مع مطلع القرن الحادي والعشرين زاد الحديث حول المياه، وسط محيط دولي يتصاعد فيه الوعي بمشكلات الموارد الطبيعية، وتدرك فيه القوى الخارجية الفاعلة دور المياه وارتباطها بقضايا الأمن الإقليمي والعالمي، حيث يبرز موضوع محدودية الموارد المائية على الساحة الدولية باعتباره من أهم تحديات القرن الجديد.
ومن ثمَّ؛ فمن المُرجَّح أن تزداد خلال السنوات القادمة حدة التنافس الدولي من أجل الاستحواذ على مصادر المياه باعتبارها موردًا استراتيجيًّا وربما على نحوٍ قد يفوق، إلى حدٍّ بعيد، ذلك الصراع والتنافس الذي شهده العالم حول النفط منذ أوائل القرن المنصرم.
التحولات في منطقة حوض النيل
يتضح من مُتابعة تطورات الأوضاع في دول حوض النيل خلال السنوات العشر الماضية، أن الفكر الاستراتيجي المصري عجز عن فهم متغيرات المحيط الإقليمي لمصر، وظل حبيس الأوهام القديمة التي تنظر إلى مصر على أنها قوة إقليمية مُهيمنة؛ مع بقاء الأوضاع على ما هي عليه في دول حوض النيل. وهناك ثلاثة تحوُّلات كُبرى، أثَّرت في التفاعلات المائية بدول حوض النيل، وأفضت إلى أزمة سد النهضة الحالية: أولها؛ الاتجاه نحو التكتُّل السياسي والاقتصادي بشرق إفريقيا؛ والذي اتخذ طابعًا مؤسسيًا عام 1999؛ بالتوقيع على اتفاقية تجمع شرق إفريقيا (كينيا وأوغندا وتنزانيا ورواندا وبوروندي)، والذي بدأ في المُطالبة بإعادة النظر في الاتفاقيات الدولية الخاصة بنهر النيل والموروثة عن العهد الاستعماري.
وثانيها؛ استراتيجية السدود والمياه الإثيوبية؛ والتي تبنَّاها رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ميلس زيناوي، وتهدف إلى بناء أكثر من عشرين سدًّا، على رأسها سد النهضة، بما يُحقِّق هدف تحويل إثيوبيا إلى دولة إقليمية كبرى مُصدِّرة للطاقة الكهرومائية.
وثالثها؛ التوقيع على مبادرة حوض النيل 1999؛ حيث تبنَّت جميع الدول النهرية بما فيها مصر رؤية جديدة، تسعى إلى تحقيق تنمية مُستدامة، من خلال الاستخدام المُنصف والعادل لمياه النيل، وقد استمرت العملية التفاوضية إلى أن جرى التوصل إلى اتفاقية التعاون الإطاري عام 2010، التي تستهدف تعزيز الإدارة التكاملية، والتنمية المستدامة، والاستخدام المُنسَّق لموارد مياه الحوض، إلا أن كلّا من مصر والسودان رفضا هذه الاتفاقية؛ لأنها لم تنص على الحقوق التاريخية لدولتي المصب، كما أنها سحبت حق النقض الذي تمتَّعت به مصر تاريخيًّا فيما يتعلق بالمشروعات المائية التي تنفذها دول الحوض.[1]
وأظهر الخطاب السياسي والإعلامي المُرتبط بسد النهضة حالة من الاستقطاب والانقسام الشديد بين دول حوض النيل ودولتي المصب، فقد أضحى السد تحديًّا كبيرًا، ومصدرًا للصراع بين إثيوبيا من جهة، وكلٍ من مصر والسودان من جهة أخرى. غير أن التردُّد الحادث في الموقف السوداني ما بين دعم سد النهضة -الذي قد يزيد من إمكاناته الزراعية، من خلال استثمارات خليجية كبيرة، بالإضافة إلى حصوله على الكهرباء من إثيوبيا- تارة، ومهاجمة إثيوبيا -التي دخلت معها في نزاع مسلح على إقليم الفشقة- تارةً أخرى، هذا التردد جعل مصر تبدو وحيدة في مواجهة دول حوض النيل خلال الأزمة. ووصلت حِدَّة الخطاب الإعلامي خلال أزمة سد النهضة إلى حد التلويح باستخدام الأداة العسكرية لحسم الصراع؛ إلا أنه جرى استبعاد تلك الاحتمالية كنتيجة للأوضاع السائدة وقتها.
لماذا لجأت مصر للعمل السياسي مرة أخرى؟
بعد تعالي النبرة المُهددة باستعمال القوة في الخطاب الإعلامي المصري، حتى توقع البعض إقدام مصر على تبنِّي الخيار العسكري لحل الأزمة؛ برزت مجموعة من العوائق التي تحول دون تنفيذ ذلك. حيث ظهرت عوائق فنية تمنع توجيه ضربة مصرية إلى السد؛ منها تاريخ التسلح العسكري المصري الدفاعي بالأساس، والزج بالجيش في مواجهة المعارضة المصرية على حساب تعبئته في الدفاع عن المصالح العليا والحساسة، واعتماد مصر على التسلُّح الخارجي دون تطوير صناعة محلية للسلاح وبخاصةً الصواريخ التي تمنحها قوة استراتيجية في ضرب الأهداف.
