يؤرخ لميلاد الدولة المصرية الحديثة بتولي محمد علي باشا حكم مصر عام 1805. أعقب ذلك انطلاق مشروعه في بناء مؤسسات حكم على النمط الأوروبي وتحقيق الاستقلال بحكمها عن التبعية العثمانية. رغم ذلك، شهد القرن المصري الطويل الممتد من هزيمة محمد علي بعد معاهدة لندن عام 1840 إلى قيام ثورة يوليو عام 1952 تحولات متتابعة في بنية الدولة المصرية بحكم الصراع على السلطة في السنوات التالية، خاصة بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882.
لقد مثلت الدولة في نظر المجتمع إلى ذلك الوقت مجرد مؤسسات تنفيذ غير مخولة بإنجاز مهام سياسية محددة كالاستقلال والتنمية والقضاء على صور الفساد المختلفة، وإنما يعود التخويل بذلك إلى قوى سياسية وطنية تحاول الوصول إلى السلطة بصورة أو بأخرى.
ورغم الدور الريادي الذي قام به الجيش المصري في التجربة العرابية، أدت هزيمة عرابي وما تبعها من تشويه المؤسسة الخديوية والعثمانية للتجربة وتفكيك الجيش المصري وإقصائه إلى السودان، إلى أن يتراجع الدور السياسي الذي يمكن أن يلعبه الجيش، وما يمكن أن يضفيه هذا الدور على صورة الدولة لدى المجتمع وتحويلها إلى فاعل سياسي وطني.
ورغم إعادة البناء البطيئة للجيش المصري منذ عام 1936 وفقا للمعاهدة مع الإنجليز التي استهدفت أن يكون الجيش المصري رديفا ممكنا في الحرب المرتقبة مع النازية، فقد ظلت التوقعات عن دور الجيش منخفضة خاصة بعد تنازل الوفد عن قيادته للملك ثم هزيمة الجيش المهينة في حرب 1948 وعجزه عن لعب دور محوري في معارك القناة بعد إلغاء معاهدة 1936.
مولد “الدولة القاطرة”
مثلت ثورة يوليو تحولا جذريا على مستوى بنية الدولة ووظيفتها كذلك. صحيح أن نظام يوليو ورث دولة قائمة بالفعل، لكنه أعاد هيكلة مؤسساتها وتحديد منطقها.
أعيد تشكيل الجهاز الأمني برمته على يد الثلاثي زكريا محيي الدين، صلاح نصر، شمس بدران (هل يمكن أن نقول اليوم بصراحة أن ذلك الشيء الغامض المسمى “الأجهزة السيادية” في مصر ما هو إلا امتداد لتلك المنظومة الأمنية التي أسسها هذا الثلاثي؟). أدار هذا الجهاز، ليس الشأن الأمني فحسب، وإنما الشأن الداخلي برمته بما في ذلك الملفات الخدمية بحيث أصبح هو النواة الصلبة للمنظومة التنفيذية قبل الجيش.
إلى جانب ذلك، تولت قيادات عسكرية معظم الهيئات الحكومية بحيث تآزرت الدولة بأسرها ضمن منظومة مركزية واحدة. منذ ذلك الوقت، اكتسبت الدولة استمرارية عبر الزمن قلما تحصلت عليها في القرن المصري الطويل الذي سبق أن أشرنا إليه، وترسخت هيكلة يوليو بالتأكيد عبر تلك الاستمرارية.
من ناحية الوظيفة، فبنجاح عبد الناصر وضباطه في القضاء على المطالب الديمقراطية بختام مارس 1954، انطلقت القيادة الجديدة بوضوح من شرعيتها كقيادة ثورية لا تمثل قوة سياسية بين قوى سياسية أخرى، وإنما تسيطر على جهاز دولة يمثل هو نفسه الجسد السياسي للسلطة الثورية الجديدة.
بذلك، انتهى التمييز الذي كان قائما قبل يوليو 1952 بين الدولة بما هي مؤسسات حكم تلعب أدوارا تنفيذية، والسلطة التي تتولاها قوى سياسية تستخدم تلك المؤسسات لتحقيق أهداف وطنية أو غير وطنية.
قامت الناصرية انطلاقا من فرضية ستجد لاحقا صياغتها النظرية لدى عدد من المثقفين، وهي أن الدولة أصبحت الطرف السياسي المخول بإنجاز المهام الوطنية. وفق نظريات التحديث سواء الليبرالية أو الماركسية، فإن بناء الدولة الوطنية وتحديث المجتمع (أو إنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية بالتعبير الماركسي الشهير) هي مهمة تنجزها الطبقة الوسطى أو البرجوازية الوطنية. فشل الوفد في إنجاز المهمتين معا، الاستقلال الوطني من جهة، والتنمية الاقتصادية (كان الوفد نفسه حزبا يغلب عليه ملاك الأراضي، وهو ما تعمق بعد معاهدة 1936 حيث تهمش الجناح الشعبي في الحزب تماما) من جهة أخرى.
