أثناء تجولك في دروب القاهرة المتعددة يمكنك أن تلمح ظاهرةً مقترنة بالمنشآت المملوكية، وهي تلك القباب الضريحية الضخمة التي تتعلق بها بل وتتصدر المشهد دائمًا، كأنها هي التي ترسم اللوحة الفنية الخاصة بتلك المباني المتعددة المهام، هذا النوع من العمائر يُسمى بالعمارة الجنائزية، وتلك السمة الرئيسية انتشرت بشكل واسع في فترة حكم المماليك لمصر والشام، والتي لها بُعد ديني مرتبط بعقيدة المماليك أنفسهم. وفي هذا المقال نستوضح الملامح الرئيسية لتلك العمائر التي تُخفي في جنباتها ثنائية يمكن أن تُسمى بثنائية السلطة والتصوف.
في مفهوم العمارة الجنائزية
لابد أولًا من صياغة مفهوم واضح عن العمارة الجنائزية، حيث تزخر القاهرة بالعديد من المنشآت المعمارية المختلفة، والمتعددة في وظائفها وأشكالها وأنماطها كذلك، لكن كيف تميزت العمارة الجنائزية؟ أو بمعنى أدق: كيف يمكن إطلاق لفظ العمارة الجنائزية على منشأة بعينها دون الأخرى؟
في الحقيقة تكمن الإجابة في وجود عامل رئيسي في المنشأة وهو القبة الضريحية، سواءً كانت لسلطان أو أمير أو أحد الأولياء، لكن الأهم هو وجودها، وطالما وُجدت القبة الضريحية فإن شكل المنشأة يسير في نمط خاص غير أي شكل آخر، وهو أولًا أن تكون تلك القبة الضريحية العامل الرئيسي وبطل المشهد الأوحد في المنشأة، إذ تتصدر الشارع الرئيسي الذي بُنيت فيه، ثم تتبعه أي عناصر أخرى، وتعمل كخادم له، فالسبيل والكتاب اللذان أنشئا بجانب القبة هما في النهاية صدقة جارية على روح المدفون فيها، وكذلك المدرسة والخانقاة كلها في النهاية تخدم الضريح بشكل أو بآخر.
والقبة تلك تلازم دائمًا المدارس والخانقاوات وبعض المساجد الخاصة، لكن ربما يتضح هذا النموذج أكثر في الخانقاوات وهي جمع خانقاة من اللفظ الفارسي (خانگاه)، وتُعرف الخانقاة بأنها المكان الذي ينقطع فيه الصوفية والمتعبدة للصلاة والعبادة، وتختلف في التخطيط المعماري عن المنشآت المعمارية الأخرى، إذ تتميز بوجود خلاوي وغرف مخصصة لإقامة المتصوفة، وبطبيعة الحال يكون فيها مصلى وَفق التخطيط التقليدي للعمائر الدينية في العهد المملوكي، وتقوم تلك المنظومة تحت رعاية شيخ أكبر يُسمى بشيخ الشيوخ، وهو رأس المتصوفة وكبيرهم حيث يطيعونه وينفذون أوامره، وكان السلطان صاحب الخانقاة يختارها بعناية فائقة، ولكي تستمر تلك المنظومة بالعمل حتى بعد وفاة السلطان لتحقيق الغرض الرئيسي من إنشائها، كان لابد أن يقيم عليها ما سُمي بنظام الأوقاف، وهو عبارة عن منشآت تجارية أو
أراضٍ زراعية تُدر مالًا يُصرف في شؤون الخانقاة أو المؤسسة المعمارية، من رواتب للموظفين ومرتبات للمريدين والمتصوفة فيها، ومأكل ومشرب بشكل دائم ومستمر.
كانت بداية الخانقاوات في مصر في عهد صلاح الدين الأيوبي، وكان الهدف الرئيسي منها محاربة التشيع وإرساء قواعد المذهب السُّني من خلال المذاهب السنية الأربعة في الفقه والمذهب الأشعري في العقيدة والتصوف في السلوك، وهو ما سارت عليه مصر من يومها حتى يومنا ممثلةً في الأزهر الشريف.
