وجه جميل وجذاب، ترتسم عليه سمات الرزانة، ذو مظهر أنيق، بشعر ولحية بيضاء وعيون عسلية، لم يجد حريته إلا في الحروف والكلمات، العمر عنده قصص وحكم، انفعلت أعصابه بأحداث الأيام، وألزمته أن يكون ما كان، وبالرغم من أنه بات بعد الستين، لكنه شاب على الدوام، اسمه: أسعد طه.
بنى نفسه بنفسه وكسر قيود الوظيفة مبكرًا، جمع ما بين رشاقة القلم، والصدق في التعبير، وملكة الحكي، وصوته الساحر الذي يخترق الروح.
طاف نصف الكرة الأرضية، وقضى أعوامًا في معايشة أهوال الحروب وويلاتها، والتي تركت في نفسه آثارًا بالغة، فقد عايش الظلم والعدل، ووثق للضحية والجاني في آن واحد، كما أن الخلطة الجميلة التي قدمها في أفلامه الوثائقية، جعلته رائدًا في إنتاج وصناعة هذا الفن.
كمية التجارب الغنية والخبرات المستمدة أهلته لأن يترك بصمته على العديد من الأعمال، وأهمها وأكثرها حظًا، هي تجربة البوسنة والهرسك وأيام الحرب فيها.
بالرغم من أسفار أسعد الكثيرة، وتنقله ما بين العديد من البلدان، إلا أن البوسنة والهرسك والتي يحمل جنسيتها، تظل عشقه الأكبر، حيث أحب إسلامها السلس الصادق، ووقع في حبها من أول نظرة، إذ يرى أسعد أن المدن مثل النساء، تشعر بها ولا تعرف سببًا للوقوع في حبها، ويعقب: “عليك أن تعمل الصالحات حتى تدخل الجنة في الآخرة، أما في الدنيا فيمكنك الذهاب إلى سراييفو”.
البداية: تهجير واعتقال
ولد الطفل أسعد طه في مدينة السويس بمصر، أبصرت عيناه النور في الأول من فبراير عام 1956، عاش جزءًا من طفولته في السويس، والتي يصفها بأنها بيت العائلة الكبير.
تأثر أسعد بالبيئة الأسرية التي ترعرع فيها، حيث كان للوالد والوالدة أثر طيب في تنشئته، ويحكي أنه عرف مجد الحكاية من والدته وأبيه وأخته حينما كان طفلًا، كما تعلم المبادئ على أيديهما بصورة تلقائية وواقعية، لدرجة أن أسعد يقول دائمًا: “والدي ما زال يربيني وهو في قبره”.
وحين وقعت هزيمة 1967، عاش أسعد ظروف الاحتلال الإسرائيلي الذي عصف بمدينته، وكانت هذه أول حرب يشهدها، وكان أشد مشهد على نفس الصغير، هو وجود العلم الإسرائيلي على الضفة الأخرى لقناة السويس.
بعدها تم تهجير الكثير من العائلات، ومن ضمنهم عائلة أسعد، حيث قررت الدولة المصرية إغلاق المدارس والمؤسسات والشركات، واعتبار مدينة السويس منطقة عسكرية يحظر البقاء فيها.
لذا اضطرت عائلة أسعد لأن تُلملم أشياءها، وهُجرت من ديارها مع باقي العائلات إلى مدينة طنطا، وعاش أسعد فيها ما تبقى من طفولته.
كان أسعد متفوقًا في مشواره التعليمي، وأخذ يوسع مداركه الأدبية والفكرية إلى جانب دروسه التي يتلقاها في المدرسة، حيث أحب القراءة والكتابة منذ أن وعى الحياة، وكان يقرأ كل ما تصيبه يديه، ويقول: “كل كتاب أو قصة تقع في يدي، كان بالنسبة لي أفضل من ملابس جديدة لطفل في عيده”.
ويحكي أسعد أن أخته الكبرى كانت تساعده في شراء الكتب عندما تنفذ قروشه، ومن شدة ولعه بالقراءة، كان كلما ذهب مع والده لزيارة صديقه اليوناني الذي يمتلك مكتبة زاخرة، يستغرق معظم الوقت في قراءة الكتب، وفي ختام الزيارة، يشترى الوالد له كتابًا.
وبجانب ذلك؛ فقد زاد تأمله وهو طفل كبير في سر الحكاية في القرآن الكريم، كما كان والده من أعلام الكتابة الفكاهية، وحَكاءً بين أصدقائه، وكان أسعد يعشق الاستماع إلى حكاوي الوالد.
وبالرغم من أن أسعد كانت لديه قناعة مبكرة بأن الصحافة هي قبلته، إلا أنه درس الهندسة في جامعة الإسكندرية إرضاءً لوالده، وشارك حينها بالأنشطة الطلابية، والمظاهرات، وكان عضوًا في منظمة الشباب التابعة للاتحاد الاشتراكي، ولكنه تركه.
وعايش أيضًا جماعة الماركسيين، وحكى عن علاقته بـتيمور الملواني، ورغم خلافهما الأيديولوجي، إلا أن أسعد يكن له المحبة والتقدير.
وفي إعدادي هندسة، كتب أسعد مقالة في مجلة الحائط سخر فيها من أمير الجماعة الإسلامية في هذا التوقيت، لكنه حين أراد أن يتعرف على هذا الكيان الكبير الذي كان يضم ألوانًا شتى من الشباب المتدينين، دخل بينهم للاطلاع، ولكنه لم يلبث أن تركهم.
وعقب مقتل السادات، كان أسعد على موعد مع الاعتقال في سجن أبي زعبل، فالأمن لديه أسماء ولا يغفر الذنوب أبدًا، ولا يسامح عن الماضي وإن كان بسيطًا، يقول أسعد:
“أيام السجن طويلة ومملة ولياليه قاسية، بشكل لا يمكن أن يتصوره الحُر، وأسوأ ما فيها أنك لا تعلم ماذا يخبئ لك الغد، أنت لست محكومًا بحكم محدد الزمن فتعرف متى سيطلق سراحك، وإنما أنت هكذا في مهب عاصفة، قد يُفرج عنك الآن، وقد تُنقل إلى سلخانات التعذيب غدًا، وفي كل الأحوال تهزك الشائعات التي تنطلق في السجن بسرعة الصاروخ”.
ويبدو أن تجربة المعتقل تركت ندوبًا في شخصية أسعد، وأثرت عليه كثيرًا، وقد حكى عن تجربة الظلم الذي وقع عليه هو وأصدقائه، والصفعات على أيدي حماة الوطن، وكيف كانت أجهزة الأمن المصرية تعتقل الشباب لمجرد الاشتباه بأنهم يرتادون أحد المساجد التي يصلي فيها أفراد الجماعة الإسلامية.
تجربة مؤلمة عاشها أسعد، واللافت أن تجربة أسعد في الثمانينيات تتشابه بشكل كبير جدًا مع ما يحدث الآن، ويبدو أن معاناة المصريين لا تتغير بتغير الرؤساء، ومازالت مصر في زنزانة.
يقول أسعد:
“أشعر بخجل شديد وأنا أستعيد تفاصيل هذا الاعتقال، هو بمثابة نزهة صيفية إذا ما قورن بما يجري اليوم للمعتقلين وزائريهم، منذ سقوط الملكية والطاحونة تدور تدهس الكل وبمساواة بين الجميع مهما اختلف المعتقد”.
السجون هي مرآة المجتمعات، فهي تكشف عن مستوى حقوق الإنسان في الدولة، فإذا امتلأت بآلاف الأبرياء، فأنت أمام نظام مستبد، يقود المجتمع نحو الانحدار، ولذلك يرى أسعد بأن أفضل من يصنع المقاومة والمعارضة -حتى الإرهاب- هم رجال الأمن في معامل الاعتقال، ولذلك يعتبر بأن “السجن مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق، نعَم.. السجن مدرسة عافانا الله منها”.
من الغربة إلى المغامرة
في الثمانينيات وبعد أن أفرج عن أسعد من المعتقل، رحل عن مصر، وكان حينها على مشارف الثلاثين من عمره.
عاش في ألمانيا واتخذها مستقرا لعائلته، ولم يكن صحفيًا حينها، وإنما كان يحاول أن يبدأ، حيث كان يعمل بدوام جزئي في بعض الفنادق والمطاعم حتى يستطيع أن يؤمن سفرياته الصحفية التي يصرف عليها من جيبه الخاص.
ورغم أن أسعد لم يدرس الصحافة أكاديميا، لكنه بدأ في تعلمها بشكل ميداني، وعن هذه الفترة يقول:
“عندما غادرت مصر، كنت وقتها أريد أن أعمل في الصحافة، ووجدت أن البقاء في بلدي وحيث أنا هو المغامرة، الناس تظن دائمًا أن الحركة بها مغامرة، والسكون هو الأمان، ولكني اكتشفت بعد أن اتخذت هذا القرار أن العكس تمامًا هو الصحيح، أن السكون هو المغامرة.. مغامرة ألا تحقق أي إنجاز في حياتك إذا بقيت في هذا المكان”.
بدأ أسعد حياته المهنية في العمل كصحافي ومراسل مستقل، وكان يشق طريقه شقا ويحفر الأرض بإبرة صحافي مستقل، وهي خطوة جريئة في ذلك الوقت، لكنها أعطته الحرية التي أرادها.
كان اهتمام أسعد في البداية منصبا على دول أوروبا الشرقية التي يمثل المسلمون فيها أقلية، وكان يرتحل من منطقة إلى أخرى لينقل أخبار المسلمين لبعض الجرائد الصغيرة.
في الثاني من أغسطس 1990، سافر أسعد إلى منطقة في بولندا، لتغطية منتدى يجمع بين شباب المسلمين من أوروبا الشرقية، ولكن بسبب غزو العراق للكويت تم إلغاء المنتدى.
وفي طريق عودة أسعد، تعرف على مجموعة من المشاركين في المنتدى، وكان من بينهم، رجل من البوسنة، تحدث إلى أسعد عما يجري في يوغسلافيا وقتها، وباغته بالسؤال: هل يعلم قومك بوجودنا هنا؟ هل يعلم العرب والمسلمون أن هذا الجزء من أوروبا المسمى البوسنة والهرسك هم مسلمون عانوا ما عانوا ويتوقعون الحرب؟ ثم وجه دعوة إلى أسعد للسفر إلى البوسنة.
كان أقصى طموح أسعد هو أن يغطي العائد المادي تكاليف الكتابة والمراسلة من البوسنة والهرسك، التي كانت في ذلك الوقت غير معروفة في العالم العربي، وكان أسعد الصحفي العربي الوحيد المقيم هناك.
وعندما اندلعت حرب البوسنة والهرسك، كان أسعد أول صحفي عربي يشارك في تغطيتها، حيث لم يهتم الإعلام العربي بها إلا حين اهتمت وسائل الإعلام الغربية، وأشارت إلى أن غالبية سكانها من المسلمين.
ورغم إمكانيات أسعد المحدودة مقارنة بزملائه من القنوات الأجنبية، إلا أنه أنتج تقارير متميزة، والتقى عدة مرات مع الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيجوفيتش.
أيضًا التقى أسعد مع العديد من القيادات العسكرية البوسنية، وقدم قصصًا مختلفة عن مخيمات اللاجئين، ونفق سراييفو الذي كان بمثابة شريان الحياة للمدينة المحاصرة في ذلك الوقت، مما سمح له بتقديم تغطية مختلفة عن الآخرين.
وبعد انتهاء الحرب، طلبت محكمة العدل الدولية في لاهاي من أسعد الإدلاء بشهادته عما رآه أثناء الحرب في البوسنة.
الكاميرا والكلمة: بندقية متحركة
يصف أسعد نفسه بأنه يسافر إلى الأماكن الرمادية الغير معروفة في التاريخ والجغرافيا، ليكتشف أشياء جديدة مجهولة، ثم يرويها للناس.
كانت البوسنة هي نقطة الانطلاق لأسعد في عالم الصحافة واكتشاف الأماكن الرمادية، ثم طاف بعدها إلى البلدان المجاورة، وشارك في تغطية العديد من الحروب، مثل ألبانيا وكوسوفو وجنوب السودان والعراق والكونغو.
كما غطي الحرب الأهلية بين التوتسي والهوتو في رواندا، وسافر إلى أمريكا الجنوبية، حيث التقى هوجو تشافيز، لكن منطقة البلقان وآسيا الوسطى، وما جري لمسلمي هذه المناطق، هو أكثر ما شغل وجذب انتباه أسعد.
وأثناء الحرب الشيشانية، منعت السلطات الروسية الصحفيين من الدخول، لكن أسعد نجح في الوصول إلى العاصمة جروزني، وزار عدة جبهات للقتال، كما التقى بمقاتلين عرب، وأجرى مقابلة مع الرئيس الشيشاني الأسبق أصلان مسخادوف زعيم المقاومة، قبل أن تغتاله روسيا.
سافر أسعد إلى الشيشان مرتين؛ وفي زيارته الثالثة، تم اعتقاله في نالتشيك من قبل السلطات الروسية، ثم أطلقت سراحه لاحقا.
وتعد تجربة الشيشان من أصعب وأقسى تجارب أسعد، حيث كان الوضع أشد ضراوة من البوسنة، والقوات الروسية دكت كل شيء، ولم يسلط الإعلام الضوء على الشيشان بالرغم من كل ما لاقته.
على الرغم من تركيز أسعد علي توثيق الصراعات خارج حدود الوطن العربي، لكنه يرى بأن هناك تشابها كبيرا بين البشر، والظلم الموجود في كل مكان له نفس اللون، والفساد له نفس اللون، والظالم هو الظالم وإن تغير اسمه وعنوانه، والمظلوم هو المظلوم، والمناضلون لهم نفس اللون.
لذلك يرى أن كل القصص الإنسانية مؤلمة مهما اختلف اللون والمعتقد، كل جرح مؤلم خاصة إذا كان من صنع الإنسان بحسب تعبير أسعد.
روى أسعد عن المرات الكثيرة التي تعرض هو ومن معه للموت أثناء عمله الصحفي، لدرجة أنه في كل مرة يعود فيها إلى البيت يقرر ألا يعود إلى مسيرته، وفي مرة طلب منه ابنه الصغير طلبا قاسيا، حيث قال له: “بابا لو كنت هتموت اتصل بي قبل أن تموت”.
يحكي أسعد أن هذه الكلمة علي بساطتها ألقت الرعب في قلبه، ولذلك يرى بأن الخوف مشاعر طبيعية تعتري وجدان الصحفي، لكن الجبن هو ألا تكرر الأمر، أي أن تجعل الخوف يتغلب عليك ويوقفك عن المهمة التي تقوم بها.
ولذلك يرى أسعد أن المسافة الفاصلة بين الخوف والجبن هي الفعل، وإذا هزم الفعل الخوف فهذه هي الشجاعة، والخطر كلما نجوت منه كلما قوي شعورك بالمواجهة، وعن ذلك يقول:
“المقاتل يعتقد أن البندقية قد تحميه من بعض الأذى، فماذا يحمي الصحفي؟ الصحفي يخاف الحرب، وهو يخاف أيضًا الاعتقال، لا تعلم كيف يمثل بك، ولا كم ستبقى أسيرًا في قبضة من يعتقد أنك عدوه حتى وإن صدّق أنك صحافي، في كل مرة أعود إلى بيتي أقرر ألا أعود إلى الحرب، لكن بعد حمام ساخن، وفنجان من القهوة، والتفاف الصغار وأمهم حولي، أتراجع عما عزمت عليه وأقرر العودة”.
العمر يُحسب بالحكايات
لأسعد كتاب اسمه “يحكى أن: عن الذات والحرب والثورة”، دون فيه تجربته الطويلة في العمل الصحفي، وبعضا من خبرته التي اكتسبها من الحياة والناس.
صدر الكتاب عام 2018 عن دار الشبكة العربية للأبحاث والنشر، وتبلغ عدد صفحات الكتاب 447 صفحة من القطع المتوسط، مقسمة على 63 حكاية، عبارة عن رحلات وتجارب أسعد التي قام بها.
يصف أسعد مؤلفه فيقول عنه: “إنه حصيلة ذكرياتي لثلاثين عامًا في أكثر من سبعين دولة، بعناوينها الرئيسية: الذات والحرب والثورة”.
والكتاب ليس من باب التسلية، بقدر ما هو عرضا لتجربته، والفوائد التي من الممكن أن يحظي بها الآخرون، ويركز الجانب الأكبر من الكتاب على ما جري خلف الكاميرا، وعلي الحكايات والكلمات التي لم تسعف أسعد لروايتها في أعماله الإعلامية.
وتعد تجربة أسعد التي دونها انعكاسا لحياته كليا أو جزئيا، كما أن مسحة الحزن وصرخات الألم وشظايا الصواريخ، وصرخات المهمشين، والمآسي وبشاعة الحروب والقتل تطغى على الكتاب.
ويري أسعد أنه يلتزم الموضوعية، لكن هذا لا يمنعه من أن يدور مع الحق، وينحاز إنسانيا لهذا الطرف أو ذاك، الأهم أن يكون الانحياز مبنيا على قيم أخلاقية، وليس على ميول وعواطف فقط.
لذلك يرى أن الموضوعية تفرض عليك أن تذكر ما يعاكس رأيك، وإن سجلت رأيك، كما يشير إلى أهمية إيمان وصدق الصحفي بما يقدم، وعدم استخفافه بعقول الناس، ولذا يؤكد علي ضرورة ألا يتجاوز الصحفي الواقع أو أن يضيف شيئا ليس موجودا.
وبحسب أسعد؛ فإنك حين تدافع عن الآخرين الذين يختلفون معك، فأنت تدافع عن نفسك وعن إنسانيتك، الأهم هو أن تبقي علي مبادئك مهما كان الثمن، ولا يندم المرء ما لم يخن نفسه أو ضميره.
المهمة العظمي للإنسان في الحياة هي أن يظل إنسانا، وأن يبقى قلبه حيا مهما شاهدا على المآسي، ولا يرى أسعد أي تناقض بين أن يكون الإنسان منتميا إلى هويته، وفي الوقت نفسه منفتحا على الآخر ويتعامل معه من منطلق إنساني.
لا تدع الحكاية تمر
خلال تغطية أسعد للحروب، كان كثيرا ما يسأل نفسه عن جدوى ما يفعله، والناس كانوا يقولون له نحن نموت وأنت تاخذ أموال من تصوير مآسينا، لكن أسعد لم يكن من النوع الذي يتعامل مع الحدث كعمل، أو يتعاطف بشكل بارد.
لذا فكر في ترك الصحافة والعمل في الإغاثة، وسأل نفسه، هل أحمل أكياس الطحين أم أحمل الكاميرا؟ لكنه شعر أن ما يقوم به هو أكبر مساعدة يمكن أن يساعد بها، أن يوثق اللحظات التاريخية، ويساعد المظلوم ويفضح الظالم من خلال ما سجله من كلمة وصورة، يقول أسعد:
“التوثيق هو التاريخ، وبقدر ما نصيب فيه نقلل من تزوير التاريخ، التوثيق يا سادة هو ذاكرة الوطن التي لا يدركها النسيان، هو حلقة الوصل بين مستقبل الوطن وحاضره وماضيه، هو الشاهد الحي على نضال المناضلين، أفرادًا وجماعات ومؤسسات؛ ولذا فإن ذاكرتنا هي الهدف الأول لعدونا؛ ﻷنها توثق لحقوقنا، وأن الأرض لنا، وأن الأسماء لنا، وأن النقش لنا”.
لا يعتبر أسعد الصحافة مهنة مثل كل المهن، إذا يؤمن بقدسيتها، ويرى أن لها دورًا مهمًا في التوثيق وحفظ الذاكرة الجمعية، بحسب أسعد، فالتوثيق واجب أخلاقي قريب من الفريضة، ولذلك يوصي بسرد وتوثيق حكايات المظلومين والشهداء، وتوثيق الإخفاقات والنجاحات، الأبطال والخونة، ليس المطلوب أن نوثق لحظات الفرح فقط، بل أيضا لحظات الألم، لأنها لحظات الدروس.
كما ينتقد أسعد وجهة النظر التي ترى بأن على الناس ترك الحديث عن الآلام ونسيان الجرائم والمآسي، وألا يتكلم أحد عنها كي لا ترث الأجيال القادمة هذا الغضب وتسعى للثأر.
برأى أسعد فإن هذا الأمر هو دعوة مفتوحة لكل مجرمي العالم أن يرتكبوا ما بدا لهم من جرائم، ولذلك علينا ألا ننسى، وإذا لم يكن بوسعنا أن ننتصر في هذه المرحلة، فعلى الأقل نورث الوثائق والحقائق إلي الأجيال القادمة، حتى يأتي زمن ينتقم فيه جيل جديد من الطغاة والظالمين.
يضع أسعد الحكاية في موضع أكبر من مجرد كونها قصة عابرة مسلية، إذا يرى بأن الحكاية ليست فقط أقرب طريق إلى الآخر، وأقرب طريق للوصول إلى وجدان الناس، بل أيضا ملجأ يحتمي فيه الإنسان والمجتمع لتوثيق الأحداث، وحفظ التاريخ والحقائق والدين من النسيان والاندثار، وبالتالي فالحكاية بمثابة مرآة للمجتمع، وضمير للشعب بكل فئاته.
الحكاية توثق وتبقى خالدة مع الناس، ولذلك يعتبر أسعد أن الحكاية هي بندقية أخرى، بندقية لا تصيب ولا تقتل إلا الباطل المحتل والفاسد الحاكم، بندقية تحمي ذاكرة الوطن إلى من يأتي محملًا بكل أسباب النصر.
وعلى كل منا أن يساهم بدوره في التوثيق قدر استطاعته، وألا يستصغر هذا الفعل مهما كان بسيطا، لأنك تفعل الشيء ولا تدرك قيمته في وقته، وإنما تكتشف القيمة بعد ذلك، يقول أسعد:
«قم إلى حروفك وعدستك، وثق ثورتك، الإخفاقات والنجاحات، الأبطال والخونة، الزعماء والبسطاء، صعِّبوا عليهم تزوير التاريخ، أغرقوهم بالحقائق، دعوا أولادكم وأحفادكم يرددون حكاياتكم، لا تستصغروا فعلكم، لا تحتقروا معروف وثيقة، وكما يمكن أن تنجينا من النار شق تمرة، يمكن أن ينجينا شق عدسة وشق كلمة».
يؤكد أسعد علي انتصار الشعوب التى ضحت وقاومت، ويرى أن الشهداء دومًا ينتصرون في آخر الحكاية ولو بعد حين، ويستشهد بواقعة إبادة بلدة بأكملها في كوسوفو، حيث لم يتردد أهلها في المقاومة رغم علمهم بنهايتهم المأساوية، لكن استشهادهم كان سببًا فى استقلال كوسوفو، ولم يموتوا هباء.
وختامًا؛ لم يكن أسعد صحفيا بقدر ما كان صاحب رسالة، جمع بين الحقيقة والإخلاص، وتحرك من منطق العشق، ولذا يريد أن يعمل حتى آخر لحظة في حياته.
وفي سؤال له: هل تخشى الطغاة؟ أجاب: “أخشى التوقف عن الكتابة ضد الطغاة”.
ويروي العم أسعد لنا أمنيته الأخيرة، فيقول: “أمنيتي الأخيرة أن أفعل فعل النسر، فإنه إذا ما شعر بدنو أجله حلَّق عاليا إلى أن يأتيه الأجل محلقا”.
تعليقات علي هذا المقال