في عام ١٥١٧م دخل العثمانيون مصر بعد هزيمة حكامها من المماليك وإعدام آخر سلاطينهم، لم ينهِ العثمانيون حكم المماليك، وإنما أقاموا معهم نوعا من التسوية جرى بموجبها اقتسام السلطة الفعلية في البلاد بين العثمانيين والمماليك، ولكن ما انتهى كان مركزية مصر التي تمتعت بها ضمن الإمبراطوريات الحاكمة لها منذ عام ٨٦٨م/٢٦٥هـ، عندما تولاها أحمد بن طولون في إطار الإمبراطورية العباسية، وهي المركزية التي توطدت دعائمها بعد أن صارت مصر هي نفسها عاصمة الحكم الإمبراطوري منذ سيطرة الفاطميين عليها عام ٩٦٩م/٣٥٨هـ، ثم مع الاستعاضة السنية الأيوبية وانتقال الخليفة العباسي الاسمي إليها.
حكم هذا القدر التاريخي، أي خسارة مصر مركزيتها الإمبراطورية، بوقوع التناقض القومي بين المصريين، أو للدقة بعض القوى الاجتماعية التي تشكل إرادة الأمة، وتلك السلطة أو مندوبيها المحليين عندما تتوفر العوامل اللازمة لذلك، كتطور الثقافة والظروف السياسية والسوق العالمي وأدوات الإنتاج، وهكذا أخذت الوطنية المصرية تتشكل بالتوازي مع تدهور المركز الإمبراطوري.
لكن تشكل الوطنية المصرية الذي بدأ بالفعل من رحم تطورها الخاص كما سنرى، تعرض لضغوط عاجلته قبل تمام نضجه، وهو ما أدى إلى ما نسميه المخاض القيصري لتلك الوطنية الذي استمر نحو قرن من الزمن (١٧٩٥-١٨٧٩م)، لكن هذا المخاض العسير أسفر عن النسخة الأكثر تركيبًا وتنوعًا للوطنية المصرية، فهي نسخة بلا عقد تجاه مكوناتها المتنوعة: الفرعونية والعروبة والإسلام والمواطنة والعداء للهيمنة التركية وللاستعمار، بل ترى كل ذلك مزيجًا يصنع الوطنية المصرية السوية، ويجعلها ثرية ومرنة، وقادرة على التطور والتمسك بالقيم الإنسانية الأساسية كالحرية والعدل والمساواة.
لذلك فإننا حين ندرس تلك الوطنية في ميلادها لا نعنى بالأساس بمجرد المعرفة التاريخية، بل نسعى إلى ممارسة أيديولوجية تستنهض الوطنية المصرية في صيغتها الأكثر تحررًا من السلطات السياسية والأيديولوجية، والأكثر استعدادًا للنضال ضد المحاولة القائمة لسحق كرامة المصريين وردهم عبيدًا بعدما دفعوا نخبةً وجماهيرَ دماءهم وأعمارهم وأموالهم في سبيل حريتهم وحماية كرامتهم، وحماية ما يؤمنون به من قيم وانتماءات وعقائد.
وإننا لنرجو كذلك أن تكون تلك الدراسة متفردة في حقل تحليل الوطنية المصرية، دون إغفال جهود الأساتذة المصريين الكبار الذين أسهموا في ذلك على مختلف مشاربهم وحتى معاركهم البينية، من عبد الرحمن الرافعي ولويس عوض إلى محمد عمارة وطارق البشري وصلاح عيسى وغيرهم، بل تنطلق الدراسة من الاعتزاز بجهودهم واكتشاف الوطنية المصرية في تركيبها الأول كثوب جامع لهم جميعًا، ليس بالتلفيق بين متناقضاتهم، وإنما بالتسامي بتلك التناقضات إلى مركب نظري وتاريخي نراه ممكنا في تطور الوطنية المصرية الذي ندرسه.
البرجوازية العرجاء
تمثل الحقبة العثمانية في مصر اليوم قضية ثقافية كبرى بحكم الجدل العلمي والأيديولوجي المعروف حول شرعية الوجود العثماني في مصر وأثره الحضاري عليها، لكن ما يمكن الاتفاق عليه بسهولة هو أن النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وهي السنوات الأخيرة للوجود الفعلي للسلطة العثمانية في مصر، كانت تشهد اضطرابًا سياسيًا كبيرًا تداخلت في تشكيله عوامل كثيرة، كان على رأسها محاولة علي بك الكبير الاستقلال بحكم مصر عن العثمانيين عام ١٧٦٨م.