علاقة السلطة والتصوف
لكن كيف بدأت تلك العلاقة، العلاقة القوية بين المماليك والتصوف؟ المماليك تلك الجماعة التي حكمت مصر والشام في الفترة الممتدة بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر الميلاديين، بسلطة قوية، ونفوذ امتد في بعض الفترات حتى قبرص شمالاً والحبشة جنوبًا، وكانت العلاقة بين المماليك والتصوف علاقة قوية لدرجة كبيرة، حتى شاع الاعتقاد في المتصوفة والأولياء، فأول السلاطين المماليك الظاهر بيبرس البندقداري اشتُهر بإيمانه واعتقاده في أحد الشيوخ وهو الشيخ خضر العدوي، الذي تنبأ مسبقًا بتولي بيبرس السلطنة واهتم به لما وليها، حتى أنه أنشأ له زاوية عند مسجده الكائن بالحسينية، وعلاقة برقوق نفسه بالأولياء معروفة حتى أنه كان يعتقد فيهم إلى حد كبير، فالزهوري أحد الأولياء المحليين في القاهرة كان يعامل السلطان بقسوة وعنف ولا يقدر عليه، حتى أنه أمره أن يضع حجرًا في قنديل يعلقه في مدرسته ففعل ذلك، اعتقادًا منه أنها تحفظها من الاندثار، فكل سلطان كان له شريك في الملك عن طريق الولاية والإيمان، انعكس بشكل أو بآخر على نمط العمارة في القاهرة المملوكية، ضريح لصوفي بجانب سلطان، ومنشأه أقيمت من أولها إلى آخرها
لخدمة المتصوفة المريدين.
قرافة المماليك
عندما فتح صلاح الدين القاهرة للعامة، تلك المدينة الأميرية التي كانت حكرًا على الطبقة الحاكمة في العصر الفاطمي، أخذ الناس يبنون فيها ويعمِّرون، سلاطين وأمراء بجانب العامة، كلٌّ على حسب مكانه ومركزه يحدد موقع بنائه في المدينة العتيقة، حتى وصلت في عهد الناصر محمد بن قلاوون السلطان الأشهر في دولة سلاطين المماليك إلى ذروتها في البناء والتعمير، فأخذ يفكر في امتداد عمراني طبيعي لتلك المدينة يستغلها لكي يبني فيها هو وأمراؤه منشآتهم المتعددة الدينية والاجتماعية كذلك، فكان الاختيار على تلك الرقعة الصحراوية شرق المدينة، وهي ما أطلق عليه لاحقًا لفظ قرافة المماليك، ولفظ قرافة يختص بذكر المدافن والمقابر في القاهرة تحديدًا دون مصر عمومًا، واشتُق الاسم من قبيلة بني قرافة التي سكنت منطقة القرافة الكبرى عند مسجد عمرو بن العاص، ثم خُصصت بعد ذلك للدفن فعُرفت بالقرافة، والقرافة في القاهرة لم تكن مخصَّصة للدفن فقط بل كانت عبارة عن مدينة كاملة، مليئة بالإنشاءات المعمارية والعمرانية المختلفة، كالأربطة والسبل والمساجد والساحات الكبيرة التي كان يحتفل فيها الناس بالأعياد والمناسبات المختلفة.
قرافة المماليك تلك كانت قبل أن تُعمَّر ميدانًا يُسمى بالقبق وكان ميدانًا فسيحًا خُصص للعب البولو والألعاب المختلفة في العصر المملوكي، لكنه تحول في عهد الناصر محمد بن قلاوون إلى ساحة أخرى، مختلفة تمامًا عما كان قبل ذلك، ساحة يتنافس فيها الأمراء للتعبير عن براعتهم المعمارية في الإنشاء والتعمير. وقد غلبت على تلك العمائر صبغة واحدة، تلك الصبغة هي أن العمائر الموجودة في قرافة المماليك الآن عمائر جنائزية بتعدديتها وأشكالها المختلفة، لكن الرابط المشترك الخفي أيضًا فيها أنها عمائر خُصصت للصوفية
وأهل الله من المساكين في القاهرة، مجموعة كبيرة جدًا من المنشآت المعمارية الضخمة، خُصصت لهذا الغرض وهو خدمة الصوفية والمساكين.
خانقاة فرج بن برقوق
تولى السلطنة أحد أهم السلاطين المماليك في مصر، وهو السلطان الظاهر برقوق، وقد كان سلطانًا قويًا ذا بأس شديد، ويوصي ابنه قبل وفاته أن يبني له تربة للصوفية في القرافة ويدفنه فيها، بالفعل قام ابنه فرج بإنشاء تلك الخانقاة التي عُرفت باسمه في كتب الخطط والآثار، ونقل رفات والده المدفون في مدرسته القديمة إلى تلك الخانقاة الضخمة، ولم يُدفن وحده فيها بل زوجاته وأبناؤه كذلك، لكن ما الهدف من تلك المؤسسة تحديدًا وقد بنى له مؤسسة ضخمة قامت بالتدريس حتى عُرفت بالمدرسة الظاهرة وغطت على مدرسة بيبرس في شارع بين القصرين (المعز حاليًا)؟! تبدو خيوط التصوف هي التي رسمت تلك الرواية فالغرض الرئيسي من إنشاء تلك الخانقاة هي خدمة الصوفية والفقراء والمحتاجين، وقد كان السلطان برقوق له اعتقاد في الأولياء كبير وهو سبب نقله إلى هذا المكان خصيصًا حتى يكون بجانبهم وأمر بأن يُدفن تحت أقدامهم، وتزخر تلك المؤسسة الفريدة في القرافة بالعديد من الخلاوي التي خُصصت لإقامة الصوفية، حتى أنه كان يفرض لكل واحد من المقيمين فيها مبلغًا ماليًا معينًا ونفقات غذائية لا تنقطع، بالإضافة إلى المنشآت المرتبطة بها مثل الكتاتيب التي خُصصت لتعليم الأطفال القرآن، والأسبلة المائية وغيرها من منشآت الصدقة على روح المُتوفَّى.
