هل سبق لك أن رأيت “نقاشًا” على وسائل التواصل الاجتماعي فيه كل أشكال الاتهامات والإهانات وأشياء أخرى غير موضوع النقاش نفسه؟
من المواضيع التي لفتت الانتباه في مجتمعات الربيع العربي على مدار السنين الماضية هو تخلخل النقاشات السياسية في الحياة اليومية للجميع/ حتى أصبحت تحكم العلاقات الاجتماعية بنسبة كبيرة، فكثيرًا ما تُصور الخلافات السياسية وحالة الاحتقان والاستقطاب في المجتمعات بشكل أكبر مما هي عليه واقعيا، وتؤثر حالة الاستقطاب على انسجام المجتمع وصحة أفراده وقدرتهم على التعايش بشكل طبيعي، ولا يقتصر هذا الأمر على مجتمعاتنا فقط، بل إن الاستقطاب السياسي ظاهرة لا يخفى على أحد ارتفاعها عالميا رغم أن السياق الأمريكي يحظى بالقدر الأكبر من الاهتمام الإعلامي والأكاديمي، يهدف المقال الذي بين أيديكم لتسليط الضوء على ظاهرة الاستقطاب السياسي من منظور اجتماعي ونفسي، مع التركيز على آثار بعض جوانب الاستقطاب ونتائجه على العلاقات الاجتماعية والصحة النفسية للأفراد.
ظاهرة الاستقطاب المغلوط
الاستقطاب السياسي من المواضيع المهمة والرائجة مؤخرًا في الأوساط الأكاديمية، غالبًا ما يكون النقاش في هذا الموضوع حول آثار الاستقطاب السياسي على الديمقراطية واستقرارها، وهذا جانب مهم من الطرح الذي يخص الاستقطاب السياسي، وهناك بالفعل من يربط بين حالة الاستقطاب السياسي بعد الثورات العربية وفشل بعض تجارب التحول الديمقراطي التي كانت واعدة في بدايتها[1]، وربما يرجع الاهتمام بهذا الجانب من الاستقطاب السياسي لتعريفه على أساس تباين الآراء والأفكار بخصوص القضايا الأساسية، فمثلًا عادة ما يدرس علماء السياسة الاستقطاب السياسي على أنه درجة تباين آراء أفراد المجتمع الواحد في القضايا السياسية الأساسية، أي بقدر ما يكون تطرف آراء المنتمين إلى الأحزاب المتنافسة يكون الاستقطاب السياسي، ولكن المفارقة أنه في الكثير من الأحيان لا يكون ما يراه الناس من حدة الاختلاف في آراء المجتمع حقيقيا أو واقعيا، في ظاهرة تعرف بالاستقطاب المغلوط[2]، حيث يرى الناس أن المجتمع منقسم بشكل أكبر مما هو عليه بالفعل بشأن القضايا السياسية، ولا يمكن الادعاء بعدم وجود خلافات حقيقية بين آراء المنتمين لحزب بتوجه إسلامي مثلًا والمنتمين لحزب بتوجه علماني في قضايا كثيرة، ولكن المشكلة تكمن في أنه عادة ما يبالغ الطرفين في إدراك درجة هذا الاختلاف، أو درجة العداوة التي يكنها كل طرف للآخر.
ولا يمكن أن نتحدث عن الاستقطاب المغلوط دون ذكر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فمن الطبيعي أن نتساءل عن دور هذه الوسائل من ناحية نقل المعلومات، وكيف أن لصحة المعلومات التي نتلقاها والطريقة التي تُقدم خلالها هذه المعلومات أثر كبير على إدراكنا، فعادة ما تلجأ وسائل الإعلام إلى التهويل والمبالغة في عرض المعلومات، وربما يكون لهذا العرض تأثير على إدراكنا لحدة الخلافات السياسية أيضًا، ولا شك أن للأمر علاقة بطبيعة وسائل التواصل الاجتماعي وطريقة استخدامها، فإن كانت وسائل التواصل الاجتماعي تزيد من احتمال التعرض لمختلف الأفكار والتوجهات إلا أن لوغاريتمات هذه المواقع تعمل أيضًا على توفير المحتوى بناءً على تفضيلات المستخدم مما يؤدي إلى نشوء فقاعات تتكون من مجموعات متشابهة من أشخاص يتفاعلون معًا كأنهم يعيشون في عالم موازٍ خاص بهم، ويمكن القول إذًا أن للإعلام بشكل عام ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل خاص تأثير على إدراك حالة الاستقطاب السياسي في المجتمع بحسب الاستخدام وتنوع دوائر تعرض الشخص لمختلف الآراء والانتماءات.
