في عام ١٩١١، بدأت إيطاليا حملتها الاستعمارية على ليبيا التي كانت حتى ذلك الوقت ولاية من الولايات العثمانية، استبسلت الحامية العثمانية التي سيصبح أحد ضباطها بعد ذلك أبا للأتراك، مصطفى كمال، في مقاومة الحملة الإيطالية مدعومة بالمقاومة الشعبية الليبية، واحتاج الطليان إلى استخدام الطائرات في القتال وقصف البشر لأول مرة في التاريخ من أجل احتلال ذلك البلد.
في مصر قاد موالو العثمانيين حملة لجمع التبرعات للمقاومة في ليبيا، واندفع المصريون من كافة أنحاء مصر للتبرع ناظرين إلى المقاومة الليبية والعثمانية كجهاد إسلامي ضد الاستعمار الذي تعانيه شعوب الشرق كافة، لكن مثقفا مصريا كبيرا كان له رأي آخر فيما يجري، هذا الرجل هو أحمد لطفي السيد.
ولد أحمد لطفي السيد في قرية برقين بالدقهلية سنة ١٨٧٢ لأب هو عمدة تلك القرية، وفي عام ١٨٩٤ حصل على ليسانس الحقوق بعد أن تعرف خلال دراسته على الشيخ محمد عبده والشيخ حسن الطويل، وبعد أن كان قد سافر إلى إسطنبول عام ١٨٩٣ وصحب جمال الدين الأفغاني والتقى سعد زغلول، بدأ لطفي السيد حياته السياسية سنة ١٨٩٦، عندما ألف مع صديق عمره عبد العزيز فهمي وعدد من رجال النيابة التي عمل بها جمعية سرية بغرض تحرير مصر، قبل أن تلتحق تلك الجمعية بالحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل بداية كتنظيم سري برعاية الخديوي عباس حلمي الثاني، ويصير أحمد لطفي السيد هو أبو مسلم، الاسم الحركي له في التنظيم الجديد.
سيكون ١٨٩٧ عاما حاسما في مسيرة لطفي السيد، ففي هذا العام، سافر الرجل إلى سويسرا بناء على طلب من الخديوي للحصول على الجنسية السويسرية بما يساعده على المطالبة باستقلال مصر، لكن لطفي السيد لم يعد من سويسرا بالجنسية التي لم يسمح له بها الباب العالي، وإنما عاد بعد توثيق علاقته بالشيخ محمد عبده وتلميذيه سعد زغلول وقاسم أمين، التي أغضبت الخديوي نظرا لتوتر علاقته بعبده، وغيرت مسار لطفي السيد على ما يبدو.
ليست لدينا مادة وافية عما حدث في تلك السنوات، لكن من الواضح أن لطفي السيد قد أخذ منذ ذلك الوقت يبتعد عن الخط الذي مثله مصطفى كامل ومن ورائه الخديوي عباس، ليشكل خطا جديدا، خطا دفع بالوطنية المصرية إلى ذروتها عبر قطيعة ليس فقط مع الإطار العثماني الذي تحرك فيه كامل والخديوي عباس، وإنما مع أي انتماء سياسي من شأنه أن يتقاطع مع تلك الوطنية المجردة بالنسبة إليه.
هذا الخط هو الذي قاد لطفي السيد إلى السير في الاتجاه المعاكس للجماهير المصرية وربما الشرقية بأسرها، عندما رأى أن من مصلحة مصر هزيمة الطليان للعثمانيين في ليبيا، متجاهلا في ذلك حياة الليبيين، وحقوقهم، والانتماء الديني والثقافي المصري للإسلام والعروبة والشعوب المُستعمَرة الذي يستلزم دعم مقاومة الشعب الليبي في وجه قوى استعمارية يدرك أحمد لطفي السيد، كما نفهم من كتاباته عن الاستعمار الإنجليزي في مصر، أنها ما أتت إلا لقمع الليبيين واستغلالهم.
الارتباط المرضي بالعثمانية
كانت الوطنية قد أخذت تتشكل في مصر كظاهرة اجتماعية عميقة منذ خواتيم القرن الثامن عشر، كما ظهر في انتفاضة العلماء عام ١٧٩٥ ضد الحكم المملوكي المزدوج لمراد وإبراهيم، ثم بدأت تلك الفكرة تتخذ قوامها النظري لدى رفاعة الطهطاوي، منظر الوطنية المصرية الأول، الذي لم ير في الوطنية المصرية تناقضا مع تعددية الانتماءات الثقافية للمصريين للمحيط العربي والإسلامي وللشعوب المستهدفة بالاستغلال الاستعماري، وقد توجت الظاهرة الوطنية في مصر بالثورة العرابية التي امتدت بين عامي ١٨٧٩ و١٨٨٢.
