منذ أن تولى مقاليد الحكم في البلاد بشكل رسمي عام 2014، لم يزل السيسي يعد المصريين ويمنيهم بنهضة اقتصادية تجعل للبلاد شأنًا آخر، وتجعل مصر أمة ذات شأن بين الأمم، وفي نظير ذلك طلب السيسي من المصريين “الصبر”؛ في عام 2014 وكانت مدة الصبر المطلوبة سنتين، وفي 2016 أصبحت ستة أشهر فقط، ثم أمست في 2017 سنة أخرى، ثم في عام 2018 طلب مجددا “شوية صبر” واعدًا بأن مصر في 30 يونيو 2020 ستكون دولة أخرى، وفي عام 2019 عادت “السنتين” مرة أخرى[1]، ليبدو أنها عملية نهضة عسيرة تتطلب صبرًا لا حدود له، فما هي معالم النهضة الاقتصادية التي يعد السيسي المصريين بها في جمهوريته الجديدة؟
أولًا: الاقتصاد في قبضة الجيش
شهد الاقتصاد العسكري منذ عام 2013 تحولًا كبيرًا في النطاق والحجم، فالمؤسسة العسكرية في ظل حكم السيسي تتمتع بميزات اقتصادية هائلة جعلت لها حصة الأسد في الاقتصاد المصري، ومن هذه الميزات:
الحق القانوني في استعمال الأراضي المصنفة عسكرية في المشاريع التجارية والصلاحية لمنح أو حجب تراخيص استخدام أراضي الدولة من قبل أى فرد أو كيان مدني، سواء من القطاع العام أو الخاص -استخدام المجندين كعمالة مجانية- الإعفاء من ضريبة الدخل والضريبة العقارية والرسوم الجمركية وغيرها من الرسوم والضرائب -الاستفادة من الدعم الحكومي في قطاع الطاقة- يمكن للهيئات العسكرية الاحتفاظ بالعملة الأجنبية في حسابات مصرفية خاصة، ولا تتمتع أى وكالة مدنية بصلاحية التدقيق في عمل الهيئات العسكرية؛ فالسيطرة العسكرية الفعلية على هيئة الرقابة الإدارية تشكل درع حماية للهيئات العسكرية وتسمح لها بتخويف ومعاقبة الشركات المدنية، وصلاحية غير رسمية لتسريع أو تأخير الإجراءات البيروقراطية الروتينية التي يحتاج إليها المستثمرون المدنيون من خلال الضباط المتقاعدين في الهيئات الحكومية[2].
وهكذا تسيطر المؤسسة العسكرية الآن على محفظة اقتصادية ضخمة، فهي تدير حصة كبيرة من إجمالي الأشغال العامة في مجالي البنية التحتية والإسكان، وتبني مناطق صناعية وتنتج السلع الرأسمالية والسلع الاستهلاكية المعمرة (كالأجهزة المنزلية والأدوات) ومركبات النقل والشحن الثقيل ومعدات تكنولوجيا المعلومات.
كما أنها تقوم بمبيعات التجزئة المرتبطة بكل ذلك، وتمتلك شركات إعلامية تجارية وفنادق، وتزيد حصتها بسرعة في مجال الزراعة والاستزراع السمكي واستخراج المعادن، بل ومنذ سبتمبر 2021، احتكرت المؤسسة العسكرية إنتاج الوجبات المدرسية، وسيطرت وزارة الدفاع رسميًا على استخدام أراضي الدولة من قبل أي فرد أو كيان مدني، سواء كان خاصًا أو عامًا.
كذلك يشارك ممثلون عسكريون في عضوية عدد من المجالس القومية، بما في ذلك مجال التخطيط والتنمية المستدامة؛ ويساهمون في توجيه السياسات في قطاعات عدة، بما في ذلك الصناعة التحويلية والاتصالات والتحول الرقمي وتطوير سوق السيارات الكهربائية والتنمية الريفية؛ ويترأسون مبادرات رئاسية كبرى، بما في ذلك صندوق تحيا مصر التنموي والشركة المسؤولة عن بناء العاصمة الإدارية الجديدة لمصر[3].