الاستقطاب العاطفي والهوية الاجتماعية
هناك جانب من الاستقطاب السياسي لا يُعطى نفس القدر من الاهتمام، ألا وهو أثر الاستقطاب السياسي على صحة الأفراد والمجتمع بشكل عام، ولكي أوضح أن الربط بين الأمرين ليس ساذجًا، علي أن أشرح نوع الاستقطاب الذي أتحدث عنه، فأنا أتحدث هنا عن الاستقطاب العاطفي[3]، والذي يختلف عن الاستقطاب السياسي بتعريفه التقليدي أو الأيديولوجي.
فالاستقطاب العاطفي عبارة عن ارتفاع مشاعر انتماء وارتباط تجاه المنتمين لتوجه الشخص السياسي والعكس صحيح أيضًا، أي تصاعد مشاعر كراهية وعداوة ضد من ينتمي لتوجه أو حزب آخر منافس لحزبه، والفرق بين هذا التعريف للاستقطاب والتعريف التقليدي أن هذه المشاعر ليست مرتبطة بالضرورة بمحتوى الأفكار والآراء السياسية، وإذا كنت مستخدمًا لوسائل التواصل الاجتماعي، فلا تحتاج أن تبحث كثيرًا في ذاكرتك لتجد عددًا من الأمثلة على تجليات هذا النوع من الاستقطاب، فمثلًا أستطيع أن أخمن أنك تابعت نقاشًا ما على مواقع التواصل الاجتماعي له علاقة بأشياء كثيرة غير القضية نفسها المفترض أن يتم نقاشها، بل كثيرًا ما يكون الأمر عبارة عن تراشق الاتهامات والشتائم دون أن يكون هناك أي نقاش أصلًا، وأحيانًا أتأمل أنه إذا كان هناك نقاش حقيقي لأدرك هؤلاء أنهم سيجدون الكثير من نقاط الالتقاء التي يمكن لهم أن يتفقوا عليها، ولا أحاول هنا رسم صورة وردية عن واقع ليس فيه أي شكل من أشكال الاختلاف، بالعكس، أرى أن الخلافات والمواجهات الحادة تكون أحيانًا أساسية لعرض القضايا المهمة ووضعها محل النقاش، على أن يكون بالفعل نقاشًا.
يرتبط مفهوم الاستقطاب العاطفي بالهوية الاجتماعية بشكل عام[4]، وبحسب نظرية الهوية الاجتماعية فإن الانتماء لأي مجموعة بشرية قد يجعل الشخص يدمج نفسه في المجموعة حتى تصبح المجموعة جزءً من مفهومه الذاتي أو تعريفه لذاته، أو بقول آخر، كما يصبح الشخص جزءً من المجموعة، تصبح المجموعة جزءً منه، بدرجات مختلفة بالطبع، لهذا يكون نجاح المجموعة نجاحًا شخصيا وفشلها شخصي أيضًا.
وليس هذا بالأمر الغريب، فالبشر منذ نشأتهم يعيشون في مجموعات، وفي ذلك تيسير لأحوال معيشتهم وقدرتهم على التطور والرقي، ومع مرور الوقت أصبح من الطبيعي والتلقائي أن يصنف البشر بعضهم البعض إلى فئات أو مجموعات، ويسهل هذا التصنيف الكثير على العقل البشري الذي عليه أن يتعامل مع كم كبير من المعلومات والمدخلات في كل دقيقة. ولكن الجانب السلبي لهذا التصنيف يرتبط أحيانًا بتحيز عاطفي إيجابي ناحية المنتمين لنفس المجموعة، وتحيز سلبي بالمقابل تجاه غيرهم، ويفسر هذا الكثير من وقائع التمييز والتعصب في مختلف السياقات.
بعض مؤشرات الاستقطاب العاطفي
كما أشرنا مسبقًا يرتبط الاستقطاب السياسي بما قد يعتبره البعض تعصبًا للمجموعات السياسية بشكل يجعل الحياة بين المختلفين في الرأي أمرًا شبه مستحيل، وهناك العديد من المؤشرات للاستقطاب العاطفي الذي نتحدث عنه، أحد أهم هذه المؤشرات هو ما يعرف بالمسافة الاجتماعية، والذي يسأل عن مدى شعور الشخص بالراحة في التعامل مع شخص من انتماء آخر في أمور حياتية طبيعية، كأن يكون جارًا له، أو أن يكون شريكه في عمل ما، وفي الحالات التي يكون فيها الاستقطاب العاطفي مرتفعًا، يجيب الأفراد بعدم تفضيل هذه التعاملات الطبيعية بنسبة كبيرة.