مجموعة قايتباي
على الناحية الأخرى من القرافة، تجد مجمعًا ضخمًا لأحد أعظم سلاطين المماليك في تاريخهم، وهي مجموعة السلطان قايتباي، كانت تلك المجموعة عامرةً بالمنشآت المختلفة، مدرسة لتدريس المذهب الحَنفي، وكُتَّاب وسبيل، والأهم من ذلك منشآت مختلفة ومتعددة للصوفية. يتحدث السخاوى فى الضوء اللامع عن تلك المنشآت قائلا: “وأنشأ السلطان قايتباي بالصحراء تربة بالرونق البهج تفي، وبجانبها مدرسة للجمعة والجماعات ولاجتماع الصوفية بها فى سائر الأوقات وعمل بكل من جانبها وتجاهها رَبعًا للصوفية موطنًا ووضعًا وسبيلاً وصهريجًا وحوضًا للبهائم يعلوه كُتَّاب للأيتام مزيل للأكدار والآثام”.
تبدو الأهداف مبيَّنة وواضحة تمامًا، فالغرض هنا خدمة الصوفية والعمل على راحتهم وتسهيل الأمور لهم، حتى يزيل سيئاته بعد الموت، والتنوع هنا حتى في الخدمات المعمارية المقدَّمة لهم، فلم يعد الاكتفاء فقط بالخانقاوات أو المدارس، بل الأمر شمل ربعًا، والرَّبع هنا مثل الفندق وهي إقامة اجتماعية بعيدًا عن كونها دينية للتعبد، حيث يقيم فيها الصوفية المرتحلون من البلاد البعيدة، يصرف لهم نفقات غذائية تكفلهم بعيدًا عن الناس، وقرافة المماليك كلها كانت مسرحًا عظيمًا لهذا الأمر، فكل السلاطين والأمراء هنا في خدمة أهل الله، يقيمون لهم المنشآت الضخمة والسكنية.
لكن السؤال الرئيسي هنا: ما الغرض من كل هذا؟ وماذا يهدف الأمراء والسلاطين من إنشاء كل تلك العمائر للصوفية وأهل الله؟
تبدو ملامح الإجابة دفينة وسط سطور تاريخ المماليك، الجماعة التي ارتحلت من بلاد بعيدة لا أهل لهم ولا صاحب، وهي أن ارتباطهم بالصوفية أصبح ارتباطًا معوضًا عن الأهل والجماعة التي أنشئوا فيها، صحيح أنهم يحكمون مصر إلا أنه لا رابط بينهم وبين الأمة المصرية، حتى أن بعض أمراء المماليك لم يكن يتحدث العربية جيدًا في بعض الأحيان، خاصة في الفترة الثانية من فترات حكم المماليك، وهي ما أطلق عليها المماليك الجراكسة، فلجأوا إلى تلك الجماعة المتصوفة كي تكون بديلاً لهم لغُربة الموت التي انعزلوا فيها عن الناس، حتى يؤنسوهم ويرسموا لهم الحياة بعد الموت، خاصة مع إيمانهم الشديد بمعتقدات المتصوفة وأهل الله.
ثنائية الأمير والولي: مآلات التصوف
في عدد من مساجد المماليك في القاهرة، تتجلى ظاهرة أسميها ثنائية الأمير والولي حيث يُنشئ الأمير المسجد أو الزاوية، ثم بعد ذلك يُطلَق عليها اسم مختلف، اسم يدل على أنها ليست له بل للولي الذي سكنها من بعده، في مسجد قجماس الإسحاقي في الدرب الأحمر الذي أنشأه الأمير قجماس وهو أحد أمراء السلطان قايتباي والذي كان يتولى منصبًا مرموقًا في دولته أطلق عليه أميرا خورا كبيرًا أي المشرف على اصطبلات السلطان، بنى هذا الأمير المسجد سنة 885 هجرية، لكن المسجد لم يعد باسمه حتى على العملة الرسمية المصرية فئة الخمسين جنيهًا التي رُسم عليها، حيث يطلق عليه اسم مسجد أبو حريبة، وأبو حريبة هذا هو الشيخ أحمد أبو حريبة أحد الأولياء المعروفين في مصر وكان يُقام له مولد سنوي في هذا المسجد الكائن بالدرب الأحمر، وله أتباع كثيرون في صعيد مصر تحديدًا، توفي ودُفن في تلك القبة التي لم يكتب لها أن تكون لصاحبها الأول في منتصف القرن التاسع عشر.