مثلت الثورة العرابية الذروة الأولى لنضج الوطنية المصرية، ولقد أخذت الفكرة القومية تتطور لأول مرة في صورتها الحديثة منذ صلح ويستفاليا ١٦٨٤ عندما بدأت الملكيات الأوروبية تتمأسس لا على أساس الخضوع المشترك للشرعية الكنسية البابوية، وإنما على أساس الحق الموناركي في كل بلد، لكن تلك الفكرة لم تتبلور إلا بصعود البرجوازيات المحلية التي رأت أن مصلحتها الاقتصادية المتمثلة في القضاء على الإقطاع لتطوير السوق الرأسمالي تلتقي مع طموحها السياسي في أن تصير هي ممثلة للشعب بأسره الذي سيتم تعميده كأمة أي تحويله من أفراد تجمعهم روابط مادية وثقافية محدودة ومتنوعة إلى كيان واحد يبدو متعاليا على التاريخ، فعوضا عن أن تكون صفة مصري لاحقا بكل من يسكن مصر ويستقر بها، ستصير لدينا أمة مصرية.
اللحظة العرابية كانت كذلك بالضبط، لحظة نضج للبرجوازية الزراعية والتجارية المصرية التي أخذت تتشكل في عهدي سعيد وإسماعيل بعد أن سمحا بأشكال محدودة من الملكية الخاصة، أرادت تلك البرجوازية أن تتطور اقتصاديا بتوسيع ملكياتها الزراعية وفرض رقابتها كذلك على التجارة العامة التي يسيطر عليها الخديوي بشكل مباشر أو غير مباشر عبر الضرائب غير المقيدة، كانت تلك البرجوازية الزراعية قد تجاوزت طفولتها وتشبعت بالفكرة الدستورية سياسيا وبالفكرة الوطنية في تركيبيتها من جهة أخرى، فلم تر في الوطنية المصرية تناقضا مع الثقافة الإسلامية والعربية الراسخة للمصريين بمن فيهم تلك النخبة البرجوازية، وهكذا تشكلت وطنية ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وثقافية تقود نوعا من التطور العضوي المصري ناحية التشكل كدولة رأسمالية حديثة، أحبط الاستعمار تلك اللحظة عن عمد، وحول مصر من مشروع جمهورية حديثة إلى مستعمرة تعاني تناقضات لا نهائية كغيرها من المستعمرات على كافة المستويات.
في السنوات التالية؛ عانت الفكرة الوطنية المصرية نوعا من التحلل بفقدانها التركيب الذي تمتعت به في تنظيرات الطهطاوي وفي الحركة العرابية، كانت أبرز تلك التناقضات هو التناقض بين الطموح المصري نحو الحكم الدستوري وتأسيس دولة قومية حديثة وبين الانتماء الإسلامي لمصر متجسدا في علاقتها بالسلطنة العثمانية، بين عامي ١٨٨٢ و١٨٩٦، كانت مصر تعاني آثار الهزيمة أمام الاستعمار الذي دمر مشروعها الوطني، وقد استقر لدى فلول العرابية وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده أن علاقة مصر بالعثمانيين قد انتهت بحكم الأمر الواقع الذي ربما ينهي العثمانية نفسها.
كان عبده يتمتع بواقعية سياسية عميقة منذ حقبة الثورة العرابية نفسها، وقد انتقد عرابي كثيرا في اندفاعه الثوري مدركا الحدود التي سيضعها الاستعمار من جهة والعلاقة المعقدة لمصر بالعثمانية من جهة أخرى، أمام تلك الجذرية العسكرية التي تصرف بها عرابي مع الخديوي والإنجليز، وبهذه الواقعية نفسها، كان عبده يسير في اتجاه القطيعة مع العثمانية والتركيز في الشأن المصري، لكن ليس انطلاقا من نفي الانتماء الإسلامي لمصر، ولكن بوعي عميق من عبده بعصره الذي يتجه بقوة ناحية الدولة القومية وحتمية انحلال الإمبراطوريات متعددة القوميات التي لم يعد باقيا منها سوى العثمانية في الشرق، والنمساوية المجرية في الغرب، وهما الإمبراطوريتان الآخذتين في التدهور إلى حين انهيارهما المأساوي، خاصة في الحالة العثمانية، بعد الحرب العالمية الأولى.