وعلى الرغم من انهيار تجربة علي بك الكبير سريعا بانقلاب قائده محمد بك أبو الدهب عليه، استمر الاستقلال الفعلي لمصر عن الحكم العثماني تحت حكم أبو الدهب أولًا، ثم تحت حكم تلميذيه المملوكيين مراد بك وإبراهيم بك بعد وفاته عام ١٧٧٥م، وإلى قدوم الحملة الفرنسية عام ١٧٩٨م، باستثناء سنوات وجيزة أعقبت الفتح العثماني الثاني لمصر عام ١٧٨٦م على يد القائد العثماني حسن باشا الجزائرلي.
أدى ضعف الحكومة المركزية إلى انهيار نظام الالتزام العثماني عام ١٧٢٨م، وهو نظام في إدارة الأراضي كان يعني تقسيم الأراضي إلى حقول ضريبية، وبيع حق تحصيل الضرائب في كل حقل لملتزم يحصل الضرائب ويدفع نصيب الحكومة منها، لكن هذا الملتزم لا يتمتع مع ذلك بأي حقوق من حقوق الملكية، كالتأجير والبيع والتوريث، سمح انهيار الالتزام بنشأة تشكل إقطاعي بدائي في مصر قوامه الأساسي أمراء المماليك، لكن العلاقة المحلية بين المماليك والنخب المصرية من كبار المزارعين والتجار والمشايخ (نظار الأوقاف) سمحت للأخيرين بنيل نصيب من هذا الإقطاع، وعلاوة على ذلك، توسعت سلطة هؤلاء المشايخ في إدارة الأوقاف الخاصة بالمساجد والطرق الصوفية والأزهر، ما سمح لهم كذلك بتوسيع إقطاعياتهم، أدى هذا إلى تشكل النواة الأولى لبرجوازية مصرية خالصة.
تمتع المشايخ كذلك بسلطة رمزية علاوة على ثروتهم الإقطاعية، وقد أتاح لهم ذلك لعب دور سياسي في إطار الاضطراب الحاصل، وهو دور رغم محدوديته إلا أنه يبقى فعلًا سياسيًا شعبيًا كان نادرًا قبل ذلك الوقت الذي هيمنت فيه نخبة منبتة الصلة، ولا تشعر بأي نوع من المشترك مع الأهالي (ولا حتى المشترك الديني، فالمماليك الأجلاب لم يكونوا مسلمين متدينين خلاف قدامى المماليك)، وقد بلغ هذا الدور ذروته في احتجاج عام ١٧٩٥م، عندما اعتدى أحد باكاوات المماليك على إقطاع للشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر، في الشرقية، واشتكى أهل القرية للشيخ، فأمر الشيخ بغلق الأسواق والحوانيت والاعتصام بالمسجد (عصيان مدني)، كما خرج المشايخ مع الناس إلى بيت الشيخ السادات (مظاهرات)، إلى أن اجتمع الباشا والأمراء في منزل إبراهيم بك مع وفد المشايخ الذي ضم إلى جانب الشيخ الشرقاوي الشيخ أبو الأنوار السادات، شيخ الطرق الصوفية، والسيد عمر مكرم، نقيب الأشراف، والشيخ البكري والشيخ الأمير، وطالب المشايخ بإسقاط الضرائب والقيود على الأراضي والغلال وكتب القاضي ورقة بالاتفاق، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يكتب فيها ميثاق سياسي من هذا النوع[1].