ثانيًا: دولة تسبح على بحرٍ من الديون
اعتمد السيسي على الاستدانة كمصدر لتمويل “نهضته الاقتصادية”، فبحسب آخر تقارير البنك المركزي، بلغ إجمالي حجم الدين الخارجي المصري 137.9 مليار دولار بنهاية يونيو 2021 (بزيادة قدرها 14.4 مليار دولار عن نهاية يونيو 2020)، هذه القيمة لا تمثل كل أشكال الديون الخارجية، لأن الأرقام الرسمية المصرية تستبعد بعض الأشكال من حساباتها، مثل السندات المحلية التي يشتريها الأجانب.
وقد تنوعت أشكال هذه الديون؛ فبعضها جاء في صورة قروض من مؤسسات إقراض دولية أهمها صندوق النقد الدولي، فحصلت مصر على قرضين من الصندوق خلال الأعوام الستة الماضية، كان الأول في 2016 بقيمة 12 مليار دولار، والثاني كان في 2020 بقيمة 5.2 مليار دولار، بعد تفجر أزمة كورونا[4]، وقد التزمت مصر سياسة صندوق النقد المالية التي يفرضها على الدولة الراغبة في الاستدانة والتي تتضمن، إدخال ضريبة القيمة المضافة وخفض الدعم على الوقود والكهرباء، وتقليص الأجور العامة، وتخفيض قيمة الجنيه المصري، وخصخصة جزئية للهيئات العامة، وهي وصفة قريبة من سياسة التقشف والانكماش، وهى سياسات ثبت فشلها مرارًا في تشجيع نمو اقتصادي دائم، ولم تحل مشكلة العجز المالي والتجاري المزمن التي تسببت في تردي الاقتصاد والوقوع في مصيدة الدين[5].
والبعض الآخر من الديون جاء من دول صديقة لنظام السيسي وتحديدا من دول الخليج وعلى رأسها السعودية والإمارات، حيث حصلت عليها مصر في صورة ودائع قبل سنوات، بلغ إجمالي الودائع الخليجية 15 مليار دولار (حوالي 11% من إجمالي الدين الخارجي المصري) بنهاية العام المالي الماضي، 5.3 مليار منها قيمة الوديعة السعودية، و5.7 مليار قيمة الوديعة الإماراتية، يضاف لهذا أن ما يجب سداده من أقساط وفوائد ديون قصيرة وطويلة الأجل يتجاوز 36 مليار دولار خلال السنة المالية التي تنتهي آخر يونيو 2022، بحسب أرقام البنك المركزي، ويمثل هذا نحو ربع إجمالي الدين الخارجي لمصر، كما أنه يقارب فعليًا نحو 90% من إجمالي احتياطي النقد الأجنبي المصري في يونيو 2021.[6]
وفي ظل هذا الوضع المتفاقم من الديون وتوجه الدولة لمزيد من الاستدانة خارجيًا وداخليًا، فإن أى أزمة اقتصادية عالمية قد تؤثر بشكل كارثي على الاقتصاد المصري وقدرة مصر على الالتزام بسداد ديونها، كما أن الاستمرار في هذا المسار لا ينبئ بأي تحسن على المدى الطويل.
ثالثًا: اقتصاد يغدق فقرًا
بلغ معدل الفقر في مصر عام 2020 نسبة 29.7% وهو ما يعني أن نحو ثلث الشعب المصري يقع تحت خط الفقر، كما بلغ حد الفقر المدقع للعام نفسه نسبة 4.5%، وهم الغير قادرين على تلبية احتياجاتهم الغذائية الأساسية[7]، وكذلك ارتفعت نسبة البطالة على خلفية أزمة كورونا، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء انضم نحو 338 ألف مواطن لقوائم العاطلين خلال الفترة بين (أبريل- يونيو 2020)، مما رفع عدد العاطلين عن العمل لنحو 2.6 مليون مواطن من قرابة 29 مليون مواطن يمثلون قوة العمل في مصر. وهو ما رفع معدل البطالة إلى 9.6٪ بنهاية يونيو 2020 مقابل 7.7٪ في نهاية مارس من نفس العام[8].