وعليه؛ لم يكن لمصر القدرة على شن هجوم عسكري على إثيوبيا دون موافقة الأطراف الخارجية صاحبة الاستثمارات الكبيرة في السد بالأساس. هذا بالإضافة إلى المسافة الكبيرة بين مصر وإثيوبيا، والتي تقتضي -حال شن ضربة جوية- تزويد المقاتلات بالوقود في الجو وهي عملية صعبة ومكلفة للغاية؛ الأمر الذي جعل من شن الضربة من الأراضي السودانية هو الخيار الأمثل، وهو ما لم يكن السودان ليقبل به رغم ما كان بينه وبين إثيوبيا من نزاعات.
بالإضافة إلى تلك العوائق الفنية؛ كانت هناك مجموعة من العوائق السياسية؛ فإن كانت إمكانية شن ضربة عسكرية على السد مُرتبطة بالسودان، وبالنظر إلى التطورات التي سبقت التلويح باستخدام القوة العسكرية مباشرةً، كان موقف السودان مُتقلباً وغير ثابت، وكذلك موقف إثيوبيا من السودان الذي كان يتغير من وقتٍ إلى آخر ما بين شدٍ وجذب. حيث اعتمد السودان في موقفه من إثيوبيا بالأساس على أولوية النظام العسكري هناك في حل مشاكل الحدود (الفشقة ومثلث حلايب)، هذا فضلًا عن حرص السودان على حضوره الإفريقي والذي سيتعرض إلى الخطر حال موافقته على شن الحرب على إثيوبيا من أراضيها.
أما إثيوبيا فكانت تستخدم ذلك الموقف كورقة ضغط على السودان بالترغيب مرة وبالترهيب أخرى؛ محاولةً الحفاظ على استقرارها الداخلي في كل الأوضاع، كما استخدمت إثيوبيا أيضًا وضعها الداخلي غير المُستقر، فمن ناحية حرب التيجراي، ومن ناحية أخرى أزمة الانتخابات وتأجيلها، حيث عمل آبي أحمد كعادته على التصعيد في الأزمات الخارجية لصرف النظر عن الأزمات الداخلية في محاولة منه لتهدئة الداخل وإيجاد مبررات لأزماته، فصعَّد من المواجهات على الحدود مع السودان، وفي الوقت نفسه تصاعدت حدة التصريحات المُتعلقة بملء سد النهضة.
كل هذا بجانب المحاولات الإقليمية والدولية للوساطة، والتي لم تخلُ كذلك من المصالح؛ حيث الإمارات والسعودية أكبر المستثمرين في السد، وإريتريا الصديقة المُقربة لآبي أحمد، والولايات المتحدة التي تسعى بالأساس إلى تأمين مصالح الكيان الصهيوني الداعم الأكبر لبناء السد.
كل ذلك دفع مصر إلى التوجُّه نحو العمل السياسي والدبلوماسي مع باقي دول حوض النيل؛ فراحت تُبرم الاتفاقات الأمنية والعسكرية مع عدد من الدول وهي: السودان وأوغندا وكينيا وبوروندي. فهل هذا هو الحل؟
ثمة حقيقة لا بد ألا تغيب عن الأذهان عند النظر إلى العلاقات بين مصر ودول حوض النيل، وربما بين إفريقيا شمال وجنوب الصحراء بوجهٍ عام، وهي أن المستعمر رسَّخ طيلة عقود لفكرة العبد والسيد في العلاقة بين أفارقة الجنوب والشمال، وهو الأمر الذي رسَّخته سياسة مبارك والقطيعة التي حدثت مع الأفارقة في عهده بعد محاولة اغتياله في أديس أبابا في التسعينيات، تلك القطيعة التي نتج عنها اتفاقية حوض النيل، والإطار القانوني لها (عنتيبي)، حيث فشلت مصر والسودان خلالها في إقناع دول المنابع بوجهة نظرها في ثلاث نقاط رئيسية، هي: حق الإخطار المُسبق بالمشاريع المائية المُقامة على النيل، واتخاذ القرار بشأن أي مشروعات جديدة بالإجماع وليس بالأغلبية أو وجود فيتو لدول المصب، وإقرار الحقوق المُكتسبة والاعتراف بالاتفاقيات القديمة.