أخذ هذا الدور السياسي لتلك النخبة ينتظم في السنوات التالية، لذلك نجد الأسماء نفسها هي القائمة التي اختارها بونابرت للديوان (الحكومة المحلية) بعد دخوله القاهرة، ولكن رفض عمر مكرم والسادات والأمير ذلك، بينما انضم إلى الديوان الشرقاوي والبكري والدواخلي والمهدي (سيلعبان لاحقا دورا في إسقاط عمر مكرم)، والدمنهوري والفيومي والسرسي والعريشي والشبراخيتي والصاوي، ويبدو أن عمر مكرم كان الأشد وعيا بين تلك النخبة بالمكانة السياسية التي بدأ يحوزها كزعيم شعبي، وربما كان ذلك ما دفع السلطان العثماني نفسه إلى محاولة عزله عن نقابة الأشراف بعد جلاء الفرنسيين عن مصر[2]، ومن المعلوم أن عمر مكرم لاحقا كان خلف كواليس تولي محمد علي حكم مصر، واستمرت علاقته السياسية مع محمد علي بين شد وجذب إلى الإطاحة به عام ١٨٠٩م.
لكن الطموح السياسي لتلك النخبة البرجوازية ظل محدودا بحماية مصالحها الإقطاعية المباشرة، وربما يعود ذلك إلى ضعف ثقافة هؤلاء المشايخ، فهم أنفسهم لم يكونوا على المستوى العلمي الذي قد يتصوره من يسمع وصفهم المستمر بالعلماء، كما يعود ذلك أيضا إلى تردي الأصول الاجتماعية لكثير منهم[3]، ما جعلهم ضعيفي الطموح، شديدي الاحتفاء بما تمكنوا منه من ثروات نالوها عبر تذيلهم لسلطة المماليك.
هكذا انتهى الحال بتلك النخبة إلى عصابة من الإقطاعيين الأشد تخلفا، تشارك في قمع الناس بنفس القسوة المملوكية، كما يلاحظ الجبرتي الذي يقول عنهم:
«افتتنوا بالدنيا، وهجروا مذاكرة المسائل ومدارسة العلم إلا بمقدار حفظ الناموس مع ترك العمل بالكلية، وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد الأمراء، وأجروا الحبس والتعذيب والضرب، وصار ديدنهم واجتماعهم ذكر المسائل الدنيوية والحصص والالتزام وحساب الميري والفائض، زيادة عما هو بينهم من التنافر والتحاسد والتحاقد على الرياسة…»[4].
يذكر الجبرتي ذلك في معرض ذكره انقلاب محمد علي عليهم وإلغائه الامتيازات المالية التي جعلها لهم حين فرض الضرائب على الإقطاعيات، بل إن الشرقاوي لما تكلم مع محمد علي في فرضه الضرائب الباهظة، رد عليه محمد علي بوضوح بأن الشرقاوي والمشايخ ظالمون مثله، لأنه لما رفع الضرائب عنهم، استمروا هم في تحصيلها من الفلاحين وأخذها لأنفسهم.
والمهم هنا ليس بيان فساد تلك النخبة ومشاركتها في الاستغلال الاقتصادي، فالمقصود ليس إصدار أحكام معيارية، وإنما تحليل بنية الحدث التاريخي، وموقع تلك النخبة بوصفها مجموعة اجتماعية لديها مصالح طبقية وثقافة محددة تؤدي بها إلى لعب دور معين في التاريخ، وما يظهر لنا أن تلك النخبة التي توفرت لها شروط مادية كبرجوازية للعب دور سياسي ما عبر المشاركة في السلطة، فشلت في ذلك بالأساس بسبب غياب الثقافة النظرية الضرورية لإمدادها بالوعي الأيديولوجي.
الإنتلجنسيا العرجاء
على الرغم من الدراسات النقدية التي ناقشت الدور التنويري المتفق عليه لدى المؤرخين الغربيين والمصريين للحملة الفرنسية، كدراسة بيتر جران للإحياء الثقافي المصري في القرن الثامن عشر قبل مجيء الفرنسيين، ودراسة ليلى عنان عن الحملة نفسها، إلا أن الأثر الموضوعي للحملة الفرنسية على المصريين وغرابة خطابها عن المساواة، وحق المصريين في المشاركة في السلطة لا يمكن التغاضي عنه، وربما يدل على ذلك أن الشيخ حسن العطار الذي اعتبره جران نتاج الإحياء الثقافي المصري تحول داعيا إلى الاستفادة من علوم الفرنسيين، خاصة معارفهم الطبيعية التي كانت علاقة الأزهر بها منبتة كما يدل على ذلك ما يرويه الجبرتي عن جهل علماء الأزهر بالرياضيات، وتفرد والده حسن الجبرتي بالمعرفة الهندسية عنهم.