أيا كانت أسباب ذلك الفشل، فإنه، ومن قبله فشل قوى سياسية أخرى مثلت هذا الطموح البرجوازي الوطني، جعل الجيش تحديدا، ومن ورائه الدولة، الطرف الوحيد الذي يمكن التعويل عليه لإنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية: تحديث الدولة والاقتصاد والثقافة.
اندفع المثقفون المصريون وراء تلك النظرية وفي عقولهم هاجس “النهضة”؛ تجاوز حالة الضعف والتخلف التي تعانيها مصر وإن على حساب الحرية أو العدالة اللذين يمكن التضحية بهما مؤقتا. “النهضة” لا “التنمية” هي ما تحتاجه مصر بحسب أنور عبد الملك في كتابه “مصر: مجتمع جديد يبنيه العسكريون”. ووفق خصوصية مصرية ضاربة في الزمن، يؤكد عبد الملك أن الدولة المركزية هي وحدها القمينة بإنجاز ذلك.
ومن مقولة الدولة القوية الرافعة أو القاطرة، ترسخ لدى المثقفين والمجتمع بأسره خيال الرجل القوي الذي تتجسد فيه الدولة، وجرى استحضار النماذج التاريخية كلها من أحمس وصلاح الدين الأيوبي (أنتج فيلم “الناصر صلاح الدين” عام 1963 متضمنا إسقاطات واضحة للشخصية التاريخية وسياقها على شخص الرئيس جمال عبد الناصر) إلى محمد علي؛ ثم أضيف جمال عبد الناصر كامتداد حديث لهؤلاء الأسلاف.
شيوعيون، محافظون، ليبراليون، أدباء وقانونيون وفلاسفة وعلماء دين، آمنوا بالنظرية إيمانا صادقا إلى حد لم تزعزعه سنوات الاعتقال.
“مش ناصري، ولا كنت في يوم، بالذات في زمنه وفي حينه.. لكن العفن وفساد القوم نساني حتى زنازينه”
هكذا كتب عبد الرحمن الأبنودي الذي اعتقل لستة أشهر عام 1966 في رثاء جمال عبد الناصر.
النظام والدولة: يهوذا والمسيح
سبّبت سياسات السادات بعد حرب أكتوبر 1973 صدمة لهؤلاء المثقفين. على الصعيد الوطني، اختفى حلم الاستقلال والتحرر والوحدة بالاندفاع نحو السلام المنفرد مع إسرائيل. وعلى الصعيد الاقتصادي، جاءت سياسات الانفتاح الاقتصادي لتقضي على أي خيال عن الدولة القاطرة أو الرافعة. وصف غالي شكري ما يحدث بأنه “ثورة مضادة”.
في هذا الوقت، بدأت تتبلور واحدة من أهم المقولات في الفكر السياسي المصري؛ التمييز بين الدولة والنظام. هناك دولة هي في الجوهر وطنية، ولا محيص من استعادتها لأنه لا بديل عنها لإنجاز “النهضة”.
هناك على جانب آخر “النظام”، السلطة السياسية التي تصادر الدولة لمصالحها الشخصية. تتحالف تلك السلطة (“النظام” مع رأس المال، وهو رأس مال زبائني لا وطني، أي أنه لا يلعب دورا في التنمية الاقتصادية وإنما يعمل على استغلال السوق والموارد المحلية ضمن منظومة عالمية لا تهمها المصالح الوطنية.
الديمقراطية هي الحل الذي أدت إليه تلك المقولة. إذا كانت المشكلة في النظام أو السلطة فإن الديمقراطية تضمن حماية الدولة من فسادها. كان طارق البشري هو أهم من صاغ تلك المعادلة التي مرة أخرى، انضوى تحت مظلتها الواسعة، الوطنية الديمقراطية، يساريون وليبراليون ومحافظون. على مدى عقدين متتاليين، الثمانينيّات والتسعينيّات، كانت هناك حالة ممتدة من الترقب تجاه مبارك بنسقه البطيء والحذر الذي كسره ابنه جمال.
بعد الحادي عشر من سبتمبر، تسارعت خطى الدولة نحو نيوليبرالية أكثر جدية، وانعزلت مصر عن محيطها العربي على نحو بدا معه مبارك “كنزا استراتيجيا” لإسرائيل كما جرى تكرار ذلك مرارا.
المهم أن الإيمان بالدولة لم يتزحزح رغم كل تلك العقود، لكنه توازى مع إيمان بالديمقراطية، وهو إيمان منطلق بالأساس من الضمانة التي تقدمها الديمقراطية لوطنية الدولة، وليس من الرغبة في الحرية والعدالة نفسيهما. المقصود أن هاجس النهضة ظل يحتفظ بالأولوية على الحرية والعدالة، وظل الهاجس يحفظ كذلك لجهاز الدولة مكانته الوطنية الخاصة.