يتعامل الناس معه بإجلال فهو أحد الأولياء الذين يحفظون للدرب الأحمر تاريخه، وتلك الظاهرة ربما تدل على تعظيم الناس لهذا الولي بالفعل، إلا أنها تدلل أيضًا على تلك الثنائية بين الولي والأمير التي استمرت منذ زمن بعيد، والمسألة تتعلق بأن منشآت المماليك كان لها وقف يصرف عليها ويتولى شؤونها المالية من أولها إلى آخرها، أجور العمال فيها ونفقة الصوفية الذين يقفون على مصالحهم فيها، وتلك السمات محببة لدى المتصوفة الذين يأتون من بلدان بعيدة في مصر وخارجها، لذا ليس من المستغرب أن نرى تلك الثنائية حتى لو طغى فيها طرف على طرف، بالإضافة إلى أن تهيئة المنشأة نفسها، كانت تهيئة صوفية من الأساس، فالقبة الضريحية والمدرسة والنفقات لا تخرج من هذا الإطار الذي حددته المنشآت الجنائزية منذ البداية.
في الناحية الأخرى من القاهرة، نحو أحد أكثر الأحياء بهاءً وجلالاً وحفظًا لمعالم التاريخ المتراكمة فيه، وهو حي الجمالية؛ يظهر في الصورة مبنى ضخم الهيئة والبنيان، بناه المهندس المملوكي بعبقرية فذة، وسط رقعة ضيقة نسبيًا، لكن هذا لم يمنعه من أن يحقق الهدف الأول والرئيسي من بناء تلك المؤسسات الجنائزية والدينية في هذا العصر، وهو أن تظهر القبة الضريحية على أول الشارع، تلك المؤسسة تُسمى بخانقاة بيبرس الجاشنكير، وهي من أعمال السلطان بيبرس الجاشنكير، أو كما يعرفه المستشرقون بيبرس الثاني تمييزًا له عن بيبرس الأول السلطان الأشهر، بناها سنة 706 هجرية قبل أن يكون سلطانًا، لكنه أتمها عندما تولى السلطنة المملوكية التي اغتصبها من الناصر محمد بن قلاوون.
لكن ما الهدف من تلك المؤسسة الضخمة؟
يمكننا أن نعرف من خلال النص الكتابي الضخم على المدخل: “أمر بإنشاء هذه الخانقاه السعيدة وقفًا مؤبدًا على جماعة الصوفية من فيض فضل الله تعالى وجزيل إحسانه راجيا بذلك عفوه وغفرانه”. نص يوضح سبب البناء الرئيسي لها، وهي أن تكون مستقرًا لجماعة الصوفية الذين يأتون إليها.
عُرفت الخانقاة بأنها أكثر المنشآت المملوكية امتلاكًا لوقف حيث تدر مالاً كثيرًا ومرتبات أكبر من أي منشأة أخرى، لذا لم يكن مستغربًا أبدًا أن يتقاتل عليها الفقهاء لتولي المشيخة فيها، وبعيدًا عن كل هذا، لم تعد تلك المنشأة الضخمة التي أنشأها السلطان للأولياء تُعرف باسمه، فهي تُعرف الآن بضريح سيدي محمد البغدادي، ومحمد البغدادي هو أحد الأولياء الذين دُفنوا في هذا الضريح الكائن على الشارع، وعُرف به وارتبط بالناس عن طريق التراث الشعبي، وكأن السلطان حينما أقامها للمتصوفة والمساكين، لم يكن يدري أنهم سيأخذون حتى مكانه في الدفن، لتعكس تلك العلاقة المترابطة والمشتبكة أحيانًا بين السلطان والولي.
خاتمة
تصوف المماليك فريدٌ كتاريخهم سواءً بسواء، جماعة غريبة عن مصر أتت من بلدان بعيدة، بغرض الحفاظ على الملك الأيوبي والدفاع عن الغزوات الخارجية استغلالاً لقدراتهم القتالية العالية، وقد ساعدتهم الظروف أن يملكوا زمام السلطة في البلاد، فانخرطوا فيها بشكل لا يُصدق، وصنعوا لهم تاريخًا ارتبط بتاريخ البلد نفسه، ساعدهم في ذلك الجماعة الأخرى، المتصوفة، التي أتت هي الأخرى من بلدان بعيدة مختلفة، ليرسموا تاريخ العمارة وفلسفتها في القاهرة الفاطمية.
تعليقات علي هذا المقال