تمثل مذكرة المعلم يعقوب، وهو القائد القبطي الشهير الذي كون فيلقا من الأقباط وتحالف مع الفرنسيين، التي قدمها إلى قبطان السفينة الإنجليزية التي حملته من مصر بعد جلاء الفرنسيين، أول حديث واضح عن استقلال قومي مصري. ومن الواضح أن المعلم يعقوب قد اكتسب تلك المعرفة السياسية من علاقته العميقة بكبار الضباط الفرنسيين، فهو يرى في مذكرته أن مصر بحاجة إلى حكومة «عادلة وقومية وقاسية»، وهو يرى أن تكون على غرار حكومة شيخ العرب همام التي أسقطها محمد بك أبو الدهب في صعيد مصر، كما أنه في مذكرته يرفض التقسيم الطائفي للمصريين[5]، رغم ذلك، لا يمكن اعتبار عمل يعقوب مولدًا للوطنية المصرية الواعية، ليس بسبب خيانة يعقوب بانحيازه للفرنسيين، فالحكم المملوكي لم يكن شرعيًا تمامًا في عيون المصريين المسلمين أنفسهم، ولم يكن موقف أغلب مشايخ الأزهر من الفرنسيين أفضل كثيرًا من موقف يعقوب (كما سبق أن ذكرنا هنا)، بل لأن فكر يعقوب هذا كان منبت الصلة عن البيئة المصرية، بحيث لم يترك أثرًا في المصريين البتة يمكن البناء عليه.
أما الطرح الواضح وصاحب الأثر المطرد للوطنية المصرية فقد جاء على يد رفاعة الطهطاوي، والطهطاوي كذلك كان ممن تأثروا بالتجربة الفرنسية وحملة بونابرت حتى قبل الابتعاث إلى فرنسا، وذلك على يد أستاذه الشيخ حسن العطار الذي عمل معلما للعربية للبعثة العلمية المصاحبة للحملة، وتأثر كثيرا بمعارف تلك البعثة كما مر بنا[6].
وضع الطهطاوي التمييز النظري بين الرابطة الوطنية والرابطة الدينية بوضوح، ويطبقها في مصر بمديح محمد علي لدمجه المصريين الأقباط في المناصب الرسمية، كما أكثر من الكتابة عن الوطنية والقومية واكتساب الشعوب لهما في العصر الحديث، أي أنه قدم تنظيرًا قوميًا لا لبس فيه، لكن دور الطهطاوي في تأسيس الوطنية المصرية في الحقيقة لم يتوقف عند النظرية، بل امتد لتقديم المقومات الأيديولوجية للوطنية المصرية عبر محاولة رسم تاريخ مشترك للمصريين كأمة واحدة عبر التاريخ، وذات علاقات واضحة بمحيطها سواء علاقات تمايز أو علاقات تشارك.
من هنا، تجاوز الطهطاوي التاريخ الإسلامي لمصر ليربط مصر الحديثة بمصر القديمة كما ظهر من مؤلفه «أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل» (١٨٦٨م)، وترجم كتابًا فرنسيًا عن تاريخ المصريين القدماء، وأظهر اهتمامه بالآثار المصرية القديمة وجمعها في ساحة مدرسة الألسن، وانتقد نقلها إلى أوروبا معتبرا ذلك «نهبا»، أي إن الطهطاوي إجمالًا كان أول من حاول تأسيس الهوية المصرية الحديثة على الحضارة الفرعونية، لكن مما يستدعي التوقف أن الطهطاوي في نفس الوقت كان حريصًا على ربط تلك الوطنية المصرية بقومية عربية أشمل، لذلك يتناول تاريخ العرب قبل الإسلام في نفس الكتاب بجانب تاريخ مصر القديمة، كأنه يحاول إيجاد تاريخ مشترك، وهو يربط التاريخين بعد ذلك بالبعثة النبوية في كتابه «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز» (١٨٧٣م) الذي يتناول فيه السيرة النبوية بحس سياسي يراها بداية تأسيس الدولة العربية الإسلامية، يبدو إذن الطهطاوي حريصا على تأسيس وطنية مصرية في إطار عربي مناقض للهيمنة التركية في إطارها العثماني، وهو يقيم هذا التمييز دون أن يتخلى عن الثقافة الإسلامية المستوعبة لتلك الوطنية، بل ويؤسس فضل العرب على أن «بقاءهم نور في الإسلام، وفناءهم فساد فيه».
