في محاضرة للباحث الألماني غاي ستيرن، ذكر جملة لجون ميلتون عن الكتب: “ليست الكتب جمادات لا حياة فيها، بل هي وعاء لقوة حياة كامنة، أريد لها أن تكون فاعلة مثل الروح التي أنجبتها”
تدفعنا الحيوية المجازية للكتب، باعتبارها تمثل هيكل لحياة كاملة، إلى النظر في تاريخ الكتب والمكتبات من ناحية مضادة، وهو تاريخ إبادة الكتب والمكتبات، وفي البحث التاريخي عن أي ظاهرة، نتوقف أمام القرن العشرين، ويصبح هناك خط واضح بين تطور ما قبله وما بعده، باعتباره قرن المفارقات، صعود أيديولوجيات كبرى، أنساق معرفية، قوميات تتفحّش وتتلاشى عند ذروة الكارثة.
الكتب: ذاكرة العالم المدونة
على امتداد تاريخ الكتاب، تجد أنه كان دائمًا عرضة للتلف والتدمير، إما بشكل غير مباشر، من خلال الكوارث الطبيعية دون تدخل بشري، أو بصورة متعمّدة، حيث دمّرت فيضانات فلورنسا حوالي مليوني كتاب ومخطوطة نادرة، وفي سانت بطرسبرج عام 1988، التهمت نيران مدمّرة حوالي 3.6 مليون مخطوطة وكتاب في أكاديمية العلوم بالمدينة.
وتختلف الحوادث السابقة عن التدمير المتعمّد للمكتبات، سواء كانت مكتبات شخصية أو عامة، أو تابعة لهيئات بحثية، فيذكر كتاب “الإسلام والعلم” أن مكتبة الحفيد الأكبر للإمام أحمد بن حنبل، تم إصدار قرار فقهي بحرقها، لأنها احتوت على مؤلفات أرسطو ومجموعة رسائل إخوان الصفا، في نفس السياق؛ سُحب الكندي، أحد فلاسفة العرب، إلى الساحة الخارجية بالمدينة، وأحرقت مكتبته، وتم جلده ستين جلدة وهو شيخ تجاوز الستين من عمره، وفي أواخر القرن السادس عشر، تم إزالة إرث حضارة بلغت ذروتها خلال هذه المرحلة، وهي حضارة تمبكتو في غرب أفريقيا، والتي دمرت جميع مكتباتها، التي كانت تحتوي، على أغلب عيون الأدب العربي آنذاك.
فبين حوادث التدمير، الناتجة عن خلل مناخي، والأخرى المتعمدة، يشير كتاب “إبادة الكتب”[1] إلى أن التدمير المتعمد للكتب، لا يدل على شر محض فقط، بل يدفعنا إلى التفكير حول هذه العمليات الموجهة نحو أهداف أيديولوجية مرسومة ومحددة، تطمح إلى التدمير، بخطط مسوغة بعناية في إطار صراع حربي، أو نبذ منهجي يتصاعد إلى محاولة للإبادة.
عقب الحرب العالمية الثانية، نشأ مصطلح “الإبادة” بعد قتل ستة ملايين يهودي، وتم إدراج إبادة الكتب ضمن ركائز عمليات الإبادة الجماعية والإثنية، لأن الكتب تمثّل اللسان القادر على الحديث، واستعادة ذاكرة هذا العالم، وبالنظر إلى صعود القوميات والتوجهات السياسية إلى ذروتها في القرن العشرين، ثمّة ذروة أخرى ترتفع مع تفحّش الأيديولوجية، وهي ذروة القمع، حفل القرن المنصرم بحربين عالميتين، وإبادات جماعية، وصراعات داخلية، بين دول منقسمة بعد الاتحّاد، ودول تسعى لتجاوز آلام الماضي بعد حروب أهلية، لم تسلم الكتب والمكتبات من تبعات الحروب الكارثية، إذاً كيف قيّدت القوميات والتوجهات السياسية وما أنتجته من حروب لسان العالم، وجعلته معقودًا، غير قادر على النطق، بعد فقد كثير من ذاكرته القديمة؟
ألمانيا الهتلرية: التدمير الثقافي للعدو
عقب الحرب العالمية الأولى، وقع المجتمع الألماني في هوة اغتراب كبيرة، بداية من ضعف قدرة التعايش الجماعي، والشعور بفقدان القيمة المعنوية للإرث الميثولوجي، من آلهة وهوية جرمانية تغرس قدمها في التاريخ، وصولًا لترسب هذه العوامل، كي تخلق شعورا بالفراغ الهوياتي، لأن مفهوم “الجماعة” أصبح عرضة للتهديد، ليس على المستوى المعاصر فحسب، ولكن على مستوى امتداده التاريخي الطويل.
تشير دراسة “سياسات اليأس الثقافي”[2] إلى نشوء جذور النازية في ألمانيا قبل الحرب الأولى، وأن صعود ألمانيا الهتلرية بين الحربين، وانتهاء ذلك التوجه بالحرب العالمية الثانية، ليس أكثر من عملية بلورة التوجه الفكري المؤسسي في ألمانيا منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى صعود هتلر كتطبيق، وتحلل الدراسة أعمال ثلاثة مفكرين وباحثين، اجتمعوا على نبذ الحداثة والتطور الصناعي، ودعوا إلى خلق “مجتمع مثالي ألماني راق”، مع شرعنة تحقيق هذه الأسس المثالية بالعنف عند ضرورة ذلك.
ذلك العداء المسبق والجماعي، يتبلور كتطبيق في كتيّب صغير ضمن دليل عسكري في القوات الألمانية يعرف بـ “عادات الحرب” وينص على أن الحرب لا تقوم على مقاتلي دولة العدو فقط بل يجب أن تسعى لتدمير الموارد المادية والفكرية الكاملة له، لذلك نرى شمولية هتلر تحيط بكل شيء، يشكّل، بالنسبة لألمانيا النازية، أي تهديد للفكرة الواحدة، والقرار الواحد، والتوجه القومي الواحد، ففي الحرب العالمية الأولى، دمرت القوات الألمانية مكتبة تابعة للأساقفة، كانت تضم 230 ألف مجلد، منها 750 مخطوط أسقفي نادر، حوالي ألف كتاب من مجموع الكتب التي أعدمت يعود نشره إلى ما قبل القرن السادس عشر.
على المستوى الداخلي؛ أسس هتلر خلال مرحلة الحشد القومي والعسكري، شكلا واحدا ونهائيا للثقافة المحلية، في الفن والأدب وحتى الدراسات النظرية، يشير كتاب “التاريخ الثقافي للقباحة” إلى معرض أقامته الحكومة الألمانية، يجمع الأعمال الفنية التي لا تخدم روح النقاء الألماني، ولا تعزز من قومية المجتمع الباحث عن استعادة هوية إثنية تقوم على الانتقاء.
نستعيد هنا قاعدة الدليل العسكري أو تدمير الموارد الفكرية للعدو، ونرى أن ألمانيا كانت تحفل كل عدة أيام بمحرقة جماعية للكتب اليهودية، أو أي كتاب لا يتوافق مع التوجه النازي، ليس إعدام سريع للكتب، بل حرقها، وخلال تجمعات جماهيرية كبيرة.
خلال الحرب العالمية الثانية، لم تترك القوات الألمانية شيء في مختلف الأراضي التي غارت عليها جويًا، إلا وساوت بمكتباته الأرض، مثل حي قديم للكتب المستعملة في لندن تم تدميره كاملًا، وخلال الحرب في بولندا، منعت القوات الألمانية نشر أي صحيفة أو كتاب إلا من خلالها، وقامت بحرق وتدمير معظم المكتبات الشخصية والعامة، أمّا المكتبات المركزية، فكانت تستخدم لسد مجاري مياه الأمطار.
بجوار تدمير المكتبات والكتب بالجملة، في فرنسا وبولندا وإنجلترا، كانت المؤسسات الأمنية في ألمانيا مثل الجستابو (البوليس الألماني السري) تشرف على عمل علماء وباحثين يهود، يعملون في معسكرات اعتقال على تصنيف وأرشفة الكتب التي يتم نقلها برا وبحرا إلى ألمانيا، بحيث يتم حرق المؤلفات الكبرى منها، وما يمكن الاستفادة منه يوضع في مخازن للكتب.
في دول أخرى، مثل تشيكوسلوفاكيا، تلقى الجنود الألمان أوامر بحرق أي مكتبة، ومنع تداول أي كتب في التاريخ، الجغرافيا، التراجم والسير، باعتبار هذه المؤلفات تعادي التفسيرات والمزاعم الألمانية، وقد بلغ عدد الكتب المفقودة والمدمرة في تشيكوسلوفاكيا أكثر من مليوني كتاب، أي أكثر من نصف مجموع الكتب في البلد كلها.
حروب البلقان: الكتب في أرض المعركة
شهدت أواخر الثمانينيات مرحلة تراجع القوميات اليسارية، فيما شهد مطلع التسعينيات تفكك الدول الاتحادية ومنها يوغوسلافيا التي كانت تضم عدة دول، هي صربيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك وسلوفينيا ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود، فبعد إعلان كرواتيا والبوسنة استقلالهما، كان ضروريا ظهور نموذج سياسي، يدافع عن عمر أطول لقومية الدولة المتحدة.
البداية كانت من جهة كرواتيا، التي طمحت، على نفس نسق ألمانيا الهتلرية، لكن بصورة أقل عنف، إلى خلق قومية منغلقة على ذاتها، لذلك بدأت “عمليات تطهير” ثقافية، فالكتب التي باللغة الكرواتية يتم تمييزها بعلامات فلكلورية، بينما تم تجميع المؤلفات الصربية “الغيرية” وتخزينها بإهمال في الأقبية ومنع تداولها.
وخلال الحرب بين الصرب والكروات، دمرت القوات الكرواتية مكتبة “أولد بيشوب – The old bishops library” في سلوفينيا، التي كانت منطقة صربية وقتها، وقامت بإخراج جميع كتب المكتبة وحرقها.
على الجانب الصربي؛ والذي كان أكثر كفاءة وسيادة عسكرية، تم استهداف مناطق بعيدة عن النزاع في أحقية الأراضي، فقط لأنها تحتوي على إرث مكتبي وثقافي ضخم، منها مكتبة الدومينيكان، التي تعود نشأتها إلى القرن السادس عشر، وقد تم تدميرها، وأيضًا شبكة المكتبات العامة بكرواتيا، التي ضمّت آلاف الكتب المجمعة من متطوعين في البحث عن الكتب النادرة وتنقيحها ومراجعتها.
في الحرب بين الصرب والبوسنة، هُدمت الأضرحة والمقابر والنصب التذكارية البوسنية، وأقيم مكانها مساحات مواقف سيارات، في بلدة ستولاتش، ضاعت مخطوطات نادرة خلال الهجوم الصربي، تعود إلى القرن السابع عشر، بها وثائق تاريخية ومخطوطات مزخرفة بالذهب، وفي بلدة جنجا كانت هناك مكتبة كبيرة مملوكة لأحد المواطنين، تم تدميرها بما فيها من مائة مخطوطة بلغات تركية وبوسنية وعربية وفارسية.
الزحف الجغرافي خلال المدن البوسنية، من قبل الصرب، كان وحشيا على مستوى الإبادات الجماعية للأشخاص وتدمير كل ما أمكن الاحتفاظ به من ذاكرة ثقافية، ففي مدينة سراييفو، دُمرت أكبر مجموعة مخطوطات إسلامية ويهودية، تم تقديرها بأنها التاريخ الجامع للبوسنة والهرسك منذ خمسة قرون، كما خرجت مدينة سراييفو من الحرب، مثل عجوز منزوع الذاكرة والقدرة على الاشتباك مع الزمن، بعدما فقدت حوالي 400 ألف كتاب، و500 مجلة دورية بكل أعدادها، وتدمير مكتبات كل جامعات العاصمة.
يحفل القرن العشرين بكوارث كثيرة ووحشية إلى مدى بعيد، حتى على المستوى العربي، فخلال حرب صدام حسين على الكويت، تم تدمير المتاحف ومكتبات الجامعات، ونقل الآثار التاريخية والثقافية بمتحف الآثار في الكويت إلى بغداد، وتم تدمير ما تبقى، بينما المكتبات الجامعية والمدرسية التي لم يتم هدمها تحولت إلى ثكنات عسكرية.
خلال كل هذه الحوادث المذكورة، نقف بين ضدين، بوق الأيديولوجية الباحث عن الأحادية، أمام نزعة الإنسانية الباحثة عن التعدد، حيث تظل الكتب، والمكتبات التاريخية، هي الشاهد الأكبر والأعتق على ذاكرة هذا العالم، على تطوره، و نزوعه السريع الحالي تجاه الهاوية، لذلك فإننا خلال عمليات التدمير هذه، نحاول أن نستقطع جزءً جوهريا وأصيلا من ذاكرتنا، ومن وجودنا الجماعي في هذا العالم، والذي يمكن أن نتحول فيه إلى كائنات أقل، حينما فقط نفقد القدرة على التدوين.
المصادر
[1] إبادة الكتب.. تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين، ربيكا نوث.
[2] The Politics of Cultural Despair A Study in the Rise of the Germanic Ideology, Fritz R. Stern.
تعليقات علي هذا المقال