ويمكن أيضًا رصد حدة الاستقطاب العاطفي من خلال الصفات التي ينسبها الأفراد لمن ينتمون لتوجههم مقابل الصفات التي ينسبونها لغيرهم، بمعنى أنه يتكون عند البعض إحساس بالتفوق الأخلاقي لصالح المنتمين لحزبهم مقابل الآخرين، فقبل كل شئ، يصبح سؤال “إلى أي حزب ينتمي هذا الشخص؟” أهم من “كيف يفكر هذا الشخص؟” أو “هل هذا شخص جيد؟”، أو أن يصبح الانتماء كافيًا لتحديد ما إذا كان الشخص أمينًا أو ذكيًا، أو في المقابل غبيًا أو خائنًا.
الاستقطاب العاطفي والصحة النفسية
من الطبيعي أن يتساءل القارئ عما إذا كان هناك أي علاقة بين الاستقطاب السياسي والصحة النفسية، ولكن الأمر كما ذكرنا مرتبط بتأثيرات الانتماء لأي مجموعة اجتماعية، والانتماء إلى مجموعة ليس عاملاً ديمغرافيًا فقط، بل يؤثر الانتماء على الإنسان من نواحي عديدة، فمثلًا يوفر الانتماء موارد نفسية واجتماعية تتمثل في توافر الدعم الاجتماعي والنفسي، ويعطي كذلك قيمة وهدفًا للحياة.
تؤثر هذه الموارد بدورها على صحة الإنسان البدنية والنفسية[5]، هناك بالفعل دراسات تشير لتأثير انعدام العلاقات الإنسانية الإيجابية على معدل الوفيات، بل وتقارنها بأخطار التدخين أو السمنة أو الضخط المرتفع[6]، لذا فإن للموارد التي يوفرها الانتماء (كالعلاقات البشرية والدعم الاجتماعي) واستدامتها دور كبير في دعم صحة الإنسان الجسدية والنفسية.
إذا تأملنا ما يحدث في حالات الاستقطاب العاطفي المرتفع، سنجد أن للنشاط السياسي تكلفة اجتماعية ونفسية، فمثلًا، كم منا انقطعت علاقته بصديق أو قريب بسبب انتماءات أو خلافات سياسية بحتة؟ لا أظن أن هذه حالة استثنائية في بلادنا خاصة في السنين الأخيرة، لماذا تؤدي النقاشات السياسية لهذه النتيجة؟ ظني أن جزء من الاجابة على هذا السؤال هو ما تناولته في المقال حتى الآن، ولا يرى كاتب هذا المقال أن الانتماء لمجموعة (سياسية أو غيرها) أمر سلبي في حد ذاته، فالانتماء حاجة أساسية لدى الإنسان لا يمكن الاستغناء عنها، لكن يجب أن يكون هناك وعي بأن الخلاف بناءً على الانتماء والهوية السياسية كثيرًا ما ينتهي إلى عداوة لا تتيح مجالاً لأي نقاش بناء.
خاتمة
كما ذكرنا آنفا، يمكن للاستقطاب السياسي أن يأخذ شكلًا عاطفيا أو تعصبيا يؤثر على الانسجام الاجتماعي والصحة النفسية للأفراد لأنه لا يدع مجالا لتطبيق عبارة “الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية”، بل يصبح الود والكره مبنيان على أساس الاتفاق أو الاختلاف في التوجه السياسي، وربما يجب الإشارة إلى أن معظم الدراسات الأكاديمية التي أجريت في هذا الموضوع كانت في السياق الأمريكي والأوروبي، وأرى أن هناك احتياج كبير لدراسة ونقاش هذه الظواهر في مجتمعاتنا على أمل أن نصل يومًا ما إلى مرحلة نستطيع أن نرى فيها نقاشًا حقيقيا للقضايا الخلافية.
المصادر
[1]Nugent, E. R. (2020). After Repression. In after Repression. Princeton University Press.
[2] Fernbach, P. M., & Van Boven, L. (2022). False polarization: Cognitive mechanisms and potential solutions. Current Opinion in Psychology, 43, 1-6.
[3] Iyengar, S., Lelkes, Y., Levendusky, M., Malhotra, N., & Westwood, S. J. (2019). The origins and consequences of affective polarization in the United States. Annual review of political science, 22(1), 129-146.
[4] Tajfel, H., Turner, J. C. (1979). An integrative theory of intergroup conflict. In Austin, W. G., & Worchel, S (Eds.) The social psychology of intergroup relations. (pp. 33-47). Monterey, CA: Brooks/Cole.
[5] Haslam, S. A., Jetten, J., Postmes, T., & Haslam, C. (2009). Social Identity, Health, and Well‐Being: An Emerging Agenda for Applied Psychology. Applied Psychology, 58(1), 1–23.
[6] Holt-Lunstad, J., Smith, T. B., & Layton, J. B. (2010). Social relationships and mortality risk: a meta-analytic review. PLoS medicine, 7(7).
تعليقات علي هذا المقال