كان الطهطاوي في الواقع هو الوطنية المصرية في صيغتها الأكثر تكثيفًا، الأكثر انسجامًا، والأكثر حملًا بحكم تركيبها هذا نفسه لاحتمالات التناقض والانفجار لاحقا بفقدانها الحركة السياسية الناضجة القادرة على استيعاب تركيبها عند الطهطاوي، فالطهطاوي الذي يأخذ تلك الوطنية بلا تردد في اتجاه الاستفادة من الحضارة الغربية هو نفسه الذي يرفض الهيمنة الاستعمارية على البلدان الإسلامية، ويهاجم الداي حسين حاكم الجزائر لتوقفه عن مقاومة الفرنسيين وفراره منهم، بينما يمتدح أحمد بك والأمير عبد القادر لمقاومتهما الفرنسيين إلى النهاية.
لم يكن الطهطاوي في ذلك تلفيقيا، بل كان فكره في براءته الأولى قادرًا على تركيب معانٍ مختلفة دون أن يستشعر تناقضًا مستحيل الحل بينها، فلم يجد في فرعونية المصريين حائلا دون عروبتهم، فالمسألة ليست مسألة نقاوة عرقية، بل إرثان حضاريان يعتز المصريون بكليهما، كما لم ير الطهطاوي في اعتزاز المصريين بإسلامهم حائلًا دون إيمانهم بحق كل المصريين في المواطنة على أساس الحقوق والواجبات المتساوية، ولا في اتجاههم للانتفاع بالمعارف الغربية سببا لشعورهم بالدونية أمام الغرب والاستعمار، بل انتفاع بالحكمة الإنسانية أين وجدت مع اعتزاز بالذات على أساس المساواة الإنسانية.
إن التلفيق يعني تغطية التناقضات رغم إدراكها، أما التركيب فيعي التناقضات، ولكن يتحداها ببناء معقد يمزجها بشجاعة ودون اضطرار للتخلي عن أحد أبعاد الوطنية المصرية للاحتفاظ ببعد آخر منها.
ما يجعل تنظير الطهطاوي كذلك ذا أهمية كبيرة هو أثره في الجيل الأول من المثقفين المصريين الذين تخرجوا من المدارس التي أشرف عليها الطهطاوي، فكان منهم عبد الله فكري الأديب الذي شارك في الثورة العرابية، ومحمد قدري رائد التحديث القانوني في مصر، ومحمود الفلكي وإسماعيل الفلكي من رواد دراسة الفلك والهندسة في مصر، والشيخ حسين المصرفي مؤسس دار العلوم، وعبد الله أبو السعود أحد رواد الصحافة المصرية.
فوق ذلك، عمل الطهطاوي على توسيع المكاتب لنشر التعليم، وأسهم في بث الشعور العام بالوطنية المصرية عبر تحويله «الوقائع المصرية» إلى جريدة إخبارية حديثة تصدر بالعربية بدلا من التركية، وذلك منذ إشرافه عليها في الأربعينات، وقد بدأ الطهطاوي نفسه يكتب فيها مقالات سياسية في أول ظهور لهذا الفن الأدبي وتلك الممارسة الثقافية في العربية الحديثة، والصحيفة، كما شرح بندكت أندرسون، أحد أدوات تطوير القومية، إذ أنها توحد زمن الأمة رغم اختلاف أماكنها فتشعر بوحدتها القومية.
المخاض العسير
إذا كان مشروع الطهطاوي الأيديولوجي قد بلغ هذا الحد من النضج النظري كما يظهر خاصة من كتابه «مناهج الألباب المصرية» (١٨٦٩م) الذي يمكن اعتباره أول مؤلف مصري، وربما عربي، في الفكر السياسي الحديث، فإنه افتقد إلى الحركة السياسية التي بإمكانها تجسيده.