البرجوازية العقيمة ومكونات الليبرالية المصرية
هذا التناقض أفضى إلى شكلين من التحلل في الوطنية المصرية، سيتخذ الشكل الأول حالة الارتباط المرضي بالعثمانية الذي مثله اتجاه مصطفى كامل، فلقد حاول كامل بناء وطنية مصرية لا تقطع مع الانتماء الإسلامي لمصر، لكنه لم يدرك أن هذا الانتماء الإسلامي لمصر لا يمكن أن يبقى في صورة ارتباط سياسي بالعثمانيين وما يستتبعه ذلك من عرقلة التطور المصري ناحية الدولة القومية، وقد ظهر لاحقا، عقب وفاة مصطفى كامل مباشرة، أن العثمانية قد ماتت عمليا بانقلاب تركيا الفتاة واندفاعها نحو قومية تركية من المحتوم أن تقضي على الحكم الإمبراطوري متعدد القوميات بطبيعته، ولم يكن مصطفى كامل ومجموعته رغم وطنيتهم الجذرية وطاقتهم النضالية الكبيرة وشعبيتهم الكاسحة يمتلكون الوعي الناضج الذي تمتع به عبده، وهو الذي لم يقصد إلى القطع مع الانتماء الإسلامي، وإنما إعادة تشكيله في صيغة عصرية لا تعوق تطور الدولة القومية المحتوم وما يرتبط به من تحديث رأسمالي وثقافي.
على الجانب الآخر؛ وقف تلاميذ عبده الذين قصروا شيئا ما عن التزامه الإسلامي، بما يمنحه هذا الالتزام من اقتراب من الشعب واحترام لثقافته وقدرة على تعبئته في اتجاه التحديث، واكتفوا من عبده بواقعيته السياسية وحرصه على التعليم، وسيكون على رأس هؤلاء التلاميذ سعد زغلول وأحمد لطفي السيد.
لقد مثلت الليبرالية لأحمد لطفي السيد خيارا ممتازا لحل التناقض الذي وجده بين الوطنية المصرية والانتماء الإسلامي، فعبر التأكيد على أولوية الفرد، مكنت الليبرالية مثقفي القرن التاسع عشر من التخلص من الضغوط الشعبية التي كانت اقتصادية بالأساس في حالة أوروبا، متمثلة في مطالب الطبقة العاملة التي أزعجت المثقفين البرجوازيين وأخافتهم من الديمقراطية التي ستتحول في نظرهم إلى غوغائية، وكانت تلك الضغوط في حالتنا ثقافية، متمثلة في التمسك الشعبي بالانتماء الإسلامي الذي يعوق تطور الدولة القومية الحديثة بالنسبة لمثقف كأحمد لطفي السيد.
هذا التأكيد على أولوية الفرد ضد الأمة[1] لا يمكن أن يؤتي ثماره دون تطوير التعليم العام لإنتاج أفراد قادرين على التحرر من الثقافة الشعبية، لذلك ورث الليبراليون المصريون كلطفي السيد وطه حسين دعوة عبده إلى أولوية التعليم وإن اختلفت المقاصد.
المكون الثالث في ليبرالية لطفي السيد ومن جاءوا بعده كطه حسين، كان النفعية التي نقلوها عن منظري الليبرالية الإنجليزية كجيرمي بنتام وجيمس ميل، لقد سمحت تلك النفعية لأحمد لطفي السيد بتبني سياسة انتهازية وغير جذرية مع الاستعمار، سمحت له أخلاقيا مثلا بتأييد الاحتلال الإيطالي الإجرامي لليبيا، واتخاذ مسافة من ثورة ١٩١٩ التي تحدث مع الجنرال اللنبي في كيفية إخمادها، والانقلاب على الدستور والحريات في وزارة محمد محمود باشا عام ١٩٢٨ التي تولى فيها أحمد لطفي السيد نظارة المعارف، وتبني خط الأحرار الدستوريين غير الشعبي على مدى وزاراتهم المتتالية.
لم تكن تلك الليبرالية امتدادا لمحمد عبده كما فهمها بعض المؤرخين القوميين والإسلاميين كتميم البرغوثي، وإنما كانت انحلالا لأفكاره، فواقعية عبده تجاه العثمانية وتجاه واقع الاحتلال البريطاني ليست هي نفعية أحمد لطفي السيد وليبراليّ الأحرار الدستوريين الانتهازية والمناورة، وحرصه على التعليم كأداة لبناء مجتمع قوي ليس هو الحرص على التعليم بغرض التخلص من الثقافة الشعبية ومكونها العربي والإسلامي.