تلك النقاط الثلاث التي رفضتها دول المنابع جميعها، الأمر الذي دفعها إلى توقيع الاتفاقية بمنأى عن مصر والسودان وموقفهما الرافض لها. وبناءً على ذلك؛ فيُمكن توقُّع أن أي معركة ستدخلها مصر مع إثيوبيا؛ ستكون مصر هي الخاسر الأول في الإطار الإفريقي، وهو الأمر الذي تعيه السودان جيدًا، والذي يتضح من رفضها استصدار بيان استنكار لممارسات إثيوبيا حيال السد من جامعة الدول العربية عام 2020؛ وذلك خشية تحوُّل القضية إلى اصطفاف عربي في مقابل اصطفاف إفريقي، فتخسر مصر والسودان إفريقيا كاملةً وليس إثيوبيا فقط. وليس أدلَّ على مكانة إثيوبيا الكبرى في إفريقيا عند مقارنتها بمصر، من اختيار الأفارقة مقر الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا وليس القاهرة.
وثمة نقطة أخرى يجب وضعها في الحسبان عند مناقشة قضية سد النهضة، وهي أن المشكلة الأساسية ليست في سد النهضة ذاته؛ وإنما فيما سيتبعه من فتح الباب لإثيوبيا وباقي دول المنابع لإقامة مشروعات على نهر النيل دون النظر إلى مصالح دول المصب، وهو الأمر الذي يُمثِّل خطورة، لاسيما وأن مصر تقف على أعتاب الفقر المائي بالأساس، إن لم تكن قد وصلت إليه بالفعل.
مستقبل التعاون بين مصر ودول حوض النيل
يُمكن تحديد محركين يُشكِّلان دوافع لرسم معالم مستقبل التعاون الإقليمي بين مصر ودول حوض النيل في مرحلة ما بعد سد النهضة: أولها؛ سلوك دول حوض النيل؛ فمن المعروف أن العلاقات بين دول المنبع والمصب تسير عادةً وفقًا لقاعدة الاستخدام التنافسي أو حتى الصراعي للموارد المائية، وعليه؛ تبرز أهمية التواصل والحوار المباشر لتجنُّب السلوك الصراعي؛ لأنه أساس لبناء الثقة، وتبادل المعلومات، ووضع خيارات إدارية مقبولة لدى الطرفين. ومن العوامل الرئيسة الأخرى التي ينبغي مراعاتها توازن القوى بين دول المنبع ودول المصب، بالإضافة إلى الإطار القانوني والمؤسسي الذي يحكم هذا التفاعل.
وثانيها؛ الأدوار الدولية والإقليمية؛ حيث تمارس الجهات الخارجية دورًا بارزًا في رسم معالم اتجاهات التعاون أو الصراع المستقبلي في حوض النيل. فقد أضحى لقوى خارجية مثل الصين، ودول الخليج العربي، مثل السعودية والكويت والإمارات، وجود بارز في منطقة حوض النيل. وفي المُقابل؛ فإن لهذه الدول علاقات ودية ومستقرة مع مصر، ولعل ذلك يُعزِّز من وساطتها لنزع فتيل الأزمة في حوض النيل، لاسيما بين مصر وإثيوبيا. ومع ذلك، تظل الاستثمارات الصينية والخليجية في كلٍّ من السودان وإثيوبيا تحديدًا في مجالات السدود والإنتاج الزراعي والثروة الحيوانية مصدر قلق شديد لمصر، حيث إنها تؤدي إلى التوسع في استخدام مياه النيل لأغراض الري والاستهلاك المحلي في هاتين الدولتين. ويعبِّر مشروع سد النهضة بشكل رمزي عن تغيُّر موازين القوى النسبية داخل منطقة الحوض لصالح دول المنابع، حيث تمكَّنت من الحصول على وسائل جديدة للتمويل.
وهكذا؛ يُمكن القول إن مستقبل العلاقات بين مصر ودول حوض النيل في مرحلة ما بعد سد النهضة سيشهد مجموعة من التحديات التي ستواجه صانع القرار المصري، والذي سيكون عليه التركيز على تلك المنطقة وتكريس إمكاناته كافة لتحسين علاقاته معها، والسير في طرق متوازية، سواء على المستوى الدبلوماسي للحفاظ على حقوق مصر التاريخية من المياه، أو على المستوى الاقتصادي والاجتماعي لمساعدة تلك الدول على تحقيق التنمية بعيدًا عن القوى الدولية والإقليمية التي تتجه إلى الاستثمار في حوض النيل، أو على المستوى السياسي لعودة الدور المصري للبروز من جديد في قضايا المنطقة السياسية والاستراتيجية بشكلٍ فاعل يعمل على تحسين العلاقات بين مصر وباقي دول الحوض وتقويتها واستمراريتها، أو حتى على المستوى الأمني لما تعانيه تلك الدول من تحديات أمنية كبيرة تُهدِّد وحدتها واستقلالها.
المصادر
[1] د. حمدي عبد الرحمن، “مستقبل التعاون في حوض النيل في مرحلة ما بعد سدّ النهضة”، قراءات إفريقية، 3/5/2018. متاح على الرابط: https://cutt.us/uKvvM
تعليقات علي هذا المقال