بعد 30 يونيو 2013، تصورت القوى السياسية المصرية أنها عادت إلى أرضية الوطنية الديمقراطية ولكن متخلصة من الإسلام السياسي. كان من السهل طبعا أن يبدو الرئيس السيسي كشخص مناسب لتجسيد تلك الدولة. لكن بمرور قليل من الوقت، اتضح أن الديمقراطية تختفي من المعادلة، ما أدى إلى عودة شق من هذه القوى سريعا إلى مربع المعارضة.
بالتنازل عن تيران وصنافير والاندفاع نحو نيوليبرالية بينوشيه واستمرار التبعية للخليج تحطمت المعادلة بالكلية فعاد شق آخر إلى المعارضة بحلول عام 2015. لكن المقولة تبقى حية: لا محيص عن الدولة. إذن، بمجرد أن تتحسن السياسات الاقتصادية أو الخارجية للنظام، ستعود النخب السياسية والثقافية إلى “حظيرة” الدولة. هذا ما بدأ يحدث بالفعل منذ 2020 على الأقل.
الصدام مع تركيا في ليبيا، احتدام الصراع حول سد النهضة، استقرار الأوضاع الاقتصادية مع استمرار مشاريع البنية التحتية والعقارات الهائلة التي ينجزها الرئيس عبد الفتاح السيسي، الفطام عن السياسات الخليجية واستعادة موقف أكثر عقلانية في فلسطين، كل ذلك يبعث مقولة الدولة النهضوية.
الصراع مع الدولة على الدولة
من هذا السرد، تتبلور المعضلة السياسية المصرية: إن الدولة في مصر، بنواتها العسكري والأمني، ترى نفسها فاعلا سياسيا يمتلك شرعية الحكم، ومن هنا فإنها تمثل عائقا، ليس فحسب ضد الديمقراطية، وإنما ضد تغيير حقيقي للسياسات العامة والخارجية في مصر، بمعنى أنه لا تراجع عن كامب ديفيد والدوران في الفلك الأمريكي/الإسرائيلي والمنظومة الخليجية، ولا تراجع عن النيوليبرالية، ولا إصلاحات مؤسسية حقيقية تخلق اتزانا في السلطة وتثبت سيادة القانون.
في أمريكا اللاتينية كما في بلدان آسيوية وربما أفريقية، كانت لدى المؤسسة العسكرية والدولة الانحيازات والثقافة السياسية نفسها، لكن في تلك البلدان لم تكن هناك ثقافة شعبية تؤمن بوطنية الدولة كما في مصر.
في تلك البلدان، كانت قطاعات شعبية واسعة، كالسكان الأصليين والسود في البرازيل مثلا، يرون أن الدولة هي دولة النخب البيضاء ذات الأصل الأوروبي. هذه القطاعات شكلت قواعد شعبية راسخة للحركات الديمقراطية واليسارية فرضت إحداث إصلاحات مؤسسية خلقت حالة من الاتزان والمناورة وحدا أدنى من الديمقراطية.
في مصر، ليس مسموحا بمجرد التشكك في الدولة. بل إن بوسع الدولة أن تقول أن أمريكا تتآمر عليها بينما هي حليف موثوق للولايات المتحدة. هذا لا يمكن أن يحدث في البرازيل مثلا، فالجيش هناك واضح في أنه حليف للولايات المتحدة وأنه يدعم الانفتاح النيوليبرالي.
الدولة في مصر لا تكذب، فهي مقتنعة بأنها في حالة مناورة أزلية منذ 1967 على الأقل، “عنق الزجاجة” كما اعتاد مسئولون أيام مبارك أن يقولوا حتى صارت الكلمة مثار سخرية. هذه المناورة هي ما يجعل النيوليبرالية في مصر عرجاء، فقدمها الأخرى رأسمالية دولة ضخمة تديرها واجهات اقتصادية تنتمي إلى القطاع الخاص غير أنها تابعة لمؤسسات عسكرية وأمنية. وهي حليف للولايات المتحدة غير أنها ما زالت تحتفظ بإرث من الود الصامت مع الأقطاب العالمية المختلفة.
هذا كله يعني أن أي قوى سياسية في مصر عليها أن تتبنى موقفا شديد الاتزان تجاه تلك الحالة الملتبسة. لا يمكنك في مصر أن تشن هجوما مباشرا على الدولة لأن الدولة تتطابق مع الوطن. ولا يمكنك كذلك أن تسلم بهذه الوطنية لأن هذا التسليم لم يقد إلا إلى ذيلية لدولة مناورة وغير جادة في الإصلاح.
في الواقع، لا يمكن أن تصلح الدولة في مصر إلا انطلاقا من تأكيد احترامك للإرث الوطني للدولة المصرية، أو كما قال محمد عبده ذات يوم في رسالة لجمال الدين الأفغاني: “لا نقطع رأس الدين إلا بسيف الدين”.
تعليقات علي هذا المقال