في يناير 2022، صدر عن دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات بالقاهرة، كتاب “الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني” لمؤلفه الباحث السويسري من أصل سوري، جوزيف ضاهر، وهو باحث وأكاديمي، يتولى حاليا منصبيّ أستاذ في جامعة لوزان بسويسرا، وأستاذ منتسب بدوام جزئي في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا بإيطاليا، وهو مؤلف لعدة كتب، ومؤسس مدونة “سوريا الحرية للأبد”.
نُشر الكتاب لأول مرّة بالإنجليزية عن دار نشر بلاتو برس pluto press في لندن عام 2016، وقد نقله إلى العربية بدقّة ومهارة عالية، الكاتب والمُترجم السوري علاء بريك هنيدي، ويتكون الكتاب من ثمانية فصول مُقسَّمين على 380 صفحة، كل فصل يُكمّل الذي سبقه.
نحاول هنا تلخيص ما أراد أن يشتبك معه ضاهر، لكن هذا لا يغني لكل مُهتمٍّ أن يحصل على الكتاب، لما يحويه من التفصيلات والتحليلات والتفكيكات الخاصة، بالاقتصاد السياسي للدولة اللبنانية، وبالأخص تلك الخاصة بحزب الله، من سياقاتٍ عدة، ومما يميّز الكتاب، رصده لحقولٍ تشمل السياسي والتاريخي والديني والاجتماعي، وتشابكاتها مع الاقتصادي، معتمدا في ذلك على المئات من المصادر والمراجع العربية والأجنبية.
حزب الله: نشأة من رحم الطائفية
لم يُهمل ضاهر السياق التاريخي لنشأة السُلطوية السياسية والاقتصادية وارتباطها بالطائفية في الدولة اللبنانية، إذ تحدَّث في فصل الكتاب الأول المُعنون بـ “الطائفية والاقتصادي السياسي اللبناني: نشأة حزب الله” عن كيفية أثر سلطة الانتداب الفرنسي على التقسيم الديموغرافي للطوائف اللبنانية المُختلفة، المسيحية والسنّية والشيعية والدرزية، فضلا عن الاستقلال اللبناني عام 1943، والذي أرسى بموجب الميثاق الوطني وبمرجعيّة دستور 1923، مبادئ التوزيع السياسي حسب الطائفة، الرئيس ماروني، رئيس الوزراء مسلم سنّي، الكتلة البرلمانية ستة مقابل خمسة، مسيحية للأولى والثانية للإسلام.
بين عامي 1920 و1946، يوضح ضاهر أنّه كان لمُعتنقي المذهب الشيعي الحظ الأقل دائما على المستوى التمثيلي السياسي والتشريعي، وحتى على المستوى الاقتصادي وتوزيع الثروات والاهتمام بإعادة إعمار البنى التحتية، كان من نصيب المناطق التي لا يقطن فيها أغلبية شيعية، وهى الأطراف المُهمّشة، مقارنةً بسُنّة الإسلام والمسيحية، وحتى على المستوى التعليمي، إذ بلغت معدلات الأُمّية عام 1943 عند الشيعة 61.9% مقارنة بـ 31.5% عند مسيحي الكاثوليك.
لكن تباعا، ومع مرور العقود وظهور الحركات الشيعية، كمثل حركة أمل ومن ثم حزب الله، أُسست وحُلّتْ عشرات الحركات والمُنظمات الدعوية والمُسلحة، يفسر ضاهر أن صعود حزب الله منذ بداية الثمانينيات حتى الإعلان عن التأسيس عام 1985، كان رد فعل لسلك حركة أمل بقيادة نبيه بري، طريقا مُرافقا لبشير الجميل زعيم الكتائب اللبنانية الذي كان يعدُّ وقتها، حليفا للقوات الإسرائيلية، التي اجتاحت ودمّرت لبنان، هذا بالتوازي مع أحداث هامّة وفارقة، مثل الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) واتفاق الطائف 1989، وغير ذلك من أحداث هامّة.
في الفصلين الثاني والثالث، يناقش ضاهر كيفية إدارة حكومة الحريري للاقتصاد السياسي في لبنان، بالتوازي مع دخول حزب الله كشريك برجوازي شيعي في المنظومة الاقتصادية الجديدة، فلبنان كمثل أغلب الدول العربية، دخلت على خط التحوّل النيوليبرالي الذي يرأسه عالميا، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، عبر مؤسسات عدة أشهرها صندوق النقد والبنك الدوليين، كما جرى تفصيل الخطوط العريضة لحكومة الحريري في وثيقة “أفق 2000: من أجل إعادة الإعمار والتنمية” إذ تدفّق إلى حكومة الحريري ما يقرب من 18 مليار دولار بين عامي 1995 و2007.
وبالرغم من ذلك؛ استمرّت الطائفية في لعب دورها من حيث توزيع الأموال على ديموغرافيات بعينها، حيث تركَّزَ الجزء الأكبر من الاستثمار بنسبة 80% في منطقتي بيروت وجبل لبنان، وهُمّشت بقية المناطق، فضلا عن ضبابية الشفافية من حيث صرف الأموال وحدود الملكيات العامة والخاصة وغير ذلك من ممارسات تزيد من مؤشرات فساد إدارة الثروة.
صعود حسن نصر الله: نقطة تحول
بعد اتفاق الطائف، ثَبَّت حزب الله موقعه السياسي على المستوى المحلي والإقليمي، وهذا بفضل نيّله اعترافا إقليميا، مفاده أنّ الحزب حركة مُقاومة عربية إسلامية غير منزوعة السلاح، بل وعلى المستوى الشعبي كان قد لفت أنظار الكثيرين، لكثافة دعواته ومشروعاته الدعوية والاجتماعية والاقتصادية بين الفقراء والمُهمشين ومتوسطي الدخل. وكان موقفه أنّه “ما زال النظام اللبناني نظام طائفي، ويعزز الاحتلال الإسرائيلي” إلّا أن موقف الحزب حسب ضاهر، قد تغيّر تباعا واتجه ليكون هو ذاته واحدا من البرجوازية الشيعية المُتماهية مع النيوليبرالية والأسس الاقتصادية الجديدة.
