ربما لن ينتهي العالمُ مِن الحديث عن حسن حنفي، الذي جاء إليه فملأ الدنيا، وشغل الناس، فهو من أكثر المفكرين العرب المعاصرين إثارة للجدل؛ إذ هو علماني وإسلامي، ومثالي ومادي، وظاهراتي وجدلي، وتكويني وبنيوي، وقد حرص حنفي دائمًا على ألا يقبل التصنيف، كما صرح لنا في إحدى محاضراته بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة، حيث كانت استراتيجيته في الهروب من المواجهة المباشرة مع الخصوم، بما هي نوع من حروب الجيل الثالث، والرابع، ألا يقبل التصنيفات التقليدية، وكانت استراتيجيته في الاستعصاء على التصنيف هي أن يكون دائمًا على الحدود الفاصلة بين الأيديولوجيات، والمذاهب، والمناهج، المختلفة، بل والمتناقضة، وربما المتصارعة.
الطريق الثالث: بين الإسلامية والعلمانية
لما كانت للكاتب مقالات سابقة عن حسن حنفي، فقد آثَر أن يتناول جانبًا لم يتناوله هو من قبل بتركيز، وربما لم ينتبه له أغلب من كتبوا عن حنفي، وهم كثر، هذا الجانب هو استراتيجية الطريق الثالث، حيث حاول حنفي اقتراح طريق ثالث كلما وقف على مفترق طرق: بين العلمانية والإسلامية، بين المثالية، والواقعية، بين الإصلاح، والثورة، بين الفينومينولوجيا والديالكتيك، وهو ما يعني أن استراتيجية الطريق الثالث، كما يمكن أن ندعوها في هذا المقام، كانت هي نفسها استراتيجية مواجهة الخصوم الأيديولوجيين من جهة، كما كانت محاولته للإضافة المعرفية، والفلسفية من جهة أخرى، وهكذا نرى أن حنفي لم يكن محايدًا، ولم يبتغِ الحياد أصلًا في تلك المواجهة، وإنما كانت طريقته هي مواجهة الاختلاف بالاختلاف، والنقد بالنقد، والافتراق على طرق معينة بطريق جديد، وفي كل الحالات فإن من العدل أن نقرّ بأن حنفي هو أحد ألمع العقليات الفلسفية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، إلى درجة تدريس مؤلفاته كنماذج أساسية للفكر العربي والإسلامي المعاصر في جامعات الغرب.[1]
إن استراتيجية الطريق الثالث مفهوم واسع، فهي “استراتيجية” عامة عند حنفي، كما يمكن تبين ذلك من مسار مشروعه الفكري في صورته النهائية قبيل وفاته بالقاهرة عام 2021، فلا يقتصر التعبير إذن على استراتيجية التوسط بين العلمانية والإسلامية، كما قد يُفهَم للوهلة الأولى، وبالرغم من هذا فإن ذلك التوسط المذكور كان فعلاً أشهر وجوه “الطرق الثالثية” –إن جاز التعبير- الذي حاول أن يشقه حنفي.
حين عاد حنفي بشهادته في الدكتوراه في الفلسفة عن الدرس الفلسفي لعلم أصول الفقه (مناهج التفسير) في منتصف الستينيات، هاله انشغال السلطة والمعارضة كذلك في مصر والدول العربية التي تحررت من الاستعمار مؤخرًا بتصفية الحسابات الأيديولوجية، حيث كان اليسار القومي في موقع السلطة في مصر في العهد الناصري، وكان الإسلاميون في موقع المعارضة، وكانت السياسة الداخلية للدولة أقرب إلى حلبة صراع بين العلماني القومي الاشتراكي وبين الإخوان المسلمين، ورأى حنفي أن ذلك الانقسام لا يفيد أحدًا سوى الاستعمار الجديد، ومن هنا حاول حنفي أن ينقد المعسكرين معًا، وأن يؤسس قاعدة نقاش جديدة، هي ذلك الطريق الثالث المذكور آنفًا.
وجد حنفي أن في كل فريق عيبًا وميزةً: العلمانيون لديهم ما يقولونه، لكنهم لا يعرفون كيف يقولونه، والإسلاميون ليس لديهم ما يقولونه لكنهم يعرفون كيف يقولونه.[2] يعني أن لدى العلماني أطروحات نافعة بمنطق براجماتي لكنها أطروحات لا تصل إلى عموم الجمهور بسبب نخبوية الخطاب الفلسفي، وأن الإسلامي على العكس قادر على اختراق العقل الجمعي للجمهور لكنه لا يقدم أطروحات نافعة أو معاصرة، أحدهما يمثل آليات التنظير، أي العلماني، والآخَر يمثل آليات الخطاب، أي الإسلامي، وبالرغم من وجود تناقضات حقيقية بين الأيديولوجيتين العلمانية والإسلامية، فإن حنفي كان واعيًا حقاً بأن الصراع بين الفريقين صراع سياسي في المقام الأول، ومن هنا كان منطقه الاستراتيجي في التعامل مع هذه الأزمة، ومع ذلك لم يكن منطلق حنفي استراتيجيًا صرفًا، فقد حاول بمشروع إعادة بناء العلوم الإسلامية تأسيس قاعدة انطلاق أيديولوجية جديدة على أساس نظري صلب، لكنه ظل طيلة مساره محكومًا بتلك الرؤية الاستراتيجية للطريق الثالث.
علمنة الإسلام أم أسلمة العلمانية؟
باختصار شديد نزعم أنه غير مخلّ، حاول حنفي “علمنة” الأصول الإسلامية في مفهومها الأوسع، حيث تتمتع العلوم الإسلامية بعلمين أساسيين متبلورين للأصول، هما أصول الدين، وأصول الفقه، ومع ذلك ينسحب مفهوم الأصل على علوم إسلامية أخرى، كعلوم السيرة، والحديث، والتفسير، وعلوم القرآن، والتصوف، وكانت منهجيته في إعادة بناء العلوم الإسلامية هي تفكيك أصول تلك العلوم، ليس للتخلص التام منها، وكذلك ليس لمجرد محاولة فهمها، بل من أجل تغييرها تغييرًا جذريًا.
تقوم إعادة بناء العلوم الإسلامية عند حنفي على أساس بيان التناقضات، والتنوعات، في الأصول، وبيان أصولها الأيديولوجية، والسياسية، والاجتماعية هي نفسها، وبالتالي لا يبقى سوى ما تمليه المصلحة العامة، و”المصلحة العامة” من كلمات السر الأساسية في مشروع حنفي لإعادة بناء الأصول الإسلامية، والتي جاءت على حساب حقوق الإنسان في الواقع.
كان هذا على جانب الفكر الإسلامي، والذي استغرق في الواقع أغلب إنتاج حنفي، وأقصى جهد له، وفي هذا الجانب ظهر إبداعه الفلسفي الأصيل في الواقع، وربما الوحيد، الذي يتخذ شكل نظرية محددة المعالم، هي نظرية الوعي الثلاثي Triple Consciousness Theory، وتقوم هذه النظرية باختصار على أساس أن الوعي الإسلامي وعي متميز عن الوعي الغربي، وكما انقسم الوعي الغربي إلى مثالي، وواقعي، وظاهراتي، فقد انقسم الوعي الإسلامي –في رأيه- إلى تاريخي، ونظري، وعملي، فينشغل الوعي التاريخي بتحقيق النصوص الأساسية للإسلام، التي انتقلت إلينا عبر التاريخ، وتوثيقها، وهو إذن توظيف خاص لمفهوم “التاريخ”، ولا يعني كما قد يُفهم للوهلة الأولى الوعي بالتاريخ المعيش، أو التاريخ كما تدرسه فلسفة التاريخ، ويهتم الوعي النظري بفهم هذه النصوص لغويا، ومنطقيًا، بينما يختص الوعي العملي بتحقيق المفهوم من النصوص في الواقع، ولهذا يعتبِر حنفي أن علم أصول الفقه ليس مجرد منهجية لاستنباط الأحكام من النصوص، وليس منهجية معرفية كما نظر إليه أدونيس والجابري من قبل[3]، بل يزعم حنفي أنه علم لتحقيق الوحي في الواقع.[4]
لكنه لم يكتفِ بجبهة التراث الإسلامي، بل أصدر “مقدمة في علم الاستغراب” لتفكيك أصول العلمانية كذلك.ك، وربما كان هذا المصنف هو أكثر مؤلفات حنفي إثارة للجدل في الأوساط الأكاديمية الغربية، فهو مرآة مختلفة، يرى فيها المستشرقون أنفسهم للمرة الأولى، ولما كانت أغلب أطروحات العلمانيين مستمدة من الفلسفة الغربية، فقد وجّه حنفي النقد للوعي الأوروبي، بدءً من نشأته على يد الإغريق، وتطوره في العصر الوسيط على يد الفلاسفة المسيحيين، ثم نهايته على يد الظاهراتيين.[5]، ويحمل تعبير “نهاية الوعي الأوروبي” في “مقدمة في علم الاستغراب” نبرة تفاؤلية؛ فحنفي يريد القول إن الوعي الغربي قد أشرف على نهايته، أو انتهى فعلًا، مما يفسح المجال للطرح الفلسفي الأصيل عند المسلمين، وغير المسلمين، من الأمم الشرقية، التي كانت تحت الاستعمار الغربي منذ عهد قريب.
أما الجبهة الثالثة، والأخيرة، فهي جبهة التفسير الواقعي، والشعوري، للقرآن الكريم “التفسير الموضوعي”- 2018، وهي التي كان يفترَض لها أن تقدم الإبداع الأصيل للمسلمين بعد كل هذه العمليات، بل وكل هذه العقود من العمل البحثي، من النقد، والتفكيك، وإعادة الهيكلة، ونظرًا لأن هذه الجبهة قد تأخر العمل عليها كثيرًا، حتى بلغ حنفي من العمر أرذله، فلم يَصدر تفسيره للقرآن موافقًا لآمال تلاميذه ومتابعيه، لكنه مع ذلك –في سياق التفسير- قد حمل أطروحة جديدة، هي التفسير الشعوري-الاجتماعي، وهو ما يطرق بابًا جديدًا من أبواب الطريق الثالث.
ثاني وجوه استراتيجية الطريق الثالث، التي قدمها حنفي، هو الفهم السيكولوجي (النفسي) للتراث الإسلامي، والتراث الغربي، وهو طريق ثالث؛ لأن المعهود في الدراسات الفلسفية بعامة أن يتم تفسير الظواهر النظرية إما على أساس مثالي، أي تتبع المؤثرات النظرية الصرفة، أو أساس مادي-اجتماعي، أي تتبع العوامل التاريخية-الاجتماعية، التي أدت إلى نشوء المذاهب، وارتقائها، أو اضمحلالها.
جاء حنفي ليؤكد أن عواملَ نفسية معينة قد تحكمت في نفسية الشعوب على مستوى الوعي الجمعي، وسمحت بنفوذ مذاهب معينة، في لحظات تاريخية معينة، على سبيل المثال يعتقد حنفي أن عامل الانبهار بالغرب، كعامل نفسي صرف، هو الذي دفع البعض للعلمانية، وهو السبب في احتفاء العلمانيين بمذاهب الفلسفة الغربية، عوضًا عن إبداع فلسفي خاص بهم، وكذلك اعتقد حنفي أن السبب في ميل الجمهور إلى أطروحات الإسلاميين هو عامل الانتماء النفسي للتراث القديم، ورغبة الحفاظ على الهُوية، والتميُّز الهُوياتي، وفي الحالتين هناك عامل نفسي أكيد، ومن هنا كان تعريف حنفي للتراث ذاته، فهو ليس متحفًا للنظريات، وليس مجالًا لمعرفة الحقيقة، بل هو مخزون نفسي بالدرجة الأولى،[6] وهي وجهة نظر مختلفة، وأعمق من مجرد التوفيق بين العلماني، والإسلامي.
أما ثالث وجوه استراتيجية الطريق الثالث فهي ما يمكن تسميته “بقانون الثالث الأيديولوجي”، ويعني هذا القانون أن مجابهة أيديولوجيا معينة تحتاج منا في الواقع إلى أيديولوجيتين بديلتين، لا واحدة، إن مواجهة الإسلاميين مثلًا بوجهة نظر علمانية مردود مسبقًا عليها، وليس لها أثر قوي في الواقع؛ بسبب المخزون النفسي سابق الذكر، وهنا نحتاج إلى أيديولوجية ثالثة، يتم تقديمها إلى الإسلاميين باعتبارها نقدًا للعلمانيين، كما يتم تقديمها في الوقت نفسه إلى العلمانيين بما هي نقد للإسلاميين، وهذا ما حاول حنفي أن يقدمه في مشروعه سابق الذكر متعدد الجبهات.
خاتمة
يمكن القول إن استراتيجية الطريق الثالث عند حنفي قد اتخذت ثلاثة أشكال أساسية: طريق ثالث بين العلمانية والإسلامية، وطريق ثالث بين الفهم المثالي، والفهم الواقعي-المادي، وطريق ثالث بين أيديولوجيتين متصارعتين بشكل عام، وفي الواقع قدم حنفي لنا درسًا في الاستراتيجية أكثر مما قدم معرفة، أو حقيقة، أو نظرية. وربما هذا ما يبقى منه كذلك في المستقبل.
المصادر
[1] – روى الكاتب في غير مرة كيف أنه درَس مؤلفات حسن حنفي في قسم الدراسات الشرقية بجامعة كولونيا بألمانيا الاتحادية أثناء إعداده للدكتوراه، مع الجابري، وإقبال، كأهم نماذج للفكر الإسلامي المعاصر.
[2] حنفي، حسن: التراث والتجديد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط5، 2002م، ص 26.
[3] أدونيس (على أحمد سعيد): الثابت والمتحول، بحث في الإبداع والاتباع عند العرب،(دار الساقي، بيروت، ط7، 1994) 1/ 138، 2/14-15. كذلك: – محمد عابد الجابري: بنية العقل العربي (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط9، 2009) ص 109-111. كذلك: محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط10، 2009) ص 100. كذلك: منى أبو الفضل، وطه جابر العلواني: نحو إعادة بناء علوم الأمة الاجتماعية والشرعية، مراجعات منهاجية وتاريخية (دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، ط1، 2009م) ص 137.
[4] حسن حنفي، من النص إلى الواقع، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، ط1، 2033-2044: 1/19.
[5] حنفي، حسن: مقدمة في علم الاستغراب، الدار الفنية، القاهرة، ط1، 1991، ص 5.
[6] حنفي، حسن: التراث والتجديد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط5، 2002م، ص 13.
تعليقات علي هذا المقال