. زيدان وهو عضو سابق بأولتراس أهلاوي أيضًا قال لي إنه يستعد للسفر إلى ألمانيا للدراسة في جامعة مرموقة هناك، وأنه توقف عن مشاهدة كرة القدم.
تلك هي الاتجاهات الأبرز داخل روابط الأولتراس، لكنها ليست الوحيدة، هنالك قلة ما زالت تحاول إبقاء الروابط حية وتنتظر اللحظة المناسبة للعودة لواجهة المشهد الرياضي والسياسي.
خاتمة
إن السبب وراء إدمان كرة القدم متجذر في المسارات الثقافية والاجتماعية والترفيهية، الرغبة في الانتماء لمجتمع ما، الحاجة إلى الانصهار في شيء أكثر أهمية منا. غالبية البشر الساحقة يهربون من الواقع عند الشدائد، بحثًا عن ملاذات آمنة يعيدون فيها تعريف أنفسهم ويخلقون معانٍ جديدة.
بالنسبة لشباب الربيع العربي، يعتبر “الهروب” هجرة من الفردية إلى كنف الجماعة، شحن للمعنويات، ومحاولة لتجاوز الهزيمة السياسية، دون مخاطر تذكر.
في حالة مجتمعات شتاء الديكتاتوريات العربية، يمكن تعريف “الهروب” بأنه ميل مجتمعي نحو الإلهاء والهروب من الواقع غير المرغوب فيه، والذي لا يمكن تغييره. محاولة للإفلات من وقع وثقل الواقع، عن طريق الانغماس في مجالات الترفيه، خاصة كرة القدم، وتفريغ الكبت السياسي والاجتماعي بداخلها. لذلك، صارت كرة القدم مصدر الشغف الوحيد المتبقي للملايين. المباراة هي ساعة ونصف الساعة من الهروب من العالم الحزين.
مراجع
- أنتوني جيدينز، 2007، كل أنواع الإدمان تتحول من المتعة إلى التبعية، ذا غارديان.
- بول هولجيخ، 2012، تحديد آليات المواجهة، سايكولوجي توداي.
- سيمون كوبر، ستيفان زيمانسكي، 2018، سوكرنومكس، سكوتلندا، هاربر كولينز.
- إدواردو غاليانو، 1998، كرة القدم بين الشمس والظل، دمشق، دار الطليعة الجديدة.
المصادر
[1] https://www.liverpoolfc.com/news/first-team/124781-bill-shankly-in-quotes-1
[2] قاموس مريم-ويبستر، الهروب، 5 يونيو 2021، الرابط الإلكتروني: https://bit.ly/34NXBAb
[3] قاموس راندوم هاوس، الهروب، الرابط الإلكتروني: https://bit.ly/3z6HHz2
[4] أندرسون كونولي، جرونبرج، مور، جرينبيرج، 1999، “ضغوط العمل وتعاطي الكحول المبلغ عنه ذاتياً: أسباب الهروب نحو الشراب”. مجلة علم نفس الصحة المهنية، عدد 4، صفحة 29-36.
[5] سيمون كوبر، ستيفان زيمانسكي، 2018، سوكرنومكس، هاربر كولينز، صفحة 242-245.