وحيال هذا ربط جوزيف سياسات حزب الله نحو الانفتاح الاقتصادي، بتغيير القيادة الإيرانية، إذ أعقبت وفاة الأب الروحي للثورة الإيرانية روح الله الخميني عام 1989، وما تبعه من صعود رفسنجاني كرئيس لإيران وعلي خامنئي كمُرشد أعلى لها، تولى حسن نصر الله أمانة حزب الله بعد اغتيال عباس الموسوي عام 1992، وبهذا قد تناغمت الرؤى الإيرانية مع تبيعتها اللبنانية، نحو مزيدا من الانفتاح والتخلي شيئا فشيئا عن نهج أكثر راديكالية وعدائية تجاه المشروع النيوليبرالي ومن يقف ورائه من دول إقليمية وعالمية.
موقفه من الثورات: المصالح أولًا
أما في الفصلين الرابع والخامس، يعرج ضاهر حول رؤية حزب الله اللبناني حيال المُجتمع اللبناني سواء المُجتمع اللاتنظيمي، أو التنظيمي مُتمثلا في النقابات العمالية اللبنانية، إذ من ناحية الأول، نجح الحزب عبر نشاطاته الاجتماعية والخيرية والتثقيفية والإعلامية في بث أفكاره ودَعواته.[1]
يصف ضاهر ممارسات الحزب الدعوية بالتطبيق النظري لما أطّر إليه الفيلسوف الإيطالي غرامشي، أي “الجمعيات متعددة المستويات والمجموعات التطوعية” والتي من خلالها استطاع الحزب حشد التأييد والحاضنة الاجتماعية بهدف الوقوف ورائه في كافة القرارات التي يأخذها على الصعيد المحلّي والدولي.
منذ بداية الحرب الأهلية وحتى بعد انتهائها، لم يقف الحراك العمالي التنظيمي الذي قاده الاتحاد العمالي اللبناني، عن الاعتصام والتظاهر لإدانة النظام الطائفي الذي يحكم لبنان، المتسبب في غرق الدولة نحو ويلات الحرب والدمار والقتل[2]، فضلا عن غيرها من الاحتجاجات التي قوبلت بالقمع والاعتقال من الأجهزة الأمنية وميليشيات طائفية، ومع استمرار هذا النشاط العمالي في التسعينيات، توحدت الطوائف المتنازعة على إيقاف هذا النشاط الذي يعرقل مجهوداتهم وخططهم لنيل أكبر حصصٍ من الثروة اللبنانية، فاتّبعوا استراتيجية التفكيك والاحتواء لهذا الاتحاد، ويشرح ضاهر كواليس هذه الخطط، التي لم تنفكّ عن وجود النظام السوري ضمن رسم سياسات النظام اللبناني.
في الفصل السادس؛ وهو فصل صغير مقارنة بما سبقه وما تلاه، يشتبك ضاهر مع التنظيم العسكري لحزب الله، فيعرض سياقه التاريخي من حيث النشأة والتطور، فضلا عن ماهية صناعة القرار، مَن يتخذّه، حيث يقتصر القرار العسكري لحزب الله على قلّة من قيادات الحزب، وهم أعضاء مجلس شورى الحزب، يُضاف إلى ذلك اللوجستيات والمناهج التي يتخذها الحزب في تدريب مقاتليه، كذلك ممارسات الحزب المُسلحة سواء داخليا أو خارجيا.
أما في الفصليّن الأخيرين، السابع الثامن، يتعاطى ويفكك جوزيف استراتيجيات وتدخلات ومواقف حزب الله من ثورات الشعوب العربية التي اندلعت نهاية عام 2010 وبدايات عام 2011، في مصر وتونس وسوريا وليبيا واليمن، مركزا على الثورة السورية، حيث شارك الحزب في مساندة النظام السوري عبر إرسال آلاف المُقاتلين، لِمُجابهة صعود الفصائل المتنوعة بداية من تلك المنضوية تحت لواء الجيش الحر، وصولا إلى التنظيمات الإسلامية الأكثر راديكالية، مثل هيئة تحرير الشام وتنظيم الدولة (داعش).
ومن ثم يختم ضاهر كتابه بشرح وتفسير دوافع وتداعيات انتفاضة 17 تشرين 2019 في لبنان، كما يحلل ويرصد كيف تعامل حزب الله مع الانتفاضة، وكيف سعى وبشدة إلى إنهائها عبر الأدوات المُختلفة، خاصة من خلال قمع وترهيب الثوار والمُشاركين فيها، وذلك رغبة في حماية منظومته النيوليبرالية الطائفية التي أسسها منذ بداية التسعينيات وإلى الآن.
المصادر
[1] جمعية الإمداد التي تأسست عام 1987، المعنية بالخدمات الصحية والترفيهية ودعم الأسر الفقيرة وذوي الاحتياجات، كذلك مؤسسة القرض الحسن التي أُسستْ عام 1982 والتي تمنح القروض للأسر الفقيرة دون فوائد، وغيرها الكثير من الجمعيات والمؤسسات واسعة النشاط الاجتماعي والتعليمي والفكري.
[2] بين عامي 1985 و1989، خرج أكثر من 114 احتجاجا لمعارضة الحرب. 1992، إضراب عام، تموز 1995 اضراب عام.
تعليقات علي هذا المقال