لقد ظل فكر الطهطاوي معلقا بمبادرة السلطة لا بأي قوى أو طبقات أو حركات شعبية، وهو في ذلك تلميذ للفكر الليبرالي النخبوي السائد في أوروبا آنذاك، لكن الدولة التي حلم الطهطاوي بأن تقيم هي الوطن خيبت طموح الطهطاوي، فعلى الرغم من الأثر الإيجابي لإصلاحات محمد علي، فإن الأرستقراطية الزراعية الكبرى ظلت حكرا على الأتراك والجركس والألبان، كما تعرض مشروعه النهضوي لانتكاسته المعروفة بعد التئام التحالف العثماني الاستعماري ضده عام ١٨٣٨م، وقد أتى عهد عباس الأول (١٨٤٨-١٨٥٤م) ليرسخ ذلك على نحو من التعسف والجهل يذكّر بسياسة المماليك، وبالفعل؛ لم يلبث عباس طويلا بعد توليه السلطة إلا وقد نفى الطهطاوي والمثقفين المصريين إلى السودان، ولم يعودوا إلا بعد اغتياله.
عاد سعيد باشا وأخوه إسماعيل ليواصلا بعض سياسات أبيهما، مستبعدا منها مشروعيه الصناعي والعسكري، فقد كانا مهجوسين فحسب بخلق بلد على الطراز الأوروبي دون بناء نهضة وطنية مقاومة للاستعمار، وهكذا رغم اعتبار سعيد نفسه مصريًا وحديثه المباشر عن رغبته في تعظيم نفوذ المصريين في الدولة[7]، لم يفض ذلك إلى تطوير الدولة المصرية على أساس وطني، وقد استعاد الطهطاوي بعض مكانته في عهدي سعيد وإسماعيل، لكنه لم يقدم فيما نعلم نقدا لسياستهما التي غلب شقها الليبرالي نظيره الوطني، وربما حاول الطهطاوي ذلك كما يوحي قرار سعيد بفصله من العمل عام ١٨٦١م.
في المقابل، لم تكن هناك حركة وطنية لتحمل أفكار الطهطاوي، فقد كانت البرجوازية المصرية بعد في طور التكوين من جديد (خاصة في عهد سعيد مع طفرة القطن وصدور اللائحة السعيدية وعودة التوسع الزراعي ورواج التجارة الحرة في ظل ليبرالية سعيد) بعد أن صفّى محمد علي النواة الأولى لتلك البرجوازية (تصفية ثروة المشايخ كما ذكرنا سابقا)، ستكون تلك البرجوازية الزراعية المصرية نفسها (أعيان القرى) هي الكتلة التاريخية وراء الثورة العرابية وتطورها، لكن القدر لم يمهل الطهطاوي للعمل ضمن تلك الثورة في ظل وجود القوى الوطنية المستعدة لحمل أفكاره.
هكذا كان قدر الوطنية المصرية في القرن الأول لها (انتفاضة ١٧٩٥م – الثورة العرابية ١٨٧٩م) ألا يجتمع لها قدمان قط، فإما أن تقف عرجاء على قوة اجتماعية تملك القدرة المادية دون الوعي الثقافي، أو على نخبة ثقافية تملك الوعي النظري دون البنية المادية، لقد عاجلت الضغوط الأوروبية عبر السوق العالمي وتطور أدوات الإنتاج والأطماع الاستعمارية مصر باستحثاث تشكل وطنيتها قبل أن تطور البنية الاجتماعية المصرية من داخلها على نحو يسمح بميلاد سلس لتلك الوطنية، فكان عليها أن تولد قيصريا كطفل مبتسر عاجلته الولادة قبل تمام نضجه الجنيني.
المصادر
[1] عجائب الآثار ٣/٣٥٩، طبعة هنداوي.
[2] عجائب الآثار ٤/٣٠٠.
[3] انظر ما يحكيه بيتر جران عن أصول الشرقاوي والمهدي في «الجذور الإسلامية للرأسمالية»، ص٥١، النسخة العربية عن المركز القومي للترجمة.
[4] عجائب الآثار ٥/٣٠٣، بتصرف.
[5] للمزيد عن مشروع المعلم يعقوب، يراجع كتاب محمد شفيق غربال: «الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس ومشروع استقلال مصر في سنة ١٨٠١».
[6] عن الطهطاوي اعتمدنا على أعماله الكاملة التي جمعها د. محمد عمارة وكتاب عمارة عنه الصادر عن دار الشروق.
[7] مذكرات عرابي، ص٢٧، طبعة دار المعارف
تعليقات علي هذا المقال