فهل كانت تلك الليبرالية وليدة المأزق الاستعماري فحسب والارتباط المرضي بالعثمانية الذي أصر جناح من النخبة المصرية عليه؟ بالتأكيد لا، فلقد كانت تلك الليبرالية قبل ذلك تعبيرا عن انهيار مشروع البرجوازية الزراعية والتجارية المصرية وحلمها بالتحول إلى رأسمالية حديثة، وتحولها عوضا عن ذلك إلى برجوازية عقارية أو محض ملاك أراضي يجمدون ثرواتهم في عقارات أو يحركونها في مضاربات عقارية محدودة بلا مشاريع اقتصادية أبعد لتنمية ثرواتهم وتحويلها إلى رأسمال إنتاجي صناعي أو حتى زراعي مميكن.
أدى هذا الانحطاط البرجوازي المصري إلى توسيع الشرخ بين تلك البرجوازية المصرية والجماهير من الفلاحين والعمال وصغار الموظفين، مما عمق انحطاط الليبرالية المصرية أيضا، واندفاعها أكثر فأكثر نحو الانتهازية والخوف من الحراك الشعبي والديمقراطية، والتمسك بالبنى الأيديولوجية الأكثر تخلفا اجتماعيا سواء كانت دينية أو علمانية، ستظل قطاعات واسعة من البرجوازية المصرية بعد ذلك متأرجحة بين تدين خرافاتي وتسكيني أو علمانية تبحث عن مجرد حقوق الفرد في الاستمتاع الشخصي، واستمرار مركزية الاستثمار العقاري على نشاطها الاقتصادي، مع الانتباه بالتأكيد إلى وجود شرائح من تلك البرجوازية تقطع مع تلك الحالة باتجاهات أكثر تقدمية.
يبقى من المهم أخيرا؛ التأكيد على أن أحمد لطفي السيد لم يكن في كل ذلك صانعا لعيوب الليبرالية المصرية، وإنما معبرا عن اتجاه كان من الطبيعي أن يتشكل في تلك اللحظة التاريخية، وأن فكر الرجل قد انضوى على عناصر تقدمية عظيمة في تلك اللحظة كالفكرة الدستورية ضد الاستبداد والتحذير من اشتراكية الدولة كأداة للاستبداد[2]، ونقد الاستعمار والنظرة الاستشراقية للشعوب الشرقية كرده على تلفيقات كرومر ضد المصريين، والاعتزاز بالإسلام كدين والدفاع عنه كما في وصفه لرحلته إلى المدينة المنورة، وأهمية الثقافة والتعليم كترجمته لأرسطو ونشره للأفكار الليبرالية الأساسية كمركزية الحرية العامة والخاصة كقيمة في المجتمع الحديث، والحفاظ على اللغة العربية، حيث ترأس لطفي السيد مجمع اللغة العربية، وشجع قرار سعد زغلول بأن تكون اللغة العربية هي لغة التعليم في مصر.
كان لطفي السيد كذلك رجلا عاقلا ومتزنا ومنصفا كما يظهر في كتاباته، فقد كان من القلائل الذين حاولوا إنصاف عرابي عندما تداعى عليه مؤيدو الإنجليز ومناضلو الحزب الوطني كلاهما، كما عمل على تمجيد مصطفى كامل رغم خلافه معه، وانسحابه من المعارك الشخصية كما حدث في معركة سعد زغلول وعبد الخالق ثروت.
من المهم الانتباه أن ذلك ليس إنصافا فقط للشخصية التاريخية، ولكن لإدراك أن هذا المثقف ككثيرين غيره من المثقفين المصريين كان يتوخى -حتى في أخطائه- بناء وطنية مصرية تحفظ للمصريين حقوقهم وكرامتهم ضد عسف السلطة و الاستغلال الأجنبي، وهو بذلك المعنى جزءً من مسيرة ثقافية ونضالية يعتز بها المصريون بوصفها مسيرتهم نحو الكرامة والعدل والقوة والحرية.
المصادر
[1] “الفرد ضد الأمة” هو عنوان كتاب ترجمه فتحي زغلول، أحد جزاري دنشواي والمثقف الليبرالي الكبير الذي كان صديقا لأحمد لطفي السيد وأثنى لطفي السيد على ترجمته لهذا الكتاب كثيرا.
[2] أسماه لطفي السيد: الاشتراكية المعكوسة، أي أن تقدم الدولة مصالح اقتصادية للناس مقابل نزع حقوقهم السياسية.
تعليقات علي هذا المقال