وفي ظل هذا الوضع اتجهت الدولة إلى اعتماد “فرض الرسوم والضرائب” كاستراتيجية أساسية لزيادة إيراداتها، فمنذ العام 2014 وحتى الآن لم تتوقف الدولة عن استحداث رسوم وزيادات مالية جديدة تستخرج بها الأموال من جيوب المصريين، نذكر من تلك الرسوم والزيادات[9]:
1- إقرار مشروع قانون “المساهمة التكافلية” والذي يشمل خصم 1% من مرتبات الموظفين، و0.5% من أصحاب المعاشات بداية من شهر يوليو 2020 لمدة عام قابل للزيادة.
2- تعديلات على قانون “رسم تنمية الموارد المالية للدولة”، وهي تعديلات مخترعة تفتق عنها ذهن النظام متوقعًا أن تجلب نحو 10 مليارات جنيه حسب تصريحات وزير المالية محمد معيط، وتتضمن تلك التعديلات زيادة عدد من الرسوم مثل رسوم استخراج المحررات الرسمية من مصلحة الشهر العقاري التي ارتفعت من جنيه واحد إلى 5 جنيهات فضلًا عن فرض رسوم جديدة على عقود اللاعبين الرياضيين، وتراخيص الشركات الرياضية، وأجهزة المحمول والإكسسوارات بنسبة 5%، وكذلك خدمات الإنترنت المقدمة للشركات والمنشآت بواقع 2.5% من قيمة الفاتورة.
3- زيادة “ضريبة الإذاعة” من 140 قرشًا إلى 100 جنيه عن السنة الواحدة في أي سيارة مجهزة لاستخدام الراديو حتى لو لم يكن يعمل بداخلها أو كان غير موجود من الأساس، وهو قرار يُتوقع أن يجلب دخلًا يتراوح بين 700 مليون جنيه إلى مليار جنيه سنويًا.
4- رسوم جدية التصالح، والذي يوجب على مخالفي تراخيص البناء دفع رسوم بشكل مؤقت لحين تحديد قيمة الغرامة المستحقة على كل مخالف، على أن يخصم الرسم من القيمة النهائية المحددة، أو يتم رده في حال رفض طلب التصالح. وفي 7 أغسطس عام 2020 أصدر مجلس الوزراء بيانًا، أعلن خلاله تقديم المواطنين لعدد 600 ألف طلب للتصالح، ووصول إجمالي المتحصلات إلى نحو 1.1 مليار جنيه.
5- أما الهاتف المحمول الذي سبق للسيسي أن عبر عن تمنيه فرض رسوم على كلا من المتصل والمستقبل فلم يسلم من الإتاوات الجديدة، حيث جرى الإعلان عن زيادة ضريبة الدمغة على استخدام الهاتف المحمول بدءاً من شهر يوليو 2020 لتصبح 67 قرشًا بدلًا من 51 قرشًا لعملاء الكارت المدفوع مقدمًا، ورفع قيمة الضريبة بالنسبة لعملاء الفاتورة لتصبح 8 جنيهات بدلًا من 6.10 جنيهات.
6- وكذلك مترو الأنفاق وسيلة المواصلات الأساسية لأغلب سكان القاهرة الكبري فقد نال نصيبه من الزيادات حيث أعلنت الشركة المصرية لإدارة وتشغيل مترو الأنفاق في أغسطس 2020 عن زيادة أسعار تذاكر المترو إلى 5 جنيهات للرحلة التي تشمل 9 محطات بعد أن كانت 3 جنيهات فقط، وللرحلة التي تشمل 16 محطة إلى 7 جنيهات بدلًا من 5 جنيهات، و10 جنيهات للرحلة التي تزيد عن 16 محطة بدلا من 7 جنيهات.
وليست هذه الإتاوات المذكورة إلا أمثلة على سيل من زيادات الأسعار والرسوم فُرضت على المصريين منذ عام 2014 وحتى الآن.
رابعًا: الدعم الذي يعيق مسيرة التقدم
عمل نظام السيسي منذ 2014 على استبدال الدعم النقدي بالدعم السلعي من ناحية، ومن ناحية أخرى خفض تكلفة إجمالي الدعم الموجه للغذاء -الذي يتضمن الخبز والدعم التمويني معًا- كنسبة من المصروفات في الموازنة العامة، والسبب هو أن الدعم السلعي بالنسبة للحكومة يعني أنها مضطرة لتوفير سلع معينة أيًا كانت تكلفتها، خاصة وأن الكثير منها مستورد من الخارج، في المقابل، يسمح الدعم النقدي بتوقع سير الإنفاق في موازنتها والسيطرة على إنفاقها على الدعم في عدة سنوات قادمة، وهذا هو الهدف الأساسي من التحول للدعم النقدي[10].
وعلى هذا تم التحول إلى الدعم النقدي في كافة السلع التموينية ما عدا الخبز والذي تعمل الحكومة الآن على رفع الدعم عنه، كما وجه السيسي بوقف إصدار بطاقات تموينية جديدة للمتزوجين أو إضافة مواليد جدد للبطاقات القديمة، وهكذا استطاعت الحكومة عبر إجراءات تقشفية تقليص إنفاقها على الدعم السلعي الذي مثل عقبة كؤود أمام السيسي منذ توليه الحكم.
ومن ناحية أخرى تأتي برامج الحماية الاجتماعية التي تقدمها الدولة للمواطنين، وعلى رأسها تكافل وكرامة، وهى برامج تستهدف الطبقة الأكثر فقرًا في مصر بتقديم دعم مالي تتراوح قيمته بين 300 و500 جنيه، وهو دعم لا يعدو أن يكون مسكنًا لمريض ينازع الحياة، في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور.
خاتمة:
أردت في هذا المقال أن أوضح الملامح العامة لـ “النهضة الاقتصادية” التي يعد السيسي بها المصريين منذ توليه الحكم، فسيطرة الجيش والديون والإتاوات والفقر والبطالة يمثلون أعمدتها الحقيقية، ولا يبدو حتى الآن أن النظام الحاكم يسعى للشروع في عملية إصلاح حقيقي تقوم على إعادة هيكلة المنظومة الاقتصادية وتبني سياسات مالية ونقدية تحقق نموًا على المدى الطويل، فضلا عن تحقيق أى شكل من أشكال العدالة الاجتماعية وحسن توزيع الثروة.
المصادر:
[1] انظر: https://youtu.be/-2WJmyslOVQ.
[2] يزيد صايغ، أولياء الجمهورية: تشريح الاقتصاد العسكري المصري، مركز مالكوم كير كارنيغي للشرق الأوسط ، 2019، متاح على الرابط: https://carnegie-mec.org/2019/12/14/ar-pub-80500.
[3] يزيد صايغ، الاحتفاظ بالقدرة أم إعادة الهيكلة أم التجريد؟ خيارات سياساتية للاقتصاد العسكري المصري، مركز مالكوم كير كارنيغي للشرق الأوسط، 2022، متاح على الرابط: https://carnegie-mec.org/2022/01/31/ar-pub-86266.
[4] بيسان كساب، دانيال أوكونيل وعايدة سالم، مصر تناقش “النقد الدولي” في قرض جديد محتمل، مدى مصر، 26 يناير 2022، على الرابط: https://cutt.us/uzqao.
[5] محمد مسلم، مصيدة ديون مصر: الجذور النيوليبرالية للمشكلة، في الاقتصاد المصري في القرن الحادي والعشرين، دار المرايا، 2016، ص135.
[6] بيسان كساب، دانيال أوكونيل وعايدة سالم، مصر تناقش “النقد الدولي” في قرض جديد محتمل، مرجع سابق.
[7] محمد عبد الله، تراجع الفقر في مصر لأول مرة منذ 20 عاما.. إصلاحات اقتصادية أم أرقام تجميلية، الجزيرة، 6 ديسمبر 2020، متاح على الرابط: https://cutt.us/g1Zms.
[8] أحمد مولانا، تأزم الاقتصاد المصري وتسارع الإفقار، منتدى العاصمة، 12 نوفمبر 2020، متاح على الرابط: https://cutt.us/BgR97.
[9] أحمد مولانا، السطو على جيوب المواطنين، منتدى العاصمة، 24 سبتمبر 2020، متاح على الرابط: https://2u.pw/aRxN4.
[10] بيسان كساب، سبع سنوات لعب في «الدعم»، مدى مصر، 28 نوفمبر 2021، متاح على الرابط: https://2u.pw/Hlzjx.
تعليقات علي هذا المقال