يحتار العقل المسلم في التعامل مع منتجات التطور التكنولوجي الذي لم يكن جزء من صناعته، بل يُستدعى للحكم عليه، طارحا سؤال: هل يجوز استخدامه أم لا؟ وفي مثال البيتكوين والعملات الرقمية يصير الأمر أشد تعقيداً، وبالتالي أكثر إرباكاً، إذ إن المنتج التكنولوجي الجديد، البيتكوين والعملات الرقمية، يتداخل مع مجالات متعددة مثل النقد/المال، والاقتصاد والحوكمة وغيرها، وهي في الأصل مجالات تم استدعاء العقل المسلم سابقاً وحاضراً للتعامل معها، ولم يكن أيضاً جزءً من تطويرها، كما لم يقل فيها قول فصل.
هذه المستويات من التعقيد تستوجب تطوير منهجية رصينة للتعامل مع ظاهرة البيتكوين والعملات الرقمية تمهد الطريق لفتح نقاش فعال يتداخل مع واقع الأمة واحتياج أبنائها في هذه المرحلة من تاريخها، وفي هذا المقال نقترح منهجية نقارب بها التعامل مع ظاهرة البيتكوين والعملات الرقمية.
نقترح التداخل مع أسئلة أولية للتعامل مع هذه الظاهرة:
- لماذا نشأ البيتكوين وما هي نقطة تفرده؟
- ما هو الحوار الذي يدور حوله في مسقط رأسه؟ وما هي جذور هذا الحوار؟
- ما هي الأحكام الفقهية التي تناولت البيتكوين والعملات الرقمية والسياق الذي تطورت فيه؟
- ماذا بعد؟
ولا يمكن بأي حال تغطية هذه الأسئلة في مقال واحد، لكن محاولة تفكيك هذه الأسئلة قد يفتح الطريق لمنهجية حوار ونقاش بنّاء يتناول جوهر الظاهرة بدلاً من التعامل مع تجلياتها فقط.
لماذا نشأ البيتكوين وما هي نقطة تفرده؟
عبر تاريخ الاقتصاد، وفقاً للمركزية الأوروبية-الأمريكية، تسود مدرستان لتعريف المال ونشأته، مدرسة (Value based) ويقال عنها أيضًا Hard money أو Sound money وترى أن المال أصله مرتكز على القيمة. ومدرسة (Credit Based) ويقال عنها أيضًا Soft money أو Unsound money وترى أن المال في أصله عبارة عن عقد استدانة.[1]
ترى المدرسة الأولى، مدرسة القيمة، أن المال نشأ لتسهيل عملية المقايضة، فبدلاً من أن أستبدل الأرز بالسمك وأنا لست في حاجة للسمك يجب أن تكون هناك سلعة وسيطة يمكن أن أشتري بها الأرز ويقوم بائع الأرز بشراء ما يلزمه دون قيد، هذه السلعة الوسيطة يجب أن تحظى ببعض الخصائص كي تكون مقبولة، مثل قبولها بشكل عام من عموم الناس وعدم تذبذب سعرها بشكل كبير، لذلك استقرت الخبرة التاريخية في استخدام الذهب كسلعة وسيطة في عملية التبادل لتمتعها بهذه الخصائص.
حدث ذلك بعد أن تغلب الذهب على كل منافسيه تقريباً سواءً كانت معادن مثل النحاس والفضة أو غير ذلك، مثل صدف البحر الذي كان يستخدم في بعض المناطق في العالم، حيث كان جوهر تميز الذهب الذي أدى إلى نجاحه هو ندرته وعدم القدرة على إنتاجه بكميات كبيرة مهما زاد الطلب عليه ومهما تطورت تقنيات تعدينه حتى في يومنا هذا.
تدعي المدرسة الثانية، مدرسة عقد الاستدانة، والتي اشتهرت في القرن التاسع عشر، أن المال نشأ كعقد دين (debt contract) أي أنه عبارة عن وعد بالدفع في المستقبل مقابل شيء تم شراؤه اليوم، فالمال وفق هذا التعريف ليست له قيمة في ذاته، وهو بالتالي ليس سلعة كالذهب، بل يمكن أن يكون ورقة تأخذ حجيتها في الثقة فيمن أصدرها.[2]
ينتمي البيتكوين للمدرسة الأولى وإن لم يخالف المدرسة الثانية بالكلية، فهو يتشابه مع الذهب في ندرته وعدم القدرة على إنتاجه بكثافة في حال زاد الطلب عليه، ويتشارك مع المدرسة الثانية في أنه ليس له قيمة في ذاته لكنه ليس عقد دين، لذلك له انتماء جوهري للمدرسة الأولى يمكّنه من أن يُحسب عليها دون الثانية.
ما النقاش الذي يدور حوله في مسقط رأسه؟
تفرد البيتكوين من وجهين رئيسين:
الأول: يعتبر البيتكوين أول محاولة ناجحة لخلق نقد/مال ينتمي إلى الفكرة الراسخة للمال، من كونه أصلاً نادراً كالذهب، في الخبرة التاريخية لأذهان الناس قبل الحداثة، حيث نجحت هذه المحاولة بعيداً عن مؤسسات الحداثة السلطوية، الدولة والشركة، وامتداداتها من مؤسسات دولية أو منظمات مجتمع مدني وغيرها.
الثاني: أنه جاء على جناح تطور تكنولوجي مفارق للهوس التكنولوجي المُمأسس حداثياً، سواء من كلفة المخاطر التي تتحملها الدولة كي تطور تكنولوجيا تحتاجها، خاصة في تطوير التكنولوجيا العسكرية، كما في الإنترنت والنانو تكنولوجي، أو كلفة مخاطرة رأس المال الذي يخاطر في التطور التكنولوجي من أجل مراكمته، كما في منظومة وادي السيليكون، أو محاولات استنساخها في الصين وغيرها[3].
خلق هذا التفرد حوارا انفصاميا بين توجهين كل يرى البيتكوين من منظوره:
فريق عامة الناس (Value based) وفي مقدمتهم من يريد التحرر من عبء النقد الحداثي ومشاكله، والذي يرى أن البيتكوين هو البديل الطبيعي للنقد الدولاري وغيره من أشكال النقد الورقي الآخذ في الانحدار والمتجه للانهيار، ولا مانع لدى هذا الفريق من تبني حلم الثراء السريع نتيجة ما يقدمه البيتكوين من نجاحات شبه مستمرة منذ صدوره قبل 12 عاماً.
وفريق آخر رأسمالي “الخبراء” (Credit based) يرى أن البيتكوين أصلا رقميا نادرا، أثبت ادعاءه بأنه منظومة تكنولوجية فعالة وآمنة، ويمكن أن تستخدم في تحسين بعض عيوب النظام المالي، لذلك يمكن أن يكون أداة استثمارية للتحوط كجزء من إدارة المحافظ الاستثمارية، كما يمكن الاستثمار في بعض المشاريع الواعدة التي تساهم في تحسين أداء النظام المالي الحالي، وهذا الفريق لا يعتبر البيتكوين عملة بديلة عن أي من أشكال النقد الحديث.
كيف نفهم جذور هذا النقاش؟
يمثل الفريقان في هذا الحوار الانفصامي المدرستين السابق ذكرهما في النظرة لأصل المال في التاريخ الاقتصادي، هذا التاريخ الاقتصادي مروي بعيون أوروبية-أمريكية، فعلى سبيل المثال لم تظهر مدرسة الدين (Credit Based) في تاريخ حضارتنا المسلمة نظراً لتحريم الربا في الشريعة الإسلامية، ومن غير المتخيل أن حضارة امتدت في ربوع الأرض وتسيدت على سائر الحضارات لم يكن لها نموذجا اقتصاديا فريدا، ويؤكد فكرة تعدد المذاهب والمدارس الاقتصادية المؤرخ الاقتصادي روبرت سكيدليسكي (Robert Skidelsky) فيقول: “دراسة التاريخ الاقتصادي تُظهر أن المذاهب والمدارس الاقتصادية تنشأ في أماكن معينة وفي أوقات معينة لإلقاء الضوء على مشاكل أو اهتمامات خاصة بهذه المجتمعات في تلك الأوقات.”[4]
هذا الحوار الذي يحمل في طياته توجهات مختلفة تصل حد التعارض هي نتاج حضارة غربية ذات نموذج اقتصادي رأسمالي قائم على الربا كمحرك أساسي لهذا النموذج، وبالنظر للذات المسلمة لم يكن هناك إلا مدرسة واحدة (Value Based) وإن تعددت أشكال تطبيقه وفق ظروف الحال واجتهاد أهل الرأي وقبول الناس، وهو أيضاً ما يوافق ما استقرت عليه الفطرة البشرية على اختلاف تجلياتها الحضارية.
يمكن القول الآن: إن البيتكوين محاولة لانتصار مدرسة المال المبني على القيمة في مواجهة مدرسة المال المبني على عقد الاستدانة، وأن هذه المحاولة تتوافق فيما استقر عليه تجربة المسلمين في حضارتهم التليدة، بغض النظر عن الحكم على هذه المحاولة أدائيا، بمعنى؛ يمكن أن تنجح المحاولة على الأرض وتلقى قبول، ويمكن أن تفشل ولا يقبلها الناس لأسباب موضوعية، لكن هذا موضع نقاش آخر.
ما هي الأحكام الفقهية التي تناولت البيتكوين؟
من الصعب حصر جميع الأحكام الفقهية التي أنتجتها الأمة والتي تناولت البيتكوين والعملات الرقمية، لكن يمكن التعرض لمؤتمر “العملات الافتراضية في الميزان” المنعقد في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة عام 2019، وكذلك ندوة “العملات الرقمية المشفرة” التي نظمتها منظمة التعاون الإسلامي ومجمع الفقه الإسلامي الدولي عام 2021، اشتمل المؤتمر على 37 بحثا فقهيا، وشملت الندوة كذلك 15 بحثاً، تناولت هذه الأبحاث جوانب عدة، وزوايا مختلفة لظاهرة البيتكوين والعملات الرقمية.
تعددت الآراء في الحكم على البيتكوين بين الحل والحرمة، وكذلك بين قانونية العمل به أو تجريمه، كما أن هناك شبه إجماع على أن البيتكوين هو تطور طبيعي للنقد/المال يتماشى مع التطور الذي وصلت إليه البشرية في تكنولوجيا المعلومات، وما شاركه كثير من الباحثين في هذه النقطة أن هذا التطور قادم لا محالة ويجب أن نجتهد لكي نتكيف معه!
كما أنه تكرر ذكر أمرين في كثير من توصيات الباحثين، الأول: ضرورة استشارة “اقتصاديين” واعتبار رأيهم في الضرر والنفع الاقتصادي، والثاني: “ترجمة” أعمال تناولت البيتكوين باللغات غير العربية.
ماذا بعد؟
نحن هنا لسنا بصدد تقييم هذا الجهد المشكور، أو مناقشة تحديات دور الفقيه وتحديات الواقع[5]، كما نعتقد أن الدافع وراء هذا الجهد الفقهي هو صالح الأمة، من أجل هذا الدافع أيضاً يشرع لنا طرح بعض الأسئلة:
- على اعتبار أن البيتكوين شكل جديد من أشكال المال، هل يمكن مناقشة المال/النقد كقضية جزئية دون النظر إلى النموذج الاقتصادي الذي يعمل فيه ذلك المال؟
- هل يمكن مناقشة قضية البيتكوين دون مناقشة العملة الورقية بشكل عام والدولار بشكل خاص ودورهما في حياة الناس إيجاباً وسلباً؟
- إذا كان استعمال الدولار الورقي، الذي هو أداة هيمنة ومحرك لمنظومة رأسمالية مهيمنة، جائز على أنه مما عمت به البلوى، هل يمكن اعتباره معياراً يقاس عليه في الحكم على البيتكوين الذي هو محاولة لرفع هذه البلوى؟
- على الجهة الأخرى؛ هل يمكن التفكير في البيتكوين كبديل للمال في معزل على النموذج الاقتصادي الذي يعمل فيه؟
- هل يخلق البيتكوين اقتصاداً جديداً يستبدل الرأسمالية أم تستوعبه الرأسمالية؟
- هل يمكن أن يقوم عليه اقتصاد إسلامي متحرر من تبعية الدولار/المال الرخيص؟
- هل يمكن البناء على نقطتي تفرد البيتكوين من كونه شكلا من أشكال المال المفارق للحداثة، وأن بنية تشغيله قد طُورت وتعمل على مسافة من البنى والهياكل الحداثية؟
- هل يمكن دمج فكرة الوقف الإسلامي، المستقرة في ذاكرة المسلمين ووجدانهم، مع بنية البيتكوين التشغيلية المفارقة للحداثة؟
- هل يمكن البناء على هذه الفرصة دون وجود منظور نماذجي اقتصادي جيد يجسد المعيار الديني؟
خاتمة
حاولت في هذه السطور القليلة الوقوف على مدى تعقيد ظاهرة البيتكوين وتشابكها مع حاضرنا وماضينا، وبيان أن مناقشة القضية فقهياً بشكل جزئي للوصول إلى حكم بحِل أو حُرمة استعمال البيتكوين والعملات الرقمية غير مفيد للأمة وأبنائها، ولابد من مناقشة القضية بشكل كلي وليس جزئي، ومن مداخل متعددة، وأعتقد أن نقاشاً جاداً يجب أن يُفتح يمكن أن تكون هذه الأسئلة وغيرها مقدمة له.
المصادر
[1] Skidelsky, R. (2018). Money and Government. Yale University Press.
[2] المصدر السابق.
[3] التكنولوجيا في ظل التحولات الكبرى: الأدوار الممكنة، مركز إنسان للدراسات الحضارية 2021.
[4] Skidelsky, R. (2020). What’s Wrong with Economics?. Yale University Press.
[5] سيف الدين عبد الفتاح، العالم والسلطان: بين السلطة والدولة والأمة، كتاب تحت الطبع؛ دار الأصالة، اسطنبول؛ تركيا، ٢٠٢٣
تعليقات